fbpx
“فك الارتباط” حق جنوبي في مبادرة شمالية

هدى العطاس

 أثار ما سماه الناشط اليمني علي البخيتي “المبادرة لحل القضية الجنوبية عبر خيار فك الارتباط بين الشمال والجنوب، لإنهاء الأزمة اليمنية”، ضجة ولغطاً إن دلّا على شيء، فعلى أن القضية الجنوبية هي محور كل الصراعات والأزمات والحروب ولبّها منذ عام 1994م في البقعة الجغرافية المسماة “الجمهورية اليمنية” الناشئة عن اتفاق بين نظامي حكم دمجا بلدين مستقلين، وباقي القصة معروفة…

في غبار الضجيج واللغط توجهت السهام ضد البخيتي وأشارت الأصابع اليه. لكن نحن كجنوبيين دعونا من “ناقل الكفر”، على الرغم من أن ما جاء به البخيتي هذه المرة ليس الكفر، بل جاء، على غير عادته، بـ”الإيمان” عينه، وباح بالحقيقة، مهما جهل الكافرون أو دلّس المنافقون.

لذلك دعونا أولا نفكّكُ ما سمّاه البخيتي مبادرة، على وجهتين: الوجهة الأولى سوء الظن كمدخل لحسن الفطن، التي غابت عن الجنوبيين وهم يوقعون على أغبى اتفاق بين بلدين، إلا وهو اتفاق “الوحدة” التي جردت الجنوبيين من وطنهم وهويتهم وأرضهم وثرواتهم، من انسانيتهم وكرامتهم. ولم يتوانَ عقد الوحدة المشؤوم عن إبادتهم بشن الحروب عليهم. إذن علينا أن نتلبث للفطنة ولو جاءت على شكل سوء ظن. فالجروح الغائرة في جسد الجنوب لم تتحول إلى ندوب بعد، بل لازالت صدوعاً مفتوحة تنز ألما ودماء وآلاف الشهداء. غير أن الفطنة لا تعني عدم التعاطي مع المبادرة ومناقشتها بموضوعية، بل تعني تكييفها لمصلحة هدفنا الذي تضمنه فحواها، وهي الوجهة الثانية في تفكيك طرح المبادرة.

استبطنت مبادرة البخيتي في طياتها هدفين أساسيين، وإن أراد لهما صاحبهما الاستبطان. لكن الدسيسة شاءت أن تفصح عن نفسها وأبت إلا أن توارب الباب لنراها، فظهرت في السجالات والردود والنعيق الذي دار بين صاحب المبادرة وردّاحي شعار: “الوحدة أو الموت …للجنوبيين”. الهدف الأول: لربما تقصد البخيتي دغدغة مشاعر الجنوبيين والعزف على وتر عواطفهم التي خبرها الشماليون واثبتتها التجربة بأنها مشاعر هشة سريعة التأثّر والانقياد والوقوع في مرونة الطيبة حدّ التقاط الطعوم القاتلة. ومن ثم تصديق المقولات المسمومة المموّهة بالعسل. وليس من دليل عاطفي أكثر وضوحاً من ما يشهده الجنوب اليوم من سيرٍ غير محسوب ومن دون ضمانات، بل بخطوات استنزافية، خلف  “الشرعية الوحدوية” الملغومة بتركة النظام “العفّاشي”، وتقديم أغلى رجال الجنوب ضحايا على مذبحها في الخطوط الأمامية لجبهات القتال، ويا للمفارقة: يدفع ذلك النظام بالجنوبيين للقتال في المناطق الشمالية من أجل تحقيق وهمه برفع علم الوحدة الممزق على قمة (مران) في صعدة. هذا فيما يثير التساؤل والشك والريبة أن الجيوش التي قوامها شماليون والتابعة لهذه “الشرعية”، يتمركزون في المناطق الشمالية ويراوحون في أماكنهم لا يغادرونها، من دون أن يحرروا (تبّة) واحدة من مناطق تمركزهم، على  الرغم من الملايين والدعم والعتاد التي صرفتها ولا زالت تصرفها دول التحالف لقيادات ألويتهم العسكرية.

