fbpx
حسين محمد حسين اليزيدي .. شاعر “طريق القافلة”

 

 

حسين محمد حسين اليزيدي(1946-1986م)، مناضل وطني وتربوي قدير وشاعر  مبدع.. وأحد الرجال الأفذاذ ممن حُفرت أسماؤهم في ذاكرة التاريخ الوطني، الذي كان أحد صناعه..عرفته منذ كنت طالباً في المرحلة الإعدادية ، مطلع السبعينات من القرن الفارط، في لبعوس- يافع (إعدادية الشهيد عبدالرحمن قحطان).. وكان حينها من القيادات البارزة  في المنطقة، حيث كان عضوا في القيادة المحلية لما كان يُعرف بالمديرية الغربية – يافع (رُصد- لبعوس – الحد)  من المحافظة الثالثة (أبين) وكان متحدثاً لبقاً يشد انتباه ومشاعر المستمعين إليه، ممن كانوا يُصيخون السّمع إلى حديثه بهدوء وسكينة وكأن على رؤوسهم الطير.

وكان قد ارتبط  مبكرا بقضية وطنه المحتل منذ أن كان في مهجره في (قطر) حيث التحق في تنظيم الجبهة القومية وبسبب نشاطه التنظيمي أعتقل هناك، وكان عليه أن يغادر عائدا  إلى عدن. وبعد عودته شارك في بناء الدولة الجديدة التي حققت استقلالها للتو( جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) فالتحق مباشرة، فور عودته، في الحرس الشعبي، وتحمل عدة مهام ومسئوليات منهما مهمة مسؤول سياسي للحرس الشعبي. كما عمل مدرسا في مسقط راسه حين كانت الحاجة للمدرسين ذات أهمية قصوى، خاصة مع افتتاح عشرات المدارس لأول مرة بعد الاستقلال الوطني في كثير من المناطق النائية، ومنها يافع، وقلة أعداد المدرسين المؤهلين وندرتهم حينها.

 وكان رحمه الله يمتلك قوة تأثير في أوساط الناس لما يتمتع به من صفات وثقافة عالية، وعُرف أيضا بدماثَة الخُلُق والتواضع فكسب حب الناس، وحظي بثقتهم  فانتخب عضوا في مجلس الشعب الأعلى عام 1970م.

 وتميز، رحمه الله، عن بقية زملائه بثقافته الموسوعية وتذوقه للأدب والشعر، وبشغفه بالتعلُّم والاطلاع المستمرين، فلم تشغله مسئولياته عن مواصلة تعليمه، فتخرج من كلية التربية زنجبار، ثم التحق لمدة عامين للدراسة في معهد العلوم الاجتماعية في العاصمة الروسية موسكو. ويذكر كل من عرفه ارتباطه وولعه بالعمل الثقافي، ولهذا تدرج في عدد من المهام والمسئوليات المختلفة المرتبطة اساسا بالثقافة والهم الثقافي، فكان عضوا في اللجنة التنظيمية لمحافظة أبين وسكرتير الدائرة الأيديولوجية، ثم مديرا لفرع معهد عبدالله باذيب في محافظة أبين، وسكرتيرا لدائرة الثقافة والتربية، فضلا عن تحمله لمهمة مدير إدارة الثقافة بالمحافظة. ونظير أدواره الوطنية مُنح وسام الإخلاص من الدرجة الأولى (1978م).

وكان شاعراً وطنياً حمل هم وطنه وشعبه في أشعاره المعجونة بتراب الواقع الذي عايشه وعرفه معرفة المجرب لا معرفة المتفرج.  ورغم أن مُقلا في نظم الشعر، إلا أنه كان مجيداً، امتلك موهبة شعرية. ولما عُرف به من تواضع ، لم يتباه قط بشاعريته أمام غيره، أو يروج لها وهو حينها مسئولاً عن شئون الثقافة والأدب والشعر في محافظة أبين.

 وللأسف لم تدوّن كل قصائده في حياته، ولا نعرف عن مصيرها شيئا.. والأثر الشعري الوحيد الذي بقي له قصيدته الشهيرة (طريق القافلة) ولولا أنها كانت مغناة وحفظها الناس لبقيت، كما هو حال باقي أشعاره- في ذمة الأقدار. وحينما نقرأ هذه القصيدة نعرف إننا في حضرة شاعر متمكن، صادق النبرة، لا يتصنّع ولا يتحذلق، بل يبث مشاعره بثاً كقطرات المطر التي تروي الأرض العطشى. ولو شئت أن أصفه بكلمتين لقلت أنه شاعر (طريق القافلة) فقد أفاض وأبدع في هذه القصيدة و صور فيها طريق مسيرة الثورة بما فيها من وعورة ومسالك صعبة وصعوبات جمة كان يراها برؤيته الثاقبة:

نزلنا من جبل وان ذا تلقانا جبل    وعادها قدّامنا طلعه وِمِنْزاله 
كم هِي رِهِيْ قُدَّامنا كم هي عُقل    وأشعاب جرداء ما لها الاَّ ناس شغاله 

 إن الدرب الذي يراه الشاعر شائك وصعب المرتقى، وأبعد مما تطمح إليه نفسه التواقة للوصول.. فهناك جبال و(رِهي) و(عُقَل) وأشعاب جرداء، لا يقوى على اجتيازها، إلا من تزود بزاد الرحلة وامتلك القوة والإرادة على مواصلة السير بدون وهن أو ضعف.. والرّهِي: جمع رهوَة، وهي ما ارتفعَ من الأَرض ولا تكون إِلا في سهولِ الأَرض. والعُقْلَة: أرض ببطن جبل أو في منحدر جبلي تلتقي فيه مياه سيول شعبتين جبليتين. .

