fbpx
قراءة نقدية لمشروع الوحدة في السياق التاريخي – الاجتماعي (2-3)

قراءة نقدية لمشروع الوحدة في السياق التاريخي – الاجتماعي (2-3)

أمين اليافعي

إن أي محاولة جادة وحريصة لفهم ومعاينة مشروع الوحدة اليوم، والواقع الكارثي الذي بات عليه لا بد أن تنطلق من فهم ومعاينة الفكرة الأساسية التي حملت هذا المشروع منذ البداية، ونقد كل المفاهيم الضبابية والسديمية والمضللة المرافقة له، أو تلك التي تُوظَف باستمرار للهروب من مواجهة الواقع الملموس. لأنه: أولاً، إن دلالة أي فكرة، كما يقول المفكر كاستورياديس في كتابه الهام «تأسيس المجتمع تخلياً»، لا يمكن فهمها بمعزل عن الممارسات التاريخية والاجتماعية التي تتوافق معها، والتي تتغلغل داخلها أو تشكل ستاراً لها. فمن الذي يجرؤ اليوم على الإدعاء بأن المعنى الحقيقي والوحيد للمسيحية هو المعنى الذي يُستعاد من قراءة نقية للأناجيل، وبأن الواقع الاجتماعي والممارسة التاريخية للكنائس وللعالم المسيحي منذ ألفي سنة لا ينطويان على أي شيء جوهري في هذا الخصوص؟ إن الرغبة في البحث عن المعنى النقي في الفكرة الأصلية حصراً، والتغاضي عمّا آلت إليه داخل التاريخ، يشبه الزعم بأن التاريخ الواقعي لا أهمية له وأن حقيقة أي فكرة هي دائماً وحصراً «في الما وراء»[1].

وثانياً، وكما أشرنا في البداية، لا يوجد عقل يفكر بصورة مجردة ومثالية، وغالباً ما تقع التصورات التي يجود بها أي عقل ( باعتباره كأداة لإنتاج الأفكار وكمحتوى، أي بنية من التصورات التي تنتظم وتترسخ في ذهن المرء منذ تفتحه وعيه على الحياة)،  أسيرة لإطار النظام السياسي والثقافي المعاصر له، والنظام الذي عاصر الحركة الوطنية لم يكن نظاماً مثالياً، صحيح كانت هناك شعارات خلابة وآسرة، لكن تحت سطح الممارسة كانت الصراعات المناطقية والطائفية والقبلية على أشدّها، ولم يكن بمقدور أي أحد، مهما بلغت مثاليته، الفكاك منها أو إزالتها من حساباته بفعل واقع يفرض نفسه بقوة على الجميع.

وقد حمل مشروع الوحدة بصورة أو أخرى مضامين هذه الصراعات في طياته، وكانت هذه الصراعات بمثابة جمرات مخفيّة تحت طبقة رقيقة من رماد الشعارات المتأنق والناعم، وسرعان ما تُستدعى عند أبسط اختلاف ينشب حول المضمون الذي ينبغي أن يحمله مشروع الوحدة.

وفي النقاشات والمجادلات التي جرت بين عدد من رموز الحركة الوطنية الذين أمنوا بذات الهدف، أي أن «إعادة» تحقيق الوحدة هو حتمية تاريخية، ولكنهم اختلفوا حول مضمون هذه الوحدة، والكيفية التي ينبغي أن يُحقق بها هذا المضمون، كشفت هذه النقاشات جانباً من خلفية الصراع التاريخي الذي حمله في طياته مشروع الوحدة، ويبدو أنه صار عبئاً ثقيلاً على هذا المشروع لا يستطيع الفكاك منه.

