fbpx
الجنوب في متاهة الشعارات!

كتب : امين اليافعي

(1)

يحتاجُ الجنوبُ إلى عملٍ أكثر جذريّةٍ وجدّيةٍ من هذا الهزل (والهِزال) الجارف الذي يعمه من أقصاه إلى أقصاه حتى أوشك أن يفتك به وبقضيته وبمشروعه.

 

فالاكتفاء المُرتجل، غالباً، بتسويق الجنوب وقضيته ومشروعه في قوالبٍ شعاراتيةٍ، أو بالأحرى متارسٍ من الشعارات المتجهمة، ليس في صالح أيٍّ من أولئك الذين ينشدون دولةً مستقلةً، تكون عاصمتها عدن (الكسوموبوليتية).

 

فالشعارات التي يجري التباهي بصكها وتنميقها وتقديمها كصياغاتٍ محكمةٍ لاختصار مُتون وأبعاد القضية، ثم التباري بين التيارات السياسية والثورية، بعد ذلك، في إطالة الشرح والتفسير للمضامين المحمولة على مصفحات هذه الشعارات، هي، في حقيقةِ الأمرِ، عمليةٌ إفقاريّةٌ مُنظّمةٌ للقضيةِ، وتضخيمٌ مضطربٌ لهذا الإفقار، فيما تبقى الأبعاد والمرتكزات الأكثر عمقاً وجوهرية في منأى عن التداول في مرافعات الجنوبيين.

 

لا أدينُ هنا المنقاشات والمداولات، ومن أي نوعٍ كانت، فالنقاش يقي الجميع من اختناق المشابهة والمطابقة، وعندما يُؤسَّس كثقافةٍ ، يُشكل رأس مالٍ خلاّق وحيويٍّ لأي جماعةٍ، فضلاً عن قيمته المحورية باعتباره ترياقاً فريداً للإنعاش والتجدد الاجتماعي والثقافي عن طريق إبراز الفروقات لتوليد معنىً غير قابلٍ للتحنيط، بل ويكون أكثر إكتمالاً كلما مضى عليه الوقت.

 

ما يشغلني في هذا الصدد هو عمليةُ الإفقار ذاتها، فالشعارات تبقى، في أحسن صورتها، أداةً ذات فعاليةً خارقةً في تحشييد المتخيل الجماعي حول قضية أو معتقد ما، وهي أداةٌ لا مفر منها لكل الدعوات التي يكون أجمل ما فيها، وكل ما فيها، هي شعاراتها؛ فارهةُ التعبير، فارغةُ المضمون والمحتوى. ولا يُخفى أننا في الجنوب ما زلنا متخمون بأكداس هائلة من النفايات المترسبة عن شتى أنواع وصنوف الدعوات والمشاريع التي لم يكن لها أيٌّ وجودٍ خارج شعاراتها البالونية، ومنها مشروع الإلحاق(الوحدة) الكارثي، ولم نتعلم بعد أن الخيول التي أسرجتها الخرافاتُ، تقتل فرسانها على حد تعبير أدونيس. (ولا أعني هنا بالخيول التي تقتل فرسانها اتساقاً مع ما يُروّج له البعض بتفصيله للواقعي واللاواقعي كسلاحٍ أثيرٍ للتعريض ببعض الخيارات، فذلك الزعم هو في حقيقته مجرد شعار مناوئٍ، وأُسرج بحماقةٍ من مغارةٍ خرافيّةٍ أيضا. فلا يُمكن الحديث عن “الواقع” و”الواقعيّة” في ظل الاحتلال، فالاحتلال إلغاء منهجي وجذري ودائم لكل ما هو واقعي، وإزالة الاحتلال هو أول الخطو في مدارج تحقيق “الوقعنة”، إن جاز التعبير. وإنما ما عنيته بالضبط، أن أكثر ما يُهدّد أي مطلبٍ مهما بلغت درجة واقعيته ومشروعيته هو تحويله إلى قواقع من الشعارات، والتعامل مع الآخرين من خلالها)!

