fbpx
قلعة القارة عبقرية الجغرافيا والتاريخ:
الدكتور : محمود السالمي
لا يمكن فهم الدور الذي مثلته القارة في تاريخ يافع إلا بفهم موقعها الجغرافي، فالقارة تمتاز من الناحية الجغرافية بتكوين طبيعي فريد، وبموقع عظيم الأهمية، فكتلتها الصخرية الجبارة التي تقف على هيئة سفينة في قمة جبل القارة، تعد بقايا نادرة لطبقة رسوبية جيرية كانت تغطي المنطقة عندما كانت مغمورة في الأزمنة الجيولوجية القديمة في أعماق البحر، غير أن الاندفاع الذي شهدته مناطق الجهات الغربية والجنوبية من الجزيرة إلى الأعلى، قبل عشرات ملايين السنين، نتيجة لانخفاض مناطق ما عرف بالأخدود الأفريقي العظيم ومنها منطقة البحر الأحمر تسبب بظهور سلاسل جبلية حادة ساهمت مع غيرها من عوامل الطقس والمناخ في تفتيت تلك الطبقات الرسوبية الجيرية والقضاء على معظمها. ولعل من بين العوامل التي ساعدت صخرة القارة الرسوبية الجيرية على الصمود في وجه عوامل التعرية الطبيعة طيلة كل ذلك الزمن الطويل، كبر حجمها من ناحية، وربوضها على قمة جبل غير حادة من ناحية ثانية، وإحاطتها بسلاسل جبلية مرتفعة حمتها من شدة الرياح من ناحية ثالثة.
وأضفي لون صخرة القارة الجيري الفاتح الذي لا يشبهه أي لون بالمنطقة كلها باستثناء صخرة جار الصغيرة والقريبة منها، سحرا وجمالا على شكلها، وجعلها تبدو وكأنها لؤلؤة في حضن جبال يافع، وفضلا عن ذلك فقد منحها تكوينها التضاريسي أهمية كبيرة، فسطحها المستوى وفر لها مساحة كبيرة قابلة للسكن والاستقرار، كما أن ارتفاع طبقاتها وحدة انحدار حوافها، وفر لها حماية طبيعية لا نظير لها، إذ لا يمكن الوصول إلى سطحها إلا من خلال ممر وحيد، تم شقه بجهد بشري مضني.
ولا توجد لدينا صورة واضحة بحكم انعدام المصادر التاريخية عن الدور السياسي والعسكري الذي مثلته قلعة القارة في تاريخ يافع القديم، وعن طبيعة النشاط البشري الذي قام على سطحها، لكن لا ريب في أنها كانت حاضرة بقوة بحكم موقعها الاستراتيجي في أحداث ونشاط ذلك العصر.
وقد أوردت المصادر التاريخية في المراحل اللاحقة إشارات وأن كانت مقتضبة إلى الأهمية التي مثلتها القارة في تلك المراحل لاسيما في عهد خضوع يافع لسيطرة الأئمة القاسميين في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، إذ جعل منها آل القاسم، الذين ورثوا الاهتمام بالحصون والقلاع من الحكم العثماني، مركزا إداريا وعسكريا آخرا لسلطتهم على يافع إلى جانب مركزهم في مسجد النور في منطقة الموسطة، وتضاعفت أهمية القارة بصورة أكبر في نظرهم بعد سيطرتهم على الثورة التي قادها ضدهم الشيخ محمد بن معوضة بن عفيف في نهاية السنة ذاتها 1655م، انطلاقا من المناطق القريبة من القارة، والتي تمكن خلالها من الحاق الهزيمة بقواتهم وطرد واليهم شرف الدين بن المطهر من يافع.
وخوفا من أي اضطرابات أو قلاقل جديدة عمل آل القاسم بعد عودتهم إلى على تدعيم وجودهم العسكري في قلعة القارة، فعمروا فيها مقرا للوالي، وحفروا فيها مخازن للمياه والغلال تحسبا لأي مواجهة أو حصار. وتنقل بينها وبين مسجد النور الواليان اللذان حكما يافع، بعد ثورة أبن عفيف، وهما عبد العلي بن أحمد الأهدل وصلاح بن مسمار الأهنومي. غير أن تلك التجهيزات العسكرية الكبيرة على سطح تلك القلعة المنيعة، لم تكن كافية لحماية سلطة آل القاسم في القارة من غضب القبائل، إذ أسفرت المقاومة التي تزعمها الشيخ معوضة بن محمد بن عفيف في سنة 1681م عن طرد صلاح بن مسمار وجنوده ليس من قلعة القارة فحسب بل ومن يافع كلها.