فالدكتور محمد علي الشهاري الذي كان من أبرز منظري الماركسية في الجنوب، وآمن أن قضية الوحدة جزء لا يتجزأ من قضية الثورة وإن تحقيقها هي مهمة كل الوطنيين الشرفاء، بينما اختلف مع بعض الرفاق حول المضمون الذي ينبغي أن يمُنح لها، ونوعية الأطراف التي يجب أن يوكل إليها مهمة تحقيقها في كلا الجانبين، أي الأطراف والحركات الثورية. لكن وجهة النظر هذه لم تُعجب البعض ممن كان يدعو إلى إقامة وحدة تحت أي مضمون، ودون أية شروط، لذلك لم يسلم الشهاري من النقد اللاذع، وتذكيره بأصوله المذهبية، فيكتب د.عمر عبد العزيز وقتما كان مدير تحرير صحيفة «14 أكتوبر» معرّضاً بآرائه حتى يصل إلى القول بأن الشهاري لديه “موهبة التنقل العارم من قعر المذهبية إلى ضفاف الماركسية، ومن سيرة الإمام يحيى حميد الدين إلى لينين” في إشارة، كما يذكر الشهاري نفسه، إلى أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة «كارل ماركس» بألمانيا الشرقية عام 1964م والتي جاءت تحت عنوان «النضال من أجل إقامة دولة يمانية موحدة مستقلة منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى عام 1934م»، وتم فيها التطرق إلى جهود الإمام يحيى في السعي لتحقيق الوحدة. فيرد الشهاري على الدكتور عمر عبد العزيز بالتالي: ” فهو (يقصد الدكتور عمر) بدل أن يعترف لي بسبقي في مضمار تبني الفكر الماركسي يوم كان هو ما يزال في «القماط»، يتحدث عني بعقلية من لم يتخلصوا بعد من الرواسب المذهبية والطائفية والأسرية”[2]..

وأرجو أن لا يظن البعض أن الغرض من إيراد أمثلة عن طبيعة النقاشات التي تمت حول مضمون مشروع الوحدة، والاختلاف حول الكيفية التي يُحقق بها، التذكير بالماضي السيئ، أو التعريض بالبعض، بقدر ما يهدف حقيقةً إلى محاولة صادقة لفهم السياق الذي تشكل فيه مشروع الوحدة، والأبعاد التي تنازعته، والمضامين الذي تطور بها في ثنايا سياق تاريخي معين عكس بالضرورة كل قضاياه وأحداثه ومشاكله على هذه المضامين، خصوصاً وأن هذه النقاشات تمت في فترة قريبة جداً من 22 مايو 1990م.

كما أنه من غير الموضوعية قصر المفاهيم والأفكار والمشاريع فقط في معناها المصرّح به، ناصع البياض، ودون ردّها إلى مجمل الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة لها في حقبة ما والتي تكون بمثابة الميدان الذي تتجسد فيه دلالاتها الحقيقية. فما من شيء تاريخي يكون على الإطلاق ناجزاً ومغلقاً في ذاته، وما من شيء تاريخي يمكن أن يُقدم لنا معنى يكون مطبوعاً عليه . فكل المفاهيم والأفكار والمشاريع التي ظهرت منذ بداية التاريخ، سواء كانت حداثية أم تقليدية، كانت تجسيد حي لمصالح قوى اجتماعية وسياسية معينة؛ وكل الصراع الاجتماعي والسياسي، كما يقرر الفرنسي ميشيل بيشو، يمكن أن يتلخص في الصراع من اجل تعريف كلمة ضد تعريف آخر.

وينبغي علينا الإقرار والاعتراف بأن أي محاولة تتعالى عن رؤية طبيعة الصراع بين القوى الاجتماعية على مضمون ودلالات المفاهيم المجسدة لمصالح هذه القوى تحت وهم التجلي المثالي والوطني النقي والسامي، لن تكون فقط محاولة فاشلة في إدراك حقيقة الواقع وتعقيداته المتشابكة، ولكنها قد تكون أسهل وسيلة لتفجير هذا الواقع بما تحمله في طياتها من نزعة اقصائية حادة ومتعالية تسعى إلى تقييم الواقع وتصنيفه وإعادة تركيبه وفقاً لرؤية فوقية سلطوية لا تنظر بموضوعية إلى حقيقة المشكلات والقضايا وكيفية سبُل حلها بما يضمن التطور والتقدم مع الحفاظ على تماسك المجتمع في نفس الوقت، فالمجتمع يجد نفسه وهو يُساق إلى معيار أو غاية قائمة كلها في موقع آخر، وبين تاريخ يُعرض له فجأة كخروج عن هذا المعيار أو هذه الغاية، وأقرب مثال على ذلك ما فعله النظام الحاكم في دولة الجنوب قبل العام 1990م (وهذه الفترة بحاجة إلى قراءة نقدية ومنهجية موسعة)