 

وعلى خلاف ما يكون عليه الجنوب اليوم الذي بدأ، للمرة الأولى، يفكر وفق منطقٍ سليمٍ؛ في جوهره، يُساء كثيراً توظيفه وتصديره والترويج له، بوصفه كيان له خصوصيته التاريخية والثقافية والاجتماعية، وكذلك له مصالحه وقضاياه الخاصة، فضلاً عن “القضية الجنوبية”، التي هي في أبعادها سواءٌ الآنية والإستراتيجية، الحقوقية والاجتماعية والثقافية، قضية إنسانية كبُرى بمستوى أي قضية شغلت بال العالم خلال المائة عام الماضية (وقد حاولنا أن نُوضِح ذلك من خلال دراستنا “الجنوب:جريمة إبادة جماعية”). لذلك لا أجدهُ بحاجةٍ كبيرةٍ إلى مثل تلك الصياغات الشعاراتيّة، بقدر حاجته الماسة إلى مشروعٍ وطنيًّ يخرجه ـ أخيراً ـ من لجّة التيه التي حُشر فيها عنوةً منذ أمد وأضلته عن طريقه.

 

إن أكثر النتائج سوءاً والتواءً المترتبة عن عملية الإفقار الواسعة لمحتوى وأبعاد القضية هي تلك الصورة التي يبدو عليها المتصدرون للمنافحة عن القضية، خصوصاً في المنصات الخارجية. فقد ولَّد التكريس الدءوب للشعارات التباسين أو مُشكلين بارزين، وبات من الصعب الإفلات منهما: الشعار تحول إلى أشبه بمعتقدٍ سميكٍ، والمُعتقدُ؛ بما هو مسلمةٌ يُفترض به أن يُفصحُ عن نفسه، هو في غنى تامٍ عن البيان والتبيين، وحامله يتحول إلى آلة تُردِّد بطريقةٍ ببغاويّةٍ عدداً محدوداً ومتقشفاً ومكرورةً من المقولات والأفكار، ويظهر، أثناء حواره مع الآخرين، متمترساً في خندقه، ليس لسياق الكلام، لديه، سوى اتجاهٌ وحيدٌ يجبُ أن يُدفع فيه عنوةً، لا يهمه ما يطرحهُ الآخرون من تساؤلات تحاول أن تزعزع يقين مسلمته وجدوى غايته، فكل همّه أن يُفرِغ ما بحوزته الشحيحة من مقولات مصمتة. وفي هذه الحالة، تتحول عناصر ومرتكزات القضية، الأكثر فاعليّة، إلى الهوامش، إن لم تهو إلى الدرك الأسفل في سلّة المهملات.

 

أما المُشكل الثاني فينجمُ عن إفرازات الجو الشعاراتي الصاخب، فكل صاحب وجهة نظرٍ ينبغي عليه، كي يُفسح له حيزاً في المشهد، أن يصوغ شعاراته بعنايةٍ. وقد بات كل صاحب وجهة نظرٍ يُدافع باستماتةٍ قاسيةٍ عن وجهة نظره المختزلة في شعاراتٍ مضغوطة في مقابل وجهات النظر (الشعاراتية) الأخرى، وهذا فيه تستطيح وتجريف للعمل الثوري والسياسي إلى قارعةٍ ليس هناك ما هو أدنى وأسوأ منها. وليس بغريبٍ، والحالة كهذه، أن أصبح الجميع، تصوروا الجميع، قيادات وزعامات ومنظرين وكل ما يلزمه أي أمرٍ من أمور الجنوب والقضية الجنوبية والحراك والثورة..إلخ. وأقول الجميع دون استثناء، وأولهم أنا!

 

(2)

شرعتُ في كتابة هذا الكلام الآنف قُبيل “الهبّة الشعبيّة” مباشرة، وفي بالي أن يكون مقالاً طويلاً ينُاقش قضايا وإشكاليات كثيرة، ثم جاءت الهبّة، وأحداثٌ أخرى لتنتزع المرء من معمل المعاينة للأخطاء والسلبيات لتزج به كجندي مخلصٍ في المعركة، والمشكلة أنها معركةٌ عادلةٌ تماماً، ويصعُب التراجع عنها، هي معركةُ الضعيف الذي لم يجد حيلةً سوى انتحاره ليفتح ثغرةً في الجدران العازلة محلياً وإقليمياً ودوليّاً لعل وعسى أن يعثر الناس ولو على “بَعَرةً!” تدل على عمق مأساته. وهذه هي اللاواقعية عينها التي تحدثنا عنها، أن تُزج في شروطٍ وأوضاعٍ لا قِبل لك بها، وتتحوّل كل أفعالك إلى ردودٍ مقابلةٍ، وتتحوّل أنت إلى مجرد صدى بعيدٍ بعيد، فكيف لك أن تكون واقعي في هذه وضعيّة التغييب هذه؟!

