يافع نيوز – اسلام اونلاين :
لجأت سفينتان حربيتان ألمانيتان إلى العاصمة العثمانية القسطنطينية في خريف عام 1914، هرباً من مطاردة البحرية البريطانية. وبعد مفاوضات سرية بين ألمانيا والدولة العثمانية، أبحرت السفينتان جنبا إلى جنب مع سرب البحرية العثمانية لقصف المدن الساحلية الروسية، نوفوروسيسك أوديسا، وسيفاستوبول.
ووفقا لـ فيلهلم سوشون، قائد السرب المتوسط الألماني، وكان ذلك ذريعة مثالية لإجبار العثمانيين المحايدين التورط في الحرب العالمية الأولى رغما عنهم.
يعتبر عام 1783 نقطة حاسمة في تاريخ العلاقات بين روسيا وتركيا، عندما استولت جيوش القيصر الروسي على شبه جزيرة القرم، كأول خسارة للعثمانيين لأرض مسلمة. الصدمة والرغبة في منع خسارة جديدة دفعت العثمانيين الى الإتجاه نحو أوربا لتحقيق التوازن ضد التوسع الروسي من خلال التحالفات الأوروبية. جاء التوازن الأكثر أهمية خلال حرب القرم بين 1853-1856، والتي استطاعت القوات البريطانية والفرنسية، والقوات العثمانية من وقف محاولات روسيا التوسعية.
على الرغم من نتائج تلك الحرب، فإن وجود البحرية الروسية في البحر الأسود تعززت تدريجيا على مدى السنوات الـ 60 التالية. وتزامن ذلك مع المكاسب الاقليمية الروسية علي حساب العثمانيين، فمنذ أكثر من قرن من الزمان استمر فقدان الأتراك للأراضي لصالح الإمبراطورية الروسية، سواء في القوقاز والبلقان وشكل ذلك صدمة ما زالت اثارها قائمة إلى اليوم.
الغمامة التاريخية
من الصعب المبالغة في مدى تأثير التاريخ علي التفكير الاستراتيجي للأتراك. إن اتفاق التجارة مع إيران، على سبيل المثال، جاء لإعتبارات “معاهدة ذُهاب” عام 1639، والتي أنهت الحرب بين العثمانيين والصفويين. وعلاوة على ذلك، فقد اعتقدت تركيا منذ فترة طويلة ان البرنامج النووي الايراني لن يمثل تهديداً لأنقرة لأن الحدود التركية الإيرانية لم تشهد أي مشاكل تقريبا منذ ذلك الاتفاق. وكذلك المشروع المشترك مع فرنسا، في الوقت نفسه، يمكن النظر اليه في سياق تنازلات السلطان سليمان الأول الذي منح التجار الفرنسيين الأفضلية خلال مفاوضات الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي في عام 1996، واعترض بعض أعضاء البرلمان التركي صراحة على أن الصفقة كانت أسوأ من التنازلات.
يعتبر عام 1783 نقطة حاسمة في تاريخ العلاقات بين روسيا وتركيا، عندما استولت جيوش القيصر الروسي على شبه جزيرة القرم، كأول خسارة للعثمانيين لأرض مسلمة
وبالتأكيد يقود التاريخ تفكير القوى الأخرى كذلك. عندما ضمت روسيا القرم في مارس 2014، على سبيل المثال، ذكرتنا روسيا بالفترة مابين 1783- 1856‘ حيث تعتبر القرم “الجزء المخيف ” في القصة (على حد تعبير الصحافي البريطاني ماثيو نورمان) لكلا الإمبراطوريتين الروسية والتركية السابقة.
وبعد الاستيلاء عليها، أكد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ان تركيا لن تعترف أبدا بضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا.
وشهدت تركيا أيضا عددا متزايدا من انتهاكات المجال الجوي للطائرات الروسية عبر البحر الأسود عقب التدخل الروسي في أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأسطول الروسي في البحر الأسود، الذي يتم مده من قبل ميناء نوفوروسيسك، أوديسا، وسيفاستوبول، قد هيمن على البحر الأسود، وأدى الى عدد من الحوادث التي تتعلق بالتشويش علي رادار السفن التركية وحلف شمال الأطلسي. والحدث الأكثر إثارة للقلق جاء في مارس 2015، عندما استهدفت الطائرات الروسية، أثناء تمارين القصف الجوي للطراد الصاروخي فيكسبورج والفرقاطة التركية تورجوتريس التي كانت في المنطقة.
وردت تركيا على هذه الحوادث بالطرق الدبلوماسية والاتصالات العسكرية المباشرة، وأحيانا بالمحافظة علي الهدوء حتي لا تشعل أزمة أكبر لحلف شمال الأطلسي. وذهبت تركيا إلى أكثر من ذلك لتجنب المواجهة في البحر الأسود بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم حيث عمدت تركيا الي إعادة توجيه بعض من سربها البحري في البحر الأسود إلى جنوب أفريقيا والمحيط الهندي، والذي تسبب في إحتجاج أميرال البحرية التركية السابق علنا على إضعاف الوجود البحري التركي في البحر الأسود.
خلال الأشهر التالية، إزداد الوجود الروسي في بحر ايجه، وقامت روسيا بدوريات في شرق البحر الأبيض المتوسط بصورة متكررة وكثفت أنشطتها في القاعدة البحرية الروسية في طرطوس – سوريا.
وبحلول صيف عام 2015، زادت الحملات الجوية الروسية في سوريا مع دول حلف شمال الاطلسي حيث كانت تعتقد موسكو أن قدرتها على الوصول إلى طرطوس تمر بمرحلة خطرة، حيث أطلق نائب الاميرال فيكتور شيركوف، القائد العام للقوات البحرية الروسية تحذيرا بأن “القاعدة (طرطوس) أساسية بالنسبة لنا؛ انها تعمل وسوف تستمر في العمل “.
وبعد تحضيرات فصل الصيف، وفي أواخر سبتمبر وصلت القوات الروسية الى سوريا في مهمة رسمية لدعم قوات الأسد وإبعاد الخطر من القاعدة الجوية الروسية في اللاذقية والقاعدة البحرية في طرطوس، وبالتالي استهداف مجموعات من المقاتلين السنة وقوات الدولة الإسلامية (المعروف أيضا باسم داعش) وغيرها في جميع أنحاء إدلب وحلب، والتي كانت على مقربة من كل من تلك القواعد.
وكان انضمام روسيا الى سوريا ربما أكثر خطورة بالنسبة لتركيا من ضم شبه جزيرة القرم. لقد كانت سيطرة تركيا في عام 1939 لمقاطعة هاتاي التابعة لسوريا هو التوسع الوحيد لجمهورية تركيا بعد أن تم توحيد حدودها.
وعلاوة على ذلك، تركيا تقوم بدعم بعض الجماعات المتمردة التي تقاتل روسيا الآن، بما في ذلك تلك التي تتكون من التركمان في شمال غرب سوريا.
بحلول فصل الخريف، بدأت السفن الحربية الروسية تجوب طرطوس واللاذقية، وحول البحر الأسود من القاعدة الروسية الموجودة في أرمينيا، وعلى طول بحر ايجه. وباتت تركيا محاطة تقريبا عسكرياً مما دفع رئيس الأركان خلوصي عكار إلى التأكيد على أن البلاد محاصرة بـ “دائرة من النار” .
ويبدو أن هذا التفسير الذي أثبتته الأحداث في 3 أكتوبر، عندما دخلت طائرة مقاتلة روسية المجال الجوي التركي أثناء مهمة قصف في سوريا، وبرد فعل سريع رافقت طائرتين من القوات التركية الطائرة وأعادتها إلى الأراضي السورية، ثم استدعت أنقرة السفير الروسي أندري كارلوف لوزارة الشؤون الخارجية.
وادعت روسيا أن الانتهاك كان خطأ في الملاحة، ولكن هذا لم يمنع كارلوف من الحصول على محاضرة طويلة عن قواعد الاشتباك التركية. وزير الخارجية التركية فريدون سينيرليوغلو هاتف أيضا نظيره الروسي، سيرجي لافروف، لإيصال نفس الرسالة.
ومع ذلك، تكررت الحادثة بعد يوم واحد، في 4 أكتوبر عندما اقتربت طائرة روسية من طراز ميج 29 المجال الجوي التركي من سوريا ومن ثم تم توجيه الرادار على طائرتين من الطائرات التركية التي كانت تجوب في الجانب التركي من الحدود.
وفي الخامس من أكتوبر من نفس الشهر، يتكرر الأمر مع طائرة روسية وجهت الرادار على ثماني طائرات تركية داخل الأراضي التركية.
