fbpx
المقالح مشوَّشا ومشوِّشاً (1)
المقالح مشوَّشا ومشوِّشاً (1)
امين اليافعي

كتب الأستاذ محمد المقالح بصحيفة «14 أكتوبر» مقالاً تحت عنوان “إرباك وتشويش الحراك الجنوبي”، أشار فيه إلى حالة الإرباك الشديد التي تعيشها عدد من فصائل الحراك بسبب تخليها عن المفهوم الصحيح للقضية الجنوبية.

والمفهوم الصحيح للقضية الجنوبية بحسب الأستاذ المقالح يأتي من «المشروع السياسي» للجنوب، وليس من «المشروع الجغرافي»، زاعماً بأن التخلي عن المشروع السياسي سيكون بمثابة التخلي عن القضية الجنوبية نفسها، أو منحها بعداً مخالفاً لذاكرة وتاريخ «اليمن الديمقراطي»، وبالتالي ذاكرة اليمنيين الجنوبيين..

وإلى نهاية مقاله القصير، لم يفصح الأستاذ المقالح عن الفرق البيّن بين المفهومين، أو يحاول تحديدهما بصورة لا تثير أي التباس عند المتلقي، ربما الشيء الوحيد الذي اكتفى بالقيام به هو اعتبار المشروع السياسي كخاصية فريدة يتميز بها الحزب الاشتراكي وحده، بينما لا تملك فصائل الحراك غير مشروع جغرافي فقير، ثم قام بعد ذلك بالتنظير لمشروع الحزب السياسي بطريقة اجتزائية واختزالية تفتقر إلى الحد الأدنى من الموضوعية والترابط المنطقي.

وتجاوزاً هنا للعب بإيحاءات المصطلحات والتي وُظِفت بصورة غير لائقة؛ ففي مقابل المشروع السياسي الذي يحيل إلى نوع من الرقي والتحضر والحداثة، هناك المشروع الجغرافي الذي لا يخلو في دلالاته من صفة العنصرية والجهوية والوعي الضيق، حاول المقالح من خلال هذا التقسيم التعسفي والمراوغ بين السياسي والجغرافي أن يجعل السياسي كقيمة مجردة ومتعالية تماماً، ومنزّهة عن تأثيرات وتفاعلات الزمان والمكان، وهو تقسيم عبثي، وانتهازي في نفس الوقت، وأنا أسف لاضطراري أن أقول مثل هذا، هدف به إلى تحقير المشاريع التي لا تتفق معه في التوجه، فكل تلك المشاريع ما هي إلا زعيق فارق في الهواء أو حراثة في بحر على حد قوله، بينما حاول أن يصوّر الحزب الاشتراكي، وبطريقة بهلوانية سخيفة ، كمن يقف على مخزن الحقائق المطلقة للجنوب، وإلى أبد الدهر.

العذر الوحيد الملتمس للأستاذ المقالح أنه يعيش في بلد كاليمن، ما زلت تقتات على مخلفات التاريخ، المخلفات بمعناها الحرفي، لأنه ومنذ أرسطو ومروراً بابن خلدون لم يعد هناك فصل بين السياسي والجغرافي، فكل مشروع سياسي يحمل في ذاته بعداً جغرافياً، مكانياً واضحاً، فإذا كان محور أي نشاط سياسي الدولة كما يُقال، فالدولة هي في معنى من المعاني بعداً مكانياً بامتياز. ولقد  كانت الجغرافيا باستمرار مؤثر رئيسي في أحداث التاريخ ، ولطالما أعطت الطبيعة السياسة غاياتها بصورة عفوية كما يقول الفيلسوف الالماني ” كانت “.