 

لكن مقالٌ رائعٌ لأحد الأعزاء أعادني إلى ما كنتُ قد شرعتُ في كتابته، مقالٌ تقيمي وتشريحي وبمِشْرَط جراحٍ ماهرٍ. فما أمس حاجتنا إلى مثله في مثل هذه اللحظة الفارقة، بل التي تبدو جذريّا فارقةً، ويبدو أن لا أحداً في هذا الجنوب يهتم. وكأن الجميع؛ مكونات وحركات وهيئات وتيارات ولجان ومؤتمرات..إلخ، على موعدٍ ، دنا أجله، مع مائدةٍ من السماء ، ولا هم لهم سوى انتظار هذا الموعد الرفيع.. وإلا ما الذي يُفسِّر، وفي هذه اللحظة بالذات، أن يؤول حال الجميع إلى نفس المآل؟ يأتي على عجلٍ، فينتقي ما شاء له من الرفقة التي يراها صالحة له كفاية، وفوق ذلك يجيدون استماع القول فيتبعونه، بآضله قبل أرشده، ثم يتخذون مكانهم القصي في سماء القضية الفسيح، ويجلسون يثرثرون في ذات الثرثرة، عام وعامين وربما ما هو أكثر، ولا مشكلة في الأمر طالما وهم في انتظار الموعد المقدّس، وانتظار جودو النبي!

 

فشيءٌ مؤسفٌ مؤسفٌ أنه وحتى الآن لا تيار ولا مكون ولا حزب ولا أكاديمي أستطاع أن يُقدّم قراءة أوليّة لقرار مجلس الأمن والمسارات التي يمكن أن تترتب عليه، وتبعات ذلك على الجنوب.. قراءة تستوفي المعايير بحدودها الدنيا. لا ألقي أي لومٍ مُطلقاً على غير المختصين، الجميع قد فعل ما في وِسع جعبة انطباعاته، فأفرغها على عجلٍ، ليقبض على ومضةٍ انطباعيةٍ أخرى. ولكن السؤال المُحرّج لنا جميعاً أين هم المختصون والأكاديميون..إلخ؟ وأين هي المؤسسات والمكونات والأحزاب التي قد ملئوا الدنيا ضجيجاً؟ معقولة أنه حتى هم قد أدمنوا التحضيرات السريعة، هذا شيء مش معقول!.. تعرفون ما أخشاه وأنا أتأمل هذه الحالة المزرية؛ إن أكثر ما أخشاه أن نكون بصدد حالةٍ مشابهةٍ لتلك التي وصفها نيقولاي برديائيف بدقةٍ فائقةٍ في معرض نقده النافذ لها؛ أي أن لا نكون في صدد تنظيم الأفكار والقضاء على الفوضى بل يبدو العكس تماماً من ذلك، أننا بصدد تنظيم الفوضى والقضاء على الأفكار!..وتلك هي الكارثة بعينها، إن كنّا بالفعل نمضي في الطريق إلى ذلك (طبعاً هناك من يُروَّج مؤخراً لمشروع تحت شعار “المشروع العلمي” مستغلاً حالة الارتباك والفوضى، وفضلاً عن لا علاقة لهذا المقال من قريب أو بعيد به أو توجهاته، أخشى أن لا يعدو هو الآخر عن أن يكون مجرد قوقعة شعاراتية فارغة للمزاحمة في البورصة الجنوبيّة حيث تكون الشعارات على الدوام رابحة ومُبجلة)!.

 

وكما يفعل الجميع، لازم نخلص من كل هذا التوهان إلى أن نقي آمال الناس بتلك التعويذة الأثيرة “للجنوبِ شعبٌ يحميه”!