وفي هذا السياق، فهم البردوني المضمون الذي أُعطي لمشروع وحدة عام 1990م، وصرح منذ وقت مبكر جداً، بل وحتى قبل قيامها، بأن هذا المشروع بمضمونه الحقيقي كان مؤامرة، ولذلك فالوحدة كانت مأساة منذ اليوم الثاني لإعلانها، وأنها «منفصلة» مذ يوم قامت، لأنها قامت على نية مبيتة لدى كل طرف لإقصاء الطرف الآخر. وليس لديّ هنا ذرة شك بأن البردوني كانت لديه أية مشكلة مع مسألة قيام الوحدة وفقاً لأسس سليمة وعلمية ووطنية مُخلصة يكون هدفها «الكل مع الكل» وليس «الكل ضد الكل». فالنظامان اللذان فشلا فشلاً ذريعاً في استيعاب كل الطيف الوطني في الدولتين، ومارسا عمليات إقصائية حادة حيال أي وجهة نظر مخالفة، يستحيل أن يمهدا لمشروع وحدوي وطني سليم!

إجمالاً لكل ما قلناه،  يمكن تلخيص القول بأن نجاح أي مشروع لقيام وحدة نموذجية مرتبط ارتباط وثيق بواقعٍ نموذجي للنظام السياسي والاجتماعي والثقافي لمرحلة ميلاد المشروع كفكرة أولاً، وثانياً لمرحلة تبلوره وصياغته وقيامه على أرض الواقع والذي يجب أن تبشر به مجموعة من الشروط والعوامل كالاستقرار والسلام والتضامن والوئام، العوامل التي توفر بيئة صحية وصالحة، ولا يمكن، في أي حال من الأحوال، أن تقوم وحدة على أساس سليم، وتتمكن من توطيد أركانها في ظل الصراع والاحتراب والانقسام والتشظي (الاتحاد الأوروبي تعكس النموذج الأول، ودول العالم الثالث التي تزداد تشظياً تعكس النموذج الثاني، ولا يمكن الاستدلال بنماذج استثنائية، كتجربة جنوب أفريقيا، فالاستثناء يظل خارج القاعدة ومرتبط بشروطه وعوامله الذاتية).

لذلك فإن الواقع الكارثي الذي آل إليه مشروع الوحدة هو ابن شرعي للسياق التاريخي الذي ولد وتشكل فيه، وليس مجرد ابن ضال لمجموعة من الأفراد حتى وإن كانوا من طينة أمراء حرب 94م والذين هم أيضاً أبناء ونتاج واقعي لهذا السياق التاريخي، شئنا أم أبينا، وليسوا طارئين عليه على كل حال، ربما كان الوضع أقل تشوهاً بعدم وجود هؤلاء، لكنه لن يقلل كثيراً من كارثيته، بل وجود هؤلاء؛ والذي تمخض ضمن عملية انتقاء تاريخية طويلة، يحمل في جزء منه مفهوماً مضاداً للفكرة التي تزعم بوجود أصل مثالي ونقي ولا ترى بالتطور التاريخي للأفكار والممارسات سوى كومة من النفايات تخفي تحت جسدها معدنها المنزه من العيوب!



[1] كورنيليوس كاستورياديس، تأسيس المجتمع تخيلياً، ت:ماهر الشريف، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، ص 16.

[2] د.محمد علي الشهاري، جدل حول الثورة والوحدة اليمنية، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص132-133.