و في قصيدته “طريق القافلة” نلمس قوة وحيوية مندفعة للأمام ، فالشاعر لا يتبرّم من الصعوبات، بل يحث على اجتياز الدروب، مهما كانت الصعوبات والخطوب، يحدوه الأمل والثقة  بالوصول إلى الهدف وبلوغ الآمال المرجوة :

رغم المخاطر قافلتنا با تصل    والخل يلقى الخل يبلغ كل آماله 
أجمل سعاده حين نتساقى القُبَل    حين اللقاء قُبْله تساوي مية شلاله 

ونحس معه أن السير في الطريق لا بد أن يتواصل دون كلل أو ملل إن أردنا بلوغ الغايات، ففي نهاية الطريق نبلغ الآمال التي ننشدها، وتأتلف القلوب ويسعد الأحباب وهم يتساقون القُبل. وللأسف أن روح الشاعر قد لقيت ربها قبل أن تصل القافلة التي كان موقنا بوصولها، فقد ذهب ضحية في أحد انكساراتها المأساوية في منعطف خطير عُرف بكارثة أو مأساة (13يناير)  التي حصدت أرواح ضحايا كثيرة وتركت آثاراً غائرة في الأنفس، وكانت بنتائجها الكارثية أهم سبب لما نحن فيه اليوم من أوضاع مأساوية، تحتم علينا استعادة الوعي وأخذ العظة والعِبَر من كل ما مَرّ وغَبَر.

سنقرأ الكثير من الأبيات لشعراء عديدين، وقد ننساها ، لكننا لن ننسى (طريق القافلة) لأن الجيد من الشعر وإن كان بيتا واحدا فقط يبقى حيا ومتجددا، تستأنس به الروح وتتفتح له براعم الحياة في داخلنا ويفرض نفسه على ذاكرتنا  وتتناقله الألسن على الأجيال المتعاقبة، بينما ننسى الرديء من القصائد والأشعار الكثيرة التي قد نقرأها فلا نتحمس لها ولا نرغب بالعودة إليها مجددا، لأنها مجرد رصّ كلام وليس فيها من جماليات الشعر أو معانيه ما يجذبنا إليها مرة ثانية.

ولا شك أن من يقرأها هذه القصيدة اليوم سيظن أنها بنت اللحظة  وكأن الشاعر يصف فيها واقعنا الراهن المثخن بالآلام والصعوبات والأنكسارات.. وخلود هذه القصيدة يبرهن على أن الشعر الجيد يتعدى المكان والزمان.

وختاما أورد “طريق القافلة” التي تُنشر لأول مرة كاملة، وفيها يقول الشاعر:

 

نزلنا من جبل وان ذا تلقانا جبل    وعادها قدّامنا طلعه وِمِنْزاله 
كم هي رِهِيْ قُدَّامنا كم هي عُقَل    وأشعاب جرداء ما لها الاَّ ناس شغاله 
في القافله كم من جَمَلْ يِدْحَنْ جَمَلْ    والقافله في السير تشتي ناس جَمَّاله 
البعض شد العزم والآخر كسل    والبعض مُتخاذل ومتناقض مع أقواله 
لا جَنب للحِمَّال لا يمسك بحبل    ماشي رُكَبْ، أو ساق خائر وسط خيَّاله 
والبعض متحمس ويمشي في عجل    لا هم له فيما بقي أو راح من ماله 
يسرع ولكن لو تعب فجأه ذَبَل    يحمى ويبرد كل ساعه يفتعل حاله 
لو حَرَّت الشمس ارتمى في أي ظل    يحلم يغطي الشمس من سُخفه بمنخاله 
البعض خَفّ الحِمل والآخر ثقل    كُثر الطمع قتَّال والأحمال ميَّاله 
من يزرع الأشواك قُدّام الجمل    يبشر فأن الشوك با يدميه وأمثاله 
قالوا وصلنا غير إنَّا لم نصل    عاد السُّحُب ما زال والأمطار هَطَّاله 
سُهيل طالع والعواصف لم تزل    والرعد قبلي مُندحن والبرق شعاله 
رغم المخاطر قافلتنا با تصل    والخل يلقى الخل يبلغ كل آماله 
أجمل سعاده حين نتساقى القبل    حين اللقاء قبله تساوي مية شلاله