وأصبحت القارة منذ ذلك التاريخ مقرا لمؤسس السلطنة العفيفية معوضه بن محمد بن عفيف، وقبلة القبائل الجنوبية المتحالفة ضد الوجود القاسمي. وساعدها موقعها الممتاز في وسط مناطق السلطنة في أن تلعب دورا محوريا فعالا، إذ أن جميع المكاتب أو الأقسام القبلية الخمسة التي تكونت منها سلطنة آل عفيف في يافع بني قاصد تنتهي حدودها الجغرافية بصورة أو بأخرى عند أطراف الجبل الذي تقف على قمته قلعة القارة.
وتعاظمت أهمية القارة بعد ذلك لما مثلته من دور سياسي وعسكري واجتماعي تجاوز حدود السلطنة، لاسيما في عهد سلاطين آل عفيف الأوائل، الذين خاضوا حروبا عديدة خارج حدود يافع، والذين كانوا يخرجون بحملاتهم العسكرية من القارة مع أصوات طبل النحاس الشهير. وبصورة عامة فقد تزايدت مع مرور الزمن مباني القارة وقصورها، وتكاثر سكانها، فإلى جانب أسرة آل عفيف التي كانت تتكاثر داخل القارة بصورة سريعة، استقر فيها العديد ممن ارتبطت مهنهم أو وظائفهم الإدارية أو العسكرية بمركز السلطنة.
وشكل المدفع الذي أهداه البريطانيون للسلطان عيدروس في سنة1925م، والذي فككت أجزائه في منطقة الحصن، ونقلت إلى القارة على الجمال، إضافة معنوية جديدة إلى الدور الذي كانت تمثله القارة بين أوساط قبائل يافع، فعلاوة على أنه مثل السلاح الكبير والوحيد في يافع من ذلك النوع، فقد مثل دوي طلقاته التي كانت تنطلق في وقت آذان المغرب في رمضان، وفي بعض المناسبات والمواقف المهمة، تقليدا إضافيا جديدا في تقاليد وعادات المنطقة.
وحظيت القارة رغم بعدها ووعورة الطريق إليها باهتمام حكام عدن في عهد الاحتلال البريطاني، ولعل أهم مظاهر ذلك الاهتمام تمثلت بالزيارة التي قام بها حاكم عدن السر هيكنبوثام في سنة 1951م إلى القارة، والتي حظيت باهتمام كبير، وبردات فعل متباينة في وسط السكان.
ومع أن الأهمية السياسية والإدارية للقارة قد تراجعت بشكل كبير في خمسينيات القرن الماضي لصالح المنطقة الساحلية في السلطنة، التي شهدت في ذلك الوقت نهضة زراعية وعمرانية كبيرة، والتي جذبت إليها اهتمام الكثير من رموز السلطنة في القارة، بما فيهم السلطان عيدروس بن محسن نفسه، غير أن عودة أبنه الأمير محمد إلى القارة في أثناء انتفاضته على البريطانيين في سنة 1957م، أعادة للقارة أهميتها من جديد، وجعلها وجهة الثائرين على الاستعمار البريطاني في الجنوب في يافع كلها.
وعلى الرغم من أن الجبهة القومية التي تولت مقاليد الحكم في البلاد بعد الاستقلال في سنة 1967م، قد جعلت من القارة مركزا إداريا لسلطتها على أجزاء كبيرة من يافع، في نهاية ستينيات القرن الماضي، غير أن وصول طرق السيارات إلى مناطق الوديان المحيطة بالقارة في ذلك الوقت، مع ما كانت تعانيه قلعتها في قمة الجبل من وعورة الطريق وصعوبة التموين، دفع بتلك القيادات إلى نقل مركز السلطة المحلية من القارة إلى وادي رصد، وكان لتلك الخطوة أثرها السلبي الكبير على قلعة القارة وعلى تاريخها، فقد توانى عنها الاهتمام، وهجرها معظم سكانها، وأصبحت قلعتها النصباء وديورها الشامخة مجرد رموزا أثرية، ليس لعبقرية الجغرافيا والتاريخ فحسب بل ولقسوتهما أيضا.