يظن البخيتي الذي رمى بعظمته تلك التي نعلم مسبقا أنها لا تكتنف أي لحم، بل هي ممصوصة ومسموم عظمها ذاك، يظن ويذهب بعيداً خلف ظنه بأن الجنوبيين ستتناهبهم المشاعر الوحدوية الفيّاضة ويستسلمون للغفلة مجددا. لكنه في غفلة منه أظهر ما يبطنه من استخفاف بعقول الجنوبيين حينما زلت حذاقته، فقال في سياق رده على الناعقة الرويشان: “هل تعرف أن من يقول للجنوبيين أنتم أحرار في تقرير مصيركم، ولكم كل الحق في فك الارتباط أو تصحيح مسار الوحدة، (إنما) يدفعهم للوحدة، يا غبي، لأنه بذلك يجعلهم يفكرون في الوحدة بعقل ومنطق”. انتهى كلام البخيتي الذي  يدل على سريرته، وعلى أن أحد أهدافه من المبادرة ليس سوى اللعب على مشاعر الجنوبيين وتفكيرهم وغفلتهم. ولكنه تناسى هو وأشباهه أن الجنوبيين لا يملكون، بعد كل ما عانوه، حتى ترف الغفلة. فهم الذين أصبحوا غاطسين في الدماء التي خلّفتها حروبكم الإجرامية عليهم أكثر من مره. فدماء جريمة حرب 1994 لم تجف عن جسد الجنوب بعد، وإذ بالشمال يكرر جريمته ضدهم مجددا، فتتنادى جحافله في 2015م لقتلهم من دون وازع، بل ومازال يتوعدهم ويجهر بقتلهم. وما استنفار الوزير السابق للثقافة، الشمالي خالد الرويشان، رداً على المبادرة (البخيتية) ذاتها، إلا دليل على أنه وزير ثقافة القتل (العفاشية)، وهو المصنف عندهم كأحد أهم مثقفيهم. فقد استفزته المبادرة فانبري رافعا الشعار الذي درج نظام الشمال واساطينه واحزابه على رفعه: “الوحدة أو الموت”، أي قتل الجنوبيين من أجل فرض “الوحدة”. وما الرويشان إلا لسان حال قطعان كبيرة تلقفت تهديده ورددت خلفه ما توعد به. وعلى المنوال نفسه من الاستخفاف بعقول الجنوبيين وعواطفهم، وفي سياق ما جبلوا عليه من مخاتلة وتلوّن، وبسبب ردة فعل الجنوبيين المستهجنة، وإيحاء البخيتي لمستوزر الثقافة (العفاشي) هذا باتخاذ الرياء خطاباً، ويا للمهزلة؛ سارع الرويشان داعية القتل إلى محو ما كتبه في منشوره من دعوة للقتل، ليكتب على الرقعة ذاتها للجنوبيين كلاماً رومنسياً غزلياً غبياً ومبتذلاً يشبّههم فيه بالفل والكادي والياسمين. وما كنت لأرى في غزله ذاك سوى أفعى مقزّزة تتلوى بين الشجيرات العطرية التي ذكرها، متحيّنة الفرصة لنفث سمها المأفون.

أما الهدف الثاني الذي تدعو الفطنة لاكتناهه فمبتغاه التحرش بالجشع الشمالي للسيطرة على الجنوب، وبالنهم السلطوي الفوقي وما ترسب من وهم لديهم بتبعة الجنوب كفرع لهم لا يحق له أن يكون كيانا مستقلا، واللعب على عواطف جماهير شعب الشمال بمقدس (الوحدة) لتحريضهم ضد الجنوب وشعبه الرافض لها، وتحشيدهم للموت ذوداً عنها، ولو تطلّب الحفاظ على تلك الوحدة الموهومة إبادة اشقائهم الجنوبيين. الوحدة التي لم يجنِ عموم الشماليين منها إلا الفقر والجوع والجهل وإهدار الكرامة والعبودية والسوق إلى الحرب والموت وصنوف المعاناة التي لم تنهها الوحدة المشؤومة، بل لاحقتهم من حقب سابقة، وكرّسها وزادها العهد الوحدوي. ولكن إذ تستر البخيتي بمبادرته لتحشيد أبناء الشمال ضد الجنوب وشعبه، نقول له رويدك! فالحقيقة المؤسفة تصعد شاهرة بشاعتها: أبناء الشمال لا يحتاجون لمبادرتك ليحتشدوا. فهم كالمنوّمين احتشدوا من دون دعوتك قطعانا وجحافل ضد الجنوب وأوغلوا في أبنائه قتلا في عام 94 م، وشاركوا في التنكيل بهم، فعلا أو صمتا، منذ ذلك التاريخ، ولم يتوانوا عن الاحتشاد مجددا في العام 2015م، انصياعا خلف دعوة طواغيتهم ومجرمي نظامهم باقتحام الجنوب وإبادة أهله. وهذا ما يدفعني الى القول حقيقة مؤسفة وصادمة: لأننا مازلنا نتمنى أن نكون شعبين شقيقين متعاونين ومتحابّين يعضد واحدهما الآخر في دولتين مستقلتين، على أن نكون أعداء في دولة واحدة.

