fbpx
قراءة نقدية لمشروع الوحدة في السياق التاريخي – الاجتماعي (3-3).

قراءة نقدية لمشروع الوحدة في السياق التاريخي – الاجتماعي (3-3).

    أمين اليافعي

من أجمل ما قدمه الأستاذ طاهر شمسان في مقاله آنف الذكر ( «في معنى الوحدة») هو عرضه الرائع والعميق للكيفية التي انتقل بها مفهوم الوحدة من مفهوم تم صياغته وتشكيله وبلورته في كَنَف حاضنة سياسية وثقافية ذات منحى وطني، على المستوى النظري، على الأقل (مع تحفظي الشديد على مفهوم «وطني» في سياقٍ كهذا)، إلى مفهوم تم إعادة إنتاجه وفقاً لمنظور ديني عن طريق إجراء «عملية مناقلة» بين مفهوم «الإخوة في الدين» والمفهوم الوطني ممثلاً في الإيمان بالوحدة والأخوة في الوطن، ليشحن هذا الأخير بمعانٍ ودلالات دينية ليست من أصل المفهوم، على حد تعبيره.

ويُرجِع شمسان «عملية المناقلة» بين الديني والوطني كطريقة سعى من خلالها المنتصر في حرب 94م إلى تسويغ الهروب من المعالجة السياسية السلمية لـ «أزمة الوحدة» إلى الحرب.

لكن الأستاذ شمسان، في فقرات لاحقة، تراجع عن هذا التعميم ليحصره فقط فيما سماه «الخطاب الديني المسيس» أو «الخطاب السياسي المقنّع بالدين»، وإن كان حقيقة قد قام لاحقاً، وبصورة غير مباشرة، على تأكيد هذا التعميم مرة أخرى كقوله مثلاً: “يتجلى ذلك في بروز خطاب سياسي وطني مرتبك..فهو من ناحية ينافق الرابطة الدينية ويتحول إلى خطاب وعظي، وهو من ناحية أخرى يصادمها ويخلق لنفسه عداوات هو في غنى عنها..وفي الحالتين لا يكون خطاباً ناضجاً ومستقلاً بذاته ولا يكون مؤهلاً للتعبير الدقيق والسليم عن الرابطة الوطنية”.

وفي اعتقادي أن حالة الارتباك التي حالت دون إنتاج خطاب ناضج ومستقل لا يمكن تفسيرها وقصرها أسبابها بناء على سلوكيات عابرة ومتقلبة (كالمنافقة والمصادمة)، بقدر ما تشير إلى أمر أشمل بكثير يعبر في جوهره عن موقف راسخ ويقيني، ويتمثل هذا الأمر في الرؤية السلطوية الجامعة للشمال السياسي التي بنت قيمها المعيارية ومنظورها الوطني[1] بناء على أن الوحدة قد تحققت وتوطدت وتأكدت شرعيتها كاملة دون نقصان بمجرد إزالة الحدود في عام 1990م، وإن كل ما حدث لاحقاً هو عبارة عن أخطاء، تتفاوت أحجامها تبعاً لزاوية الرائي، ولكنها تبقى أخطاء فردية على أكثر تقدير، بينما يبقى جسد وحدة 90 ومعدنها أصيلاً ومتأنقاً ومنزهاً عن أي عيوب، وتبقى الأصوات المعارضة، أصوات طفولية مراهقة ولا وطنية ولا تاريخية وغيرها من التعبيرات السلطوية.

والسلطة وفقاً لهذا المنظور، لا تتحدد فقط بالنظام القائم وتشكيلاته المختلفة من أجهزة أمنية وعسكرية وقوى اجتماعية وسياسية، حاكمة ومعارضة، ولكنها السلطة الكلية التي يؤكد كل مجتمع من خلالها إرادته في الخلود ويخشى العودة إلى الفوضى، لأنه فيها موته، كما يقول عالم الاجتماع الشهير أميل دوركايم[2]. لذلك، ففي سبيل البقاء والخوف من الاندثار، تسعى السلطة إلى توظيف الوطني والاجتماعي والمقدس بتجليات وأبعاد مباشرة وواعية أو بصورة غير مباشرة ولا واعية، منفصلة أو متداخلة ومتشابكة وتلعب أدواراً متناوبة.

لذلك، فهذه السلطة، ليست فقط متعددة في الفضاء الاجتماعي، كما يقول رولان بارت، بل هي ممتدة في الزمان التاريخي. ومهما حاولنا إبعادها أو دفعها هنا سرعان ما تظهر هنالك؛ وهي لا تزول البتة. قمت ضدها بثورة بغية القضاء عليها، سرعان ما تنبعث وتنبت في حالة جديدة. ومرد هذه المكابدة والظهور في كل مكان هو أن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده[3].

واعتقد أنه وفقاً لهذا المنظور نستطيع أن نفهم عدة أشياء.. نفهم سر غياب تعاطف أهل الشمال مع أهل الجنوب، وتواطؤ مُعظم النُخب مع المنتصر”، على حد تعبير الأستاذ شمسان.. ونفهم لماذا رُفعِت في الثورة دعوات فادحة من قبيل «الثورة أسقطت القضية الجنوبية»؛ لأنه في اللاوعي تم تصوير القضية الجنوبية وعلي عبدالله صالح على أنهما شيئاً واحداً، أي بكونهما يُعرِّضان المجتمع في الشمال إلى الفوضى؟!!.. ونفهم لماذا لم تتم أية إشارة للقضية الجنوبية في الصيغة الأولى من المبادرة الخليجية التي تم تسليمها لمجلس الأمن الدولي كما يقول جمال بن عمر، وهي مبادرة أعدتها أيادي يمنية خالصة منذ الوهلة الأولى، المؤتمر وشركائه والمشترك وحلفائه، وفقاً لاعترافات عديدة من قبل  شخصيات بارزة في المعارضة؟!.. كما نفهم، وهذا ما هو أهم باعتقادي، أنه كيف لمثقف يساري بقامة الأستاذ عبدالباري طاهر يجرد قلمه بعد كل ما جرى في كل هذه السنوات الأليمة والطاحنة والحالكة فيكتب مقال حمل في عنوانه شحنة عقائدية حادة ( انفصاليون «ورب الكعبة»)، بينما طفح مضمونه بالأحكام اللاهوتية القاطعة حتى وكأن هذا المقال عبارة عن «فتوى دينية»، وليس مجرد رأي سياسي!

فكيف يمكننا أن نفهم هذا الخطاب المشحون بالعقائدية من مثقف يساري إذا قمنا بتفسيره وفقاً لحالة «المنافقة والمصادمة»، ولم ننظر إليه بمعزل عن السلطة التي يمثلها وينطوي عليها كما يقول رولان بارت، إذ أن كل خطاب تصنيف، وكل تصنيف ينطوي على نوع من القهر تعني في ذات الوقت التوزيع والإرغام.[4]

 



[1] مفهوم «الوطني» القائم، هو المفهوم الذي تأسس بعد حرب 94، أي المفهوم الوطني بالنسبة للجمهورية العربية اليمنية الذي تشكل على أنقاض ثورة 26 سبتمبر.

[2] جورج بالانديه، الانثروبولوجيا السياسية، ت:علي المصري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ص129.

[3] رولان بارت، درس السيميولوجيا، ت:عبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ص12.

[4] نفس المصدر، ص12.