fbpx
اللقاء المشترك:عام من الثورة، عام من اللاثورة

اللقاء المشترك:عام من الثورة، عام من اللاثورة

أمين اليافعي

يقول روبرت ماكيفر في كتابه المرجعي “تكوين الدولة”، إن الثورات تهدف إلى القضاء على النظام القديم، وإلى توجيه “تكوين الحكومة” و “علاقة الحكام بالمحكومين” توجيها جديداً.

 على ضوء هذا الافتراض في المسار الحتمي للثورة الناجحة كما قدّمها ماكيفر، يشعر الشباب في ساحات الاعتصامات اليمنية بأن أحزاب اللقاء المشترك  قد ساهمت، وتساهم بدور كبير في عملية مستمرة لإجهاض الثورة وقطع الطريق أمام الدفق الثوري بإصرارها على المضي قدماً في نفق التسوية.

فـ”الثورة السلمية” بمبادئها وأهدافها وقيمها، في ظل التسوية، لم تعد هي المرجعية التي تحكم عملية التغيير المنشودة، وعنصر الإلهام الروحي والفكري والسلوكي، وكما كان ينبغي لها أن تكون، بل باتت المرجعية هي المبادرة الخليجية التي عملت على تماسك النظام وحالت دون سقوطه العاجل أو المتدرج.

دور أحزاب اللقاء المشترك في عملية إجهاض الثورة لم يكن، في اعتقادي، على الأقل، ناجم عن خطأ أو سوء في التقدير بناء على مخاوف كانت تتذرع بها هذه الأحزاب لتبرير مضيها في خيار التسوية، كما لم يكن راجع إلى عامل ضغط خارجي لا مفر منه.

 والأسباب الحقيقية لذلك ترجع، برأيي، إلى الطبيعة التي تقوم عليها هذه الأحزاب، وهي كالتالي:

أولاً: شيخوخة القيادات،وشمولية سلوكياتها، وجمودها سياسياً وفكرياً، وعدم قدرتها، في أي مرحلة من المراحل، على الارتقاء إلى المنطق الثوري، وإدمانها التعامل وفقاً لطرق نمطية ليس فيها إبداع أو ابتكار، وكذلك انكشاف أوراقها وأسلوبها في التفكير والتعاطي مع الأمور للطرف الآخر مما قتل عنصر المفاجأة الذي تميز به الفعل الثوري واثبت جدارته حيث عمل باستمرار على إفقاد الأنظمة الحاكمة توازنها وجعلها تهتز وتترنح، ثم تسقط صرعى لجهلها كيفية التعامل معه.

وخلافاً لما حدث في كلٍ من مصر وتونس (ومقارنته بمصر وتونس، لأن الأعداد الهائلة التي خرجت للمطالبة بإسقاط النظام اليمني كانت تكفي لإسقاط أنظمة الحكم في عدة دول!)، حيث تم تحييد النخب والقيادات التقليدية عن أن تكون في صدارة المشهد الثوري حتى يتم إنجاز الهدف الأول، وهو إسقاط النظام، بينما لم تستطع قيادات المشترك أن تمنح نفسها قسطاً قليلاً من الراحة، فنطّت كالمسعورة إلى المقدمة. كما منعت سلوكياتها الجانبية الخارجة عن الفعل الثوري ـ بكافة أبعاده ـ من وصول الثورة مادياً ومعنوياً ونفسياً إلى الذروة. فالثورة تستمد قوتها وعزمها ووقودها وقدرتها على الإنجاز، في الأساس، من الحلم والعاطفة والخيال، فوقعت ـ نتيجة لتلك السلوكيات ـ في تشويش وحالة من الإرباك والإعياء الشديد والمُنْهِك قبل أن تنجهز هدفها الأول.

ثانياً: هذه الأحزاب عبارة عن تجمع هلامي فضفاض، يضم في إطاره بعض القوى التقليدية ومراكز النفوذ، وهي قوى ومراكز عابرة لكل التشكيلات المدنية الحديثة وخارجة تماماً عن سيطرة وتوجيهات أحزابها، وقد اتخذت الأحزاب كمجرد دثار عصري تتخفى به. وقد سعت هذه القوى، منذ البداية، لتحويل الثورة إلى وسيلة يتم من خلالها تصفية حسابات مع أفراد نتيجة لصراعٍ (متقلب) على النفوذ والمصالح (الخاصة)، بينما كانت تساعد وتساند بطريقة مباشرة وغير مباشرة بقاء النظام، بمنظومته الشاملة، والتي هي جزءٌ لا يتجزأ منه.وقد تم الاستعانة بها لاحقاً للضغط على الأطراف المحلية كي يتم تمرير المبادرة الخليجية.

ثالثاً: هذه القوى التقليدية، هي في حقيقتها قوى مسلحة، وتمتلك من المليشيات والأسلحة ما يوازي جيش دولة. وهي قوى لها تاريخ غير مُشرّف من الفساد وتخريب أسس الدولة المدنية، كما دخلت في  عمليات مشبوهة لتصفية خصومها السياسيين وصراعات داخلية نتج عنها ضحايا لا حصر لهم. وعندما تم إقحام أسمائها في طليعة أعضاء “المجلس الوطني” الذي تبناه اللقاء المشترك وقيل أنه سيُمثل الثورة سياسياً، ثم تصديرها وكأنها القائد الفعلي للثورة.. اختلطت الأوراق عند الكثير، وبدأ وكأن الثورة السلمية تفقد قليلاً من براءتها، كما أصبح الحديث عن حلم الدولة المدنية الذي تصبو الثورة إلى تحقيقه في ظل هذا التدافع “اللامدني” يتبخر رويداً رويداً. ومن يومها قل عدد المنضمين إلى الثورة بشكل كبير حتى جف سيلهم تماماً بعد برهة قصيرة، بينما، كعادته، استغل النظام هذا الأمر أحسن استغلال ليشوّش على الثورة السلمية والثوