fbpx
الراشد وخطاب اللحظة الفائتة

هدى العطاس

بينما لم يخفت بعد صدى أصوات مئات آلاف الجنوبيين الذين أحتشدوا يوم 4 مايو في عدن، آتين من كل مناطق الجنوب تأكيدا كما أعلنوا مواصلتهم النضال من اجل قضيتهم التي تتمثل في: (حقهم العادل في السيادة على ارضهم، بناء دولتهم المستقلة، الاحتجاج على فساد الشرعية وعسف قراراتها الأخيرة بعزل رموز مقاومتهم الجنوبية من مناصبهم التنفيذية)، طلع عليهم الصحافي السعودي الشهير عبد الرحمن الراشد بمقال شبه معتاد، ليس فيه من جديد عما كتبه سابقا حول المطلب العادل لشعب للشعب الجنوبي، سوى سوقه مسوغات اكثر هشاشة، وإن بنبرة أقل حدة.

السؤال – المفتتح قبل الاسهاب: هل مازال الراشد يمثل أحد أهم أساطين المطبخ الأعلامي السعودي؟ إن لم يزل فهذا أمر يثير القلق ويحتم إسداء النصح لهذا المطبخ الشديد الأهمية على كل مستويات خارطة المشهد العربي، وعلى المستوى اليمني خصوصا. فالمملكة تقود تحالفا عربيا لصد مشاريع الاطماع الايرانية، وقطع أيدي أمتداداتها الميليشاوية في اليمن عامة والجنوب تحديدا لما لجغرافيته من أهمية استراتيجية. ومن جانب اآخر لا يخفى على متابع إندفاع شعب الجنوب منخرطا في المقاومة والحرب تحت قيادة التحالف العربي. دون شرط سوى عزيز ثقته –حسب تصريح قياداته- التي وضعها بين أيدي التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة. ليشكل معهم قوة مشتركة أمام الغطرسة الحوثية وبقايا فلول أمنيات الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح المدفوعين والمسنودتين بالاطماع الايرانية في سباق السيطرة الاقليمية.

إذا افترضنا أن الراشد مازال يمثل أحد مهندسي مطبخ الاعلام السعودي الرسمي، مع ظني بالنفي، وذلك لحيثيات خطابه الذي يؤشر إلى عقم هكذا مطبخ لا يليق بمكانة المملكة وتخلفه عن راهنية اللحظة وصممه عن إفصاحات الواقع السياسي الحاضر، بل شلله الحركي بالوقوف المتخشب عند افرازات لحظة فارقة تشكلت في عام 2011م. غير إن الواقع السياسي والمشهدي في اليمن منذ ذلك الحين إلى اليوم أنفرطت سبحته وكرت حباتها اشلاء لا تستطيع أن تحيط بها او تلملمها مبادرة وضعت قبل ثماني سنوات في سياق ظروف وشروط وملابسات أختلفت كليا وقائعها اليوم.

بصلف عتيد ينظّر الراشدة عن حلول للقضية الجنوبية، من دون امتلاكه قاعدة بيانات حولها، منذ اعلان الوحدة المشئومة بين دولتين وكيانين سياسيين مستقلين وسياديين. ويبدو أنه لا يفقه أو غير متابع أرهاصات وتطورات موقف شعب الجنوب وتصاعد نضاله منذ مظاهراته في التسعينات ثم إنطلاق حراكه الشعبي المطالب بالاستقلال في 2007م، مرورا بمشهدية ثورة 2011م التي ساندها مشروطا بتحقيقها مطلبه العادل في فك الارتباط من وحدة سياسية أنتهت بعد حرب جائرة 94م بضمه وإلحاقه قسرا، واحتلال أرضه ونهب ثرواته وتغيير هويته وتشريد أهله والتنكيل بهم إلى آخر مصفوفات الجور والظلم! ولا ننس موقف الجنوب الحيادي من المبادرة الخليجية وعدم مشاركته في الحوار الوطني، بل أن المجموعة الجنوبية الصغيرة التي شاركت فيه أعلنت موقفا قطعيا ضديا من مخرجاته. وهكذا تبلور المشهد الجنوبي وصولا إلى اللحظة الراهنة، لحظة الحرب الجائرة التي تمثلت في زحف جحافل الحوثي – صالح (مغول اليمن) على الجنوب وأرضه وعاصمته عدن. وذلك في مقابل لحظة شاهقة، تمثلت في اعلان تحالف عربي بقيادة المملكة والامارات، ولحظة الشعب الجنوبي الذي قال كلمته الفصل في مقاومة باسلة ورأيناه مقدما ومازال تضحيات جسيمة قوامها الاف الشهداء والجرحى وأرضه المحروقة وشعبه المنكوب الذي قدم كذلك صورة للصمود قل نظيرها ووقف مع التحالف حتى تحقيق النصر وتحرير عدن وبقية المناطق الجنوبية.

