fbpx
علماؤنا ومبدعونا…ومقصلة التقاعد!!

 

علي صالح الخلاقي

في بلدان العالم المتقدمة يحظى أساتذة الجامعات والعلماء والمبدعون المتميزون بمكانة هامة ومرموقة، على الرغم من بلوغهم ما يفوق الأجلين، ويعتبرونهم ثروة وطنية لا يمكن الاستغناء عنها أو التفريط بها.. ويحرصون على عدم إحالتهم إلى التقاعد، حتى وأن بلغوا أحد أجَلَي التقاعد أو لهم رغبة شخصية في ذلك، فأنهم في هذه الحالة يسعون إلى اقناعهم بعدم التقاعد ويترجونهم الاستمرار في مواقعهم التي يشغلونها، طالما وهم قادرين على البذل والعطاء بغض النظر عن سنهم.
هذا في العالم المتقدم الذي يحترم ويقدر علماءه ومبدعيه ، أما ما يحدث في بلادنا فعلى العكس من ذلك، فرغم أن هذه النخبة المتميزة تمثل فقط فئة صغيرة جداً مقارنة بشرائح المجتمع المختلفة، فإننا مع ذلك لا نكاد نلتفت إليها، ولا نشعر بأهميتها وقيمتها، بل نسارع إلى قتل عطاءها وإهدار كفاءاتها، بإحالتها إلى (مقصلة التقاعد) غير آبهين لخطورة ما نقدم عليه أو إدراك أن مثل هذا الاجراء يتعارض كلياً مع الجهود المضنية التي تبذلها الدولة والمجتمع من أجل إعداد وتأهيل ورعاية الكفاءات العلمية للاستفادة من قدراتها العلمية والإبداعية المتميزة وتجاربها وخبراتها المكتسبة.
ما دفعني وحفزني لطرق هذا الموضوع مجدداً هو إقدام وزير الثقافة الاستاذ عبدالله عوبل على إحالة د.عبدالعزيز جعفر بن عقيل مدير عام الهيئة العامة للآثار والمتاحف بمحافظة حضرموت، كما علمت من تغريدته التي تقطر كمداً وهو يستقبل قرار إحالته إلى التقاعد، وعبر فيها بسخرية مرة، قائلا:” بمناسبة بلوغ عمري الستين عاما – واحالتي الى التقاعد من وزير الثقافة المستر/عبدالله عوبل – قبل أربعة أشهر، لأن اليمن بلد القوانين وكل العاملين عند أبو العوابل أعمارهم تقل عن الستين عاما، ولديهم من العطاءات الثقافية ما جعل مدن البلد تفوح بها”..
وتزداد الحسرة، التي نشاركه فيها، حين نعلم أن حصيلة راتبه التقاعدي الهزيل لا تتناسب مع لقبه العلمي وخدمته الطويلة، بل أنها لا ترقى إلى مستوى ما يحصل عليه عامل بسيط في ميناء مدينة المكلا، ولهذا فقد اختتم تغريدته بمخاطبة مدير عام ميناء المكلا قائلاً:” هل تريدني عاملا عندك، أؤَرّخ لتاريخ ميناء حضرموت، فلقد سمعت أن عُمَّالكم يستلمون قرابة المائة وكذا ريال، بينما سأتقاعد على مرتب خمسة وتسعين ألف ريال قابل للسرقة !!”..
ومن لا يعرف د. عبدالعزيز بن عقيل، فهو أحد المتخصصين القلائل في حقل الآثار والتاريخ، ومدير عام الهيئة العامة للآثار والمتاحف بمحافظة حضرموت، وله مساهماته العلمية القيمة، كعالم آثار وباحث ومترجم، ولم يجف ينبوع عطاءه بعد، رغم بلوغه الستين عاما، وهي الحجة التي جعلت الوزارة تسارع إلى إحالته إلى (مقصلة التقاعد) في الوقت الذي كان حرياً بها أن تكرمه بعد هذا المشوار الزاخر بالعطاء، بل وتصر وتلح على بقائه في عمله.. لكن .. وآه من وقع هذه الكلمة.. فهذه هي مأساتنا فيما تسمى بلد الحكمة .. وتكون المأساة أعظم حين تأتي هذه الإجراءات ممن يفترض أن يكون راعيا للثقافة والإبداع.. ويتناسى إنه بإحالة أمثال هؤلاء إلى التقاعد وهم في قمة العطاء العلمي يكون الوطن هو الخاسر الأكبر.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، أعود إلى قضية مماثلة حدثت عام 2009م تمثلت بالمآل الذي آل إليه حال الأكاديمي الحصيف د. عبدالحافظ الحوثري، بعد مشوار علمي زاخر بالبذل والعطاء وكتب حينها الأستاذ القدير نجيب يابلي مقالته (ما هكذا تورد الإبل يا جماعة جابر بن حيان في المكلا)!” [ الأيام ، العدد 5661] .. وتجاوبا معه كتبت أيضا مقالا بعنوان “علماؤنا ومبدعونا..وأجل التقاعد” [الأيام، العدد 5677].. ولأن ما قلته فيه يتوافق جملة وتفصيلا مع ما آل إليه حال الدكتور بن عقيل اليوم، وغدا غيره، ممن سيأتي عليهم الدور من العلماء واساتذة الجامعات والمبدعين المتميزين الذين يتم التخلص منهم وهم في قمة عطائهم، أكرر في الختام بعض ما قلته للتذكير، لعل الذكرى تجدي نفعا لدى المعنيين.
فمن المعيب أن نساوي في تعاملنا بين العالم النابغ والمبدع الجهبذ وبين العامل أو الموظف العادي بحجة «الأجلين».. فالعالم أو المبدع كلما تقدم به العمر كلما ازدادت معارفه وخبراته التراكمية التي يصعب أن تعوض بسهولة وهو ما يلمسه كل من له صلة بالوسط الأكاديمي من أساتذة وطلاب علم .. أما العامل أو الموظف فإن قدراته تقل كلما تقدم به العمر ومن السهل الحصول على بديل أفضل وبوقت قياسي.

ولكم أن تتصوروا كم نجني على العلم ومستقبل الأجيال إذا ما استمر هذا النزيف للكفاءات العلمية والإبداعية، التي ينبغي أن نعيد النظر في التعامل معها بخصوصية عند اقتراب أجل التقاعد، ويستثنى من ذلك حملة الألقاب الرفيعة «الدال» ممن تيبست قرائحهم وجف نبع العطاء لديهم ولم يعودوا قادرين على مواكبة التطور العلمي في تخصصاتهم ختاماً: أرجو أن يثري المعنيون هذا الموضوع بآرائهم المفيدة والسديدة حرصاً على ثروة الأمة من العلم والعلماء وأن نفرق بين العالم والعامل، وذلك ما نأمله من ذوي الألباب.