ومنذ ما يزيد على القرن ظهر مصطلح “الجغرافيا السياسية” إلى الوجود، وبدا يضخ التصورات التي تدرس تغيّر الأنماط السياسية في حدودها ومقوماتها ومشكلاتها الناجمة عن التفاعل الإنسان ببيئته مما ينعكس علي أوضاعها الداخلية وعلاقتها الخارجية. أما حديثاً، فيمكن القول، آن “الجغرافيا السياسية” قد خرجت من نطاق الأفكار والتصورات العامة لتدخل في بهو المنهج العلمي الذي أخذ يُعيّن مبادئها وقواعدها، وبات هذا العلم يُعرّف بالعلم الذي يبحث في تأثير الجغرافيا على السياسة أي الطريقة التي تؤثر بها المساحة، والتضاريس والمناخ على أحوال الدول والناس ووعيهم السياسي.

وبشكلٍ عام، فإن أي نشاط سياسي لا يُفهم أولاً إلا كنسقٍ تنظيمي عاملٍ في إطار إقليم محدد أو كمساحة تحتمل تجمعاً سياسياً كما يقول عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر، كما أنه لا يُميّز إلا من واقع أنه يجري داخل إقليم ذي حدود معروفة جداً.

ولعل هذا التقسيم اللامنطقي الذي اتبعه الأستاذ المقالح في الفصل بين الجغرافي والسياسي قد أوقعه في تناقض فج، فهو، من جهة، لا يعيب أن يرتبط المشروع السياسي بـ«اليمن» كمحدد جغرافي جهوي، ولا يرى فيه نتيجة لذلك مشروعاً جغرافياً، بينما، من جهة أخرى، يعيب على الآخرين أن تكون لهم محددات جغرافية تتأسس عليها منطلقاتهم السياسية خصوصاً في ظل خواء الفكرة التي نظّرت لوجود هوية دولتية واحدية تمتد بامتداد الأزل ( فالنظام السياسي الحاكم للجمهورية اليمنية تأسس على مفهوم جغرافي، مناطقي ضيق، وليس بناء على المفهوم الوطني الواسع، كذلك الحال بالنسبة للمعارضة السياسية الرسمية في حال مقاربتها مقاربة تحليلية عميقة، فضلاً عن حركات المعارضة غير الرسمية في شمال الشمال وفي الوسط التي تُغلّف مشاريعها السياسية بأبعاد جغرافية محددة وواضحة).

إن الجنوب لا يمكن فهمه كمجرد جغرافيا خالية من أي معنى زمني أو مدلولي، أو كجهة (قارة) مفصولة عن الأحداث والعوارض، فحتى مفهوم «الجهة»؛ والذي هو أبسط مفهوم في الجغرافيا، من هذه الناحية، هو مفهوم تاريخي كما يقول المفكر المغربي البارز عبدالله العروي. أي مفهوم شامل ومتميز، تتضافر وتتكافأ في تحديده الأبعاد المادية والذهنية، الطبيعية والبشرية، الزمانية والمكانية، فهو بالتالي موطن وتراث ومدلول في الوقت نفسه.

والقضية الجنوبية، وكما هو أسمها، تحمل خصوصية مكانية واضحة، وبعداً جغرافياً محدداً، لا يمكن الفكاك منه، ليس فقط على مستوى التشكل التاريخي للقضية الذي جرى على مساحة متعينة، بل على مستوى التداعيات المختلفة للقضية، ومنها الحراك السلمي الذي لم يخرج حضوره هو الآخر عن نطاق الدائرة الجنوبية. وقد فشل الحزب الاشتراكي فشلاً ذريعاً في أن يمنح القضية بعداً وطنياً حسب تعريفه هو للوطني عن طريق إخراج قواعده في المناطق الأخرى لمآزرة القضية بشكلٍ فعالٍ وملموس، مكتفياً بتصدير بيانات هزيلة خاوية في كل مناسبة، فضلاً عن الإشكالية في التصورات التي يضعها للحل، فهو لا يرى أي خصوصية لهذه القضية (الجنوبية)، وبالتالي يمكن معالجتها ضمن تقسيم اليمن إلى عدّة أقاليم، مثلها مثل أي قضية أخرى.

وبناء عليه، فالخلاف القائم بين الحراك الجنوبي والحزب الاشتراكي اليمني (كمؤسسة) لا يمكن فهمه إلا كخلافٍ بين مشروعين سياسيين لكل منهما تصوراته الخاصة فيما يخص الإقليم الذي يتحرك فيه، ويؤطر به مجاله السياسي، وهو خلاف منطقي ومشروع في ظل التعارض الكبير بين المشروعين.