عطفا على لحظة النصر الفارقة تلك التي صنعتها المقاومة الجنوبية بدعم التحالف وقيادته، فأنه من عميق النظر في استطرادات المشهد تذكر موقف الجنوبيين حينما بدأت تتصاعد حدة الغطرسة والصلف الحوثي بما يؤشر لمآلات ما ستصل اليه الأمور في اليمن. وهذا معطوف على(مغولية) المليشيات الحوثية وهي تسقط المدن الشمالية تباعا. يومها كان الجنوبيون منغمسين في النضال من اجل مطلبهم، وإن كان إنغماسهم لم يمنعهم من مراقبة المشهد المتفاقم هناك، واستشعار مخاطره. ولكن كما صرحوا كمن يراقب خطرا تدور رحاه في دولة أخرى، أو بوصف آخر في أرض مجاورة. من دون ان يكون ذلك الأمر استهانة او غفلة أو لا مبالاة. ولكن ما خلفته سني الاحتلال والجور والظلم الذي مورس عليهم خلق في دواخلهم قطيعة عاطفية نحو ما يجري على الضفة المجاورة من جغرافيا ما يسمى “الجمهورية اليمنية”. وإلى ذلك فأنهم كانوا يعبرون عن موقف شعبي سياسي حذر وممنهج أنتهجته قوى الثورة الجنوبية (الحراك الجنوبي) يتقصد النأي بالجنوب ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وعدم إدغام مصيره أو ربطه مجددا بمصير الشمال أو ما كان يسمى سابقا (الجمهورية العربية اليمنية).

الأكيد أن الراشد لطالما كتب ضد الحق الجنوبي بخطاب لا يقل عسفا واستعلاء عن العسف والاستعلاء الشمالي. بل يختلط على القارئ قبل ان يقرا أسمه كأنما يقرأ لكاتب يمني من مطبخ (عفاش) علي عبدالله صالح. ألم يدرك الراشد الأحداث في تتابعها حينما جحافل الحوثي كانت تنهب المسافات السياسية في الحوار الوطني، والمسافات الجغرافية بأسقاط المدن بدعم ومباركة من هادي ذاته الرئيس الشرعي لهم يومها قبل انقلابهم عليه ما أن وصلوا صنعاء وأسقطوها مزمعين نزع شرعيته. ولم تكف جحافلهم نهبا، فيمموا الى غزو أرض الجنوب مقتحمين مدينة عدن. يومها يتذكر العالم ومعهم الراشد أن شعب الجنوب أنتفض بجميع فئاته من أقصاه إلى اقصاه دفاعا عن أرضه وحياته وكرامته. كما يدرك الراشد ومطبخه يقينا مايؤكده الجنوبيون عن مقاومتهم تحت قيادة التحالف من دون قيد أو شرط سوى ضرورة دفاعهم عن أرضهم وذودهم عن قضيتهم التي يعلمون أنها لصيقة الصلة بطرد الغزو الشمالي المتجدد في جيش الحوثي وصالح، والتعاون مع دول الأشقاء في الخليج العربي لصد الاطماع الايرانية المتلبّسة لبوسهم. بل من السخرية والافتئات على تضحيات الجنوبيين ودماء شهدائهم واستشراسهم في ميادين القتال لتحقيق النصر، أنتحال الوقائع بالقول بان ما فعله الجنوبيون كان دفاعا عن هادي أو شرعيته. فهم لم ينتخبوه، وكان يوم تنصيبه يوما أسود في الجنوب، ارتكبت أثنائه مجزرة في عدن ذهب ضحيتها العشرات … لسنا بصدد نبش الجروح، ولكن هو السياق فرض التذكير.

دفع الراشد في مقاله بمغالطات كثيرة ومقارنات غير متجانسة لحالات تقرير المصير، وإسقاطات سياسية غير مسؤولة، وتهويلات وتحذيرات لدول الخليج لطالما درجت عليها كتاباته وأمثاله ممن يكتبون من زاوية أسن ماؤها، لركوده عن متابعة مجريات الوقائع والاحداث. وما يثير الغرابة القراءة الجامدة للمشهد، والاستدعاءات العقيمة لأطر وهياكل دولة، نعلم جميعا إنها تبخرت وانتهت بكل هيئاتها وأطرها التي يستدعيها الراشد ولم يتبق منها سوى اشلاء نازفة يسارع كل طرف في معسكري الصراع اليمني، شرعية وانقلاب، لالتقاط مزقها ليغطي بها سوءته.