دعت تركيا إلى اجتماع طاريء لحلف شمال الأطلسي، وبعد ذلك وصف الأمين العام لحلف الناتو الإجراءات الروسية بأنها “متعمدة”. وأصدر البيت الأبيض علي وجه السرعة بياناً يصف تكرار الانتهاكات الروسية بأنها “استفزاز”. وزير الخارجية جون كيري أكد أن الأحداث الأخيرة قد تؤدي إلى تصعيد التوتر. ردا على ذلك، اقترحت وزارة الشؤون الخارجية الروسية مجموعة العمل التركية الروسية المشتركة الى الاجتماع لتنسيق العمليات الجوية للبلدين على نحو أفضل في سوريا. على الرغم من هذه، لم يكن هناك أي مؤشر إذا كان الجانب الروسي قد وصلته الرسالة أو ما إذا كانت تلك الانتهاكات قد جرت بشكل متعمد.
المصير السيء
إن اسقاط تركيا للطائرة الروسية في 24 نوفمبر لا ينبغي أن يشكل عنصر مفاجأة، وبالإضافة لذلك فإنها لا تقدم الكثير لعلماء العلاقات الدولية للتفكير في جوانب عدم التثبت والعمليات الإدراكية.
كلا الزعيمين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأردوغان بينهما تاريخ طويل من التعاون، وأن وزارتي الخارجية الروسية والتركية لديهما سهولة في التواصل بينهما على أعلى مستوى. كما أجرت القوات المسلحة في البلدين مناورات مشتركة. فكيف حدث كل هذا؟
تذكر الرواية التركية أن النفاثة الروسية كانت مجهولة واعتقدت المقاتلات التركية أنها طائرة تتبع لسوريا. وفي 26 نوفمبر صرح أردوغان بأن رد تركيا كان من الممكن أن يكون مختلفاً لو تم تحديد الطائرة بأنها روسية. أما روسيا فقد فسرت الحادث بأن القوات التركية التي أسقطت الطائرة الروسية كانتا في وضع كمين مما يشير إلى أن الحادثة كان مخطط له.
وفي كلتا الحالتين، فإن الأحداث تعكس التظلمات التركية العميقة وطويلة الأجل، الأمر الذي يعني أن تركيا ربما ترد بالمثل في المرة القادمة، وعلى الرغم من نزع فتيل التوتر، فإنها تفضل عدم الخوض في الموضوع أكثر من ذلك. وما يجعل الوضع برمته أكثر تعقيدا أن الطيار الروسي قتل بالنيران الأرضية وهو يحاول النجاة بمظلته وهذا من شأنه زيادة الضغط الشعبي على بوتين للإنتقام لمقتل الضابط.
إذا لم تتم إدارة الصراع السوري يمكن أن تتحول الأزمة بسهولة من حرب بالوكالة إلى حرب شاملة بين روسيا وتركيا، وربما حلف شمال الاطلسي. بالنسبة لتركيا فان التطويق العسكري الروسي يعكس أفكار الإمبراطورية الروسية وتحتم علي تركيا اتخاذ موقف.
الأحداث تعكس التظلمات التركية العميقة، الأمر الذي يعني أن تركيا ربما ترد بالمثل في المرة القادمة
وتتجاوز هذه المشكلة تركيا،فانتهاكات المجال الجوي من قبل المقاتلات الروسية هي مشكلة حلف شمال الأطلسي (الناتو ملزم وفق ميثاقها لحماية تركيا من تزايد عدد الحوادث الجوية). أما بالنسبة لروسيا، فتعتبره مجرد رد على أنشطة الولايات المتحدة نفسها في القطب الشمالي والمحيط الهادئ، والذي تعتبره موسكو تهديداً.
في القرون الماضية، عانت تركيا كثيرا كلما إزداد نفوذ روسيا. خلال حرب القرم، الحرب العالمية الأولى، والحرب الباردة، حاولت تركيا أن تحمي نفسها من خلال التحالفات الغربية. اليوم، عودة روسيا يهدد مرة أخرى تركيا. إن رد الفعل التركي لا ينبغي أن يكون عسكريا بل فقط بالمفاوضات النشطة والمكثفة التي تخفف الضغط من قبل حلف شمال الاطلسي على روسيا في القطب الشمالي والمحيط الهادئ، وأيضا نقل مخاوف تركيا إلى موسكو على مستوى حلف شمال الأطلسي يمكن أن يبعد أشباح الماضي عن العلاقات التركية-الروسية.
ليس من الضروري أن تواجه المقاتلات التركية التي أسقطت الطائرة الروسية نفس مصير السفينتين الألمانيتين “غوبن وبريسلاو” ، من خلال إجبار العثمانيين في الدخول للحرب، جالبة على حد قول وينستون تشرشل “المزيد من المجازر، المزيد من البؤس ، والمزيد من الخراب من أي وقت مضى”.