ولكن، بعد التحرز وإيقاظ الفطنة التي يوجبها سوء الظن، دعونا نناقش المبادرة بأريحية منزّهة عن الظنون، بموضوعية قابلة للأخذ والرد. فليكن للبخيتي وأمثاله ما بطن من هدف، ولنشتغل على ما ظهره علناً منه، ولنقل مجازا لعلها دعوة صادقة، ويقظة منتظرة من أحد الناشطين البارزين وأحد (بندولات ) المطبخ الإعلامي بين الأطراف المتصارعة (الشرعية الرئاسية الوحدوية) و(الشرعية الانقلابية الوحدوية). وكما نرى هذه الأطراف تلتقي معا وتتقاطع خطوطها في تكريس كل منها شرعيته وفي تأكيد كل منها وحدويته، فأن أهمية التعاطي مع هذه المبادرة يكمن في أن واضعها، البخيتي أو من يقف خلفه وأمثاله إن وجدوا، يأتي من عمق هذا اللقاء بين الأطراف التي تبدو متصارعة. وتتأتى أهمية البخيتي من قدرته على التنقل كـ(بندول) ساعة بينهما. والمبادرة التي تقدم بها تضمنت مطلبا بل حقا جنوبيا هو  (فك الارتباط) كمدخل لحل الصراع في اليمن. هذا المطلب الذي اجترحه الجنوبيون حراكاً دام سنوات، وأشعلوا ثورة لأجله، وقدموا التضحيات وألوف الشهداء لتحقيقه، بل انخرطوا للقتال في 2015م مدفوعين بالإيمان به، إنما غايتهم منه الدفاع عن الجنوب وصد جيوش الشمال، جيوش صالح والحوثيين، التي أرادت اقتحام أرض الجنوب واحتلالها وقتل شعبها بحجة مطارد الرئيس هادي رئيسهم الذي انتخبوه هم ولم يشارك الجنوب في انتخابه.

فالجنوبيون لم يقاتلوا ومن المستحيل أن يقاتلوا من أجل حماية الشرعية الوحدوية، ولا من أجل حماية جنرال حرب 1994م علي محسن الأحمر، وحميد الأحمر وأحزاب صنعاء وكل اساطينها الذين تلفعوا بالشرعية وهربوا معها ضدا على حليفهم السابق صالح. هذه حقيقة يدركها الجميع بدءا من الشرعية ذاتها، مرورا بالتحالف وانتهاء بالمجتمع الدولي، وأن حاول البعض التدليس والتزييف وتزوير الواقع. والبطل الشهيد عمر الصبيحي وزملاؤه المغاوير دليلنا على ما نذهب اليه. فالصبيحي كان نائبا للمجلس الأعلى للثورة الجنوبية السلمية في عدن، وللمجلس الأعلى للحراك الجنوبي الذي هدفه الرئيسي الوحيد المتمثل في شعار “تحرير الجنوب وبناء دولته الجنوبية المستقلة كاملة السيادة”. ولم يحدث أن أعلن أي من الشهداء ولا من الأحياء (الحراكييون) حتى المنضوين منهم في السلطة (الشرعية) تخليه عن هذا (الشعار) الهدف، أو نفي إيمانه به، بل زاد عدد الجنوبيين المؤمنين بالاستقلال بعد الحرب الاخيرة حتى ممن لم يكن قبلا مؤمناً به.

عطفا على ما سبق وعودة لمبادرة البخيتي التي تضمنت هذا الهدف السامي للجنوبيين كحل للصراع في اليمن، فأن الحذاقة والدينامية السياسية توجب علينا التعاطي مع المبادرة بإيجابية، وتلقفها كنواة لحسن النوايا، وكيقظة مستجدة من أشقائنا في الشمال، لتصحيح خارطة تعاطيهم مع قضية شعب الجنوب، وتطرح نفساً جديدا للحل يمكن أن يبنى عليه تشكيل ما، وتنسيق ممنهج بين عدد من الأشخاص أو الكتل الجنوبية والشمالية المؤمنين بهذا الحل، وتحويله الى مسار واقعي وخطة عمل. وإن كانت الحصافة من جانب آخر، وكذلك التجارب المرة التي عهدناها للمصداقية المنخفضة بل المنعدمة للسياسيين الشماليين، تفرض علينا كجنوبيين أخذ الحيطة والحذر والتحلي باليقظة. لكن من دون النكوص عن التعاطي مع هذا الطرح القادم الينا منهم، أو المضي في الرهاب من الإقدام على تجربة النقاش الموضوعي معهم، والخوض في حوار جدي، وتنسيق سياسي ندّي بيننا وبين الداعين منهم، لعلهم صادقون.

 دعونا نحاول، والأيام كفيلة بكشف الزيف إن وجد في طيات دعواهم. دعونا نعضد هذا المسار الآمن بيننا وبينهم بعيدا عن الاحتراب. فهمنا الأول إيفاء الحق الجنوبي، وهمنا جميعا إرساء السلام والتعايش جنوبا وشمالا.