بالصلف عينه ينظر الراشد الى الجنوبيين، وبتهور يذكر بتهور ثور أسباني في حلبة مصارعة يندفع ناطحا ستارة القماش بينما المصارع يعمل رماحه القاتلة في ظهره. هكذا يلاحق الراشد وهم وحدة أنتهت، ويناطح استيهامات أظنها ستحيل الحليف الجنوبي إلى عدو. يستعدي مثل هذا النوع من الخطاب الجنوبيين وهم الحليف الاساسي والمؤتمن للتحالف، وقد أثبتت سنتي الحرب المنصرمة ذلك. استطاع التحالف تحقيق النصر وتحرير مناطق الجنوب جميعها من خلال انخراط الجنوبيين في المقاومة والجيش والأمن والمشاركة في المعارك وإدارتها، ولم يسجل عليهم حالة من التقاعس أو التراجع أو الاخلال بالعهود والمواثيق التي قطعوها للتحالف. في المقابل أثبتت القرائن والشواهد أن الالوية التي قوام جيشها من أبناء الشمال وتتمركز في المناطق الشمالية كمأرب ونهم والجوف وتعز لم تتقدم خطوة ولم تحقق أي اختراق في جبهات الانقلابيين ومازالت تراوح بين الهضبة والتلة و(التبة)، رغم الأغداق عليها بالدعم والاموال والعتاد. حتى جبهات المخا والحديدة التي تحقق فيها نصر وحرر بعضها، فان ذلك تم بقوام قوة عسكرية جنوبية وبقيادات عسكرية جنوبية أستشهد بعضها في تلك المعارك، حتى أن الموقف الشعبي من التحالف متمايز تمايزا صريحا بين الجنوبيين والشماليين. فبينما يقف كل شعب الجنوب مؤيدا التحالف، يحتشد ملايين الشمالين في ميادين صنعاء وغيرها من مدن الشمال منددين بعملياته ومؤيدين للحوثيين وصالح. وهذه حقائق لا يمكن إنكارها او القفز عليها، بل أن الشرعية ذاتها التي يدعمها التحالف لا يخفى على متابع أنها مخترقة بمن يلحف في إعلامه وخطابه ضد بعض دول التحالف، وهم في الغالب الأعم شماليون يمثلون كتلة قبلية وأحزاب ايديولوجية.

يتحتم على الراشد ومطبخه – إذا كان خلفه مطبخ- ترشيد خطابه الموجه للجنوبيين، كما تحري الأمانة والدقة وعدم الانجرار خلف مطابخ عفنة لتيارات ايديولوجية انتهازية (الاخوان المسلمون) أثبت الوقت فشلها وفشل من يسير خلف أجنداتها,

على هذا الخطاب المتوتر المتعنت التروي وإعادة النظر في ما يصدره من حلول لقضية هي غاية في المعادلة، حلول تخبط بعيدا عن إرادة شعب الجنوب ومآلاتها قد تصبح كارثية، ولن تبقي على جنوب ولا شمال، وستدخل المنطقة في دوامات سيتسع مدى حلقاتها، وليست من مصلحة الجوار ولا مصلحة التحالف الذي يسعى لأستقرار المنطقة وأمنها. هناك “خيارات الضرورة” والضرورة تقول بأن ما يسمى بالوحدة اليمنية والدولة اليمنية انتهتا، وعلى الأرض وقائع لا يمكن القفز عليها. والجنوبيون لطالما رددوا بأنهم شعب قاسى الويلات والدمار والقتل والتعذيب، ولم يعد أمامه طريق غير تحرير أرضه وتحقيق مطلبه في السيادة عليها وتقرير مصيره في دولته المستقلة. وإذا لم يستجب له ونزع منه هذا الحق، فأنه ليس لديه ما يخسره حسب قولهم حينما يندفع للذود عن نفسه وعن مستقبل أجياله.

في الختام علينا الاستطراد للقول الظن الأكيد أن المقال محمول على الوجهة الشخصية وحصرية خطابه في ما يعتقده الراشد ليس أكثر، ولا يمثل قناعات أو رسائل سياسية رسمية لدول التحالف ولا للمملكة العربية السعودية التي تسعى لتثبيت مداميك الأمن والاستقرار في المنطقة.