فقد قام مشروع الحزب الاشتراكي، ومنذ تأسيسه، بناء على فرضية صوّرت أن الجنوب شطر من شعب، وأرض لا يمكن أن تكتمل كوطن إلا بشطر آخر كما يقول الأستاذ عيضه العامري في مقال له بعنوان “النقيب وتفكيك الوعي التاريخي” ودون مراعاة لأي خصوصية ثقافية أو سياسية أو اجتماعية. وعلى هذا الأساس، قامت تصورات الحزب الاشتراكي لمشروعه السياسي والوطني، وقد كانت الوحدة بالنسبة لهذا المشروع غاية في ذاتها، ولم تكن وسيلة لتحقيق مآرب أخرى، من هنا، وكما لم يشهد تاريخ العالم سابقة من هذا النوع، جاءت نصوص في الدستور تشير إلى موضوع الوحدة باعتباره مصير محتوم، وقدر لا يمكن الفكاك منه وبأي ثمنٍ كان ( يفترض الأستاذ المقالح أن القضية الجنوبية لم تُخلق إلا بإخراج الحزب الاشتراكي اليمني كممثل لشراكة الجنوب اليمني في السلطة الموحدة، وقد يكون هذا الافتراض في بعض نواحيه صحيح، لكن المشكلة أن الحزب الاشتراكي، لا ينظر للمسألة بهذه الطريقة، فهذه الطريقة في النظر تجعل الحزب في وضعية الممثل لمصالح مجموعة من البشر الذي يقطنون جهة جغرافية معلومة، وهو ما يعني أن التأصيل لموضوع الوحدة كان لا ينبغي أن يكون بالطريقة التي بنى عليها الحزب مشروعه، وهو مشروع يفتقر لأدنى مسئولية أو اهتمام بمصالح من يمثلهم، بل لكان دفع بمناقشة صيغ أخرى للوحدة بدلاً عن هذه الصيغة المدمرة، كقيام كيان إتحادي مثلاً عند التفكير برسم ملامح الوحدة المنشودة. وإلى هذه اللحظة، يعتبر الحزب الاشتراكي أن كل ما فقده بعد حرب 94 هو بضعة مقار ومبانٍ خاصة به، فالوحدة، وبأي مضمون كانت، هي خياره منذ البداية، وهي مسألة حياة أو موت ومهما كانت النتائج المترتبة عليها!)

بينما ينظر الحراك الجنوبي السلمي إلى الجنوب باعتباره هوية حضارية وثقافية واجتماعية وسياسية مكتملة ومستقلة بذاتها، ولا تحتاج إلى من يُكمّلها أو يسد النقص فيها، وهي هوية تشكلت في سياق تاريخي مختلف تماماً، واكتسبت بذلك خصوصيتها وتمايزها وحضورها. أما مشروعه السياسي فيقوم على تمثيل مصالح الشعب الموجود على هذه المساحة من الأرض، وهو الشعب الذي أقصي تماماً عن دولة “الجمهورية اليمنية”، سواء عن طريق الحزب الاشتراكي الذي لم يكن أميناً في تمثيل مصالحه، واحترام خياراته، أو النظام الذي حكم طيلة عقدين من عمر الوحدة.

لهذا، وكما قلنا آنفاً، فالخلاف بين المشروع السياسي للحراك الجنوبي والمشروع السياسي للحزب الاشتراكي هو خلاف مشروع ومنطقي، في ظل تصورات متباينة، ومصالح سياسية متعارضة، علاوة على أن أي خطاب إقليمي، كما يقول الفرنسي بيير بورديو، هو، في النهاية، خطاب أدائي يهدف إلى فرض تعريف جديد للمكان وللحدود باعتبار تعريفها مشروعاً يكرس  معنى محدد  للإقليم وتصنيفه وتعريفه ضد تصنيفات  وتعريفات  سابقة لقوى اجتماعية وسياسية مختلفة.