fbpx
فيلم BBC كيف يتم التستر على الطابع الحقيقي للإرهاب

أمين اليافعي

في الحروب متعددة المستويات والأبعاد، كالحرب في اليمن شديدة التعقيد والالتباس، تستلزم الموضوعية بذل أعلى درجات الاجتهاد لتقديم مقاربة شاملة ووافية لكل هذه الأبعاد والمستويات.
وأي محاولة لإخفاء طبقات هذه الحرب المتعددة، وتشعباتها شديدة الالتواء، وتضييق ملعبها والفاعلين فيه، لحصرها في صورة تبدو على طريقة “لاعبين أثنين وكرة واحدة”، وهي طريقة أو نهج وصفه منظرو إعلام النزاعات بـ”الطريق السُفلي”، إذ يَهدُف عادةً إلى التستر على الطابع الحقيقي للنزاع ومآلاته، والتكتم على صورته الأصلية في الواقع، لتوظيفه في صالح غايات لا أخلاقية، أقرب إلى تصفية حسابات، ولا تهتم بأن تكون جزءاً نزيهاً في توفير معرفة حقيقية وموضوعية بواقع النزاع، وأبعاده المختلفة، وكما يُفترض، باعتبارها أقصر الطُرق للوصول إلى حل حقيقي ودائم للنزاع.
اقتفى معدو الفيلم الوثائقي الأخير الذي بثته قناة البي بي سي البريطانية نهجاً سُفلياً خالصاً في مقاربة مشهد النزاع في اليمن، ومحاولة اختزاله في صورة مشوهة ومحرفة هي أبعد ما تكون عن حقيقته.
ومع إن الفيلم تم الاشتغال عليه قبل بضع سنوات، لكن بثه في هذا الوقيت، ولهذا التوقيت أكثر من هدف بطبيعة الحال، وبعد فترة قصيرة من إعلان دولة الإمارات رسمياً عن تحويل خلية إخوانية إلى المحاكمة بتهمة “إنشاء تنظيم سري آخر بغرض ارتكاب أعمال عنف وإرهاب على أراضي الدولة”… هدف القائمون على الفيلم بهذا التوقيت اختراع مصداقية ما لما ورد فيه من خلال هذا الربط، لإحساسهم العميق بافتقار مضمون الفيلم لأي مصداقية ذاتية، حتى وإن تم بذل جهود تلفيقية خرافية في سبيل هذه الغاية السُفلية، وبالتالي فهم مضطرون إلى إجراء مقامرة اصطياد غير نزيهة في سبيل محاولتهم استعارة مصداقية ما. ودون أن ينتبهوا، في المقابل، بأن التعامل القانوني مع الخلية الإخوانية يدحض تماما كل الرهانات التي أراد منتجو الفيلم اقتناصها من خلال هذا الربط!
الفكرة التي قام عليها الفيلم أقرب إلى فكرة فيلم بوليوودي شديدة الرداءة والانحطاط. قائمة بعشرة أشخاص قيل إنه تم رصد عشرات الملايين من الدولارات لتصفيتهم. كل الذين تم الإعلان عنهم في القائمة ليس بينهم أحدٌ تم اغتياله في بلدٍ مر بوقتٍ عصيبٍ بعد الحرب كانت عمليات الاغتيال فيه أسهل من شربة ماء لدرجة كتب كثيرٌ من الصحفيين المحليين وقتها، ومن باب السخرية المُرّة، بأن “تخزينة قات” – لا تُكلِف عشرة دولار في العادة – بإمكانها استئجار قاتل مضمون في سرعة البرق (الاسم الوحيد الذي تم الزج به عنوة هو اسم القيادي الحراكي أحمد الأدريسي، مع أن كل الدلائل التي عرضوها لا تُشير البتة على علاقة تربط عملية اغتياله بقائمة الاستهداف المزعومة، علاوة على أن المرتزقة أنفسهم المُستأجرين للإدلاء باعترافات، وهم المصدر الأهم الذي قدّمه الفيلم كدليل دامغ، انكروا تماما وجوده ضمن القائمة).
وفي سبيل هذه القائمة المُلفقة اجتهد الفيلم في التستر التام عن المرحلة بالغة الصعوبة التي مر بها جنوب اليمن بعد الحرب مباشرة، والعمليات الإرهابية المروعة كماً وكيفاً وراح ضحيتها بالآلاف، لدرجة وصل الحال بوكالة رويترز إلى نشر تقرير – في تلك الفترة – تحت عنوانٍ دالٍ: “القاعدة تخرج من حرب اليمن أقوى وأغنى” مع خريطة تُظهِر بأن التنظيمات الإرهابية اقتربت من السيطرة على جزء كبير من مناطق الجنوب.
لليمن قصة طويلة مع التنظيمات الإرهابية ابتدأت مع أول صفقة تجارية في عملية إرسال “المجاهدين” إلى أفغانستان، واستمر هذا الاستثمار بعد عودتهم، وتحدثت الكثير من التقارير الدولية عن علاقة رموز كبيرة في رأس السلطة بدعم التنظيمات الإرهابية، وإلى حد اللحظة.
ومعها، تحوّلت البلد إلى وكر للجماعات الإرهابية التي شكّلت في بعض الفترات تهديدات دولية كبيرة وخطيرة، بدءاً بتفجير المدمرة كول، مروراً بنشاطات أنور العولقي، وليس انتهاءً بمحاولة النيجيري عمر الفاروق الإرهابية.
ومع إن اليمن تلقى دعماً سخياً خُصِص لمكافحة الإرهاب، وتحوّل خلاله المجال الجوي اليمني إلى فضاء مفتوح وعلى مدار الساعة للطائرات الأمريكية المسيرة، إلا أن النتائج الفعلية كانت على الدوام مخيبة جدا للآمال.
لقد اتسمت الحرب اليمنية بتعقيدات لا نهاية لها، وانفتحت على أكثر من صراع وجبهة، ومن الطبيعي أن تُصاحبها بعض الأخطاء، وكعادة أي حرب. لكن فيما يتعلق بمكافحة التنظيمات الإرهابية، ومقارنة الإمكانيات الحالية المتوفرة بالإمكانيات السابقة، تبدو جهود القوات الجنوبية المدعومة من دولة الإمارات قد حققت أعظم النتائج في تاريخ هذا البلد في ملف مكافحة هذه التنظيمات، وتجفيف منابعها. ولولا التعقيدات الحالية، التي أدت مثلا إلى تعطيل حملة “سهام الشرق” قبل سنة تقريباً، لكانت كل مناطق جنوب اليمن اليوم خالية تماما من كل الجماعات الإرهابية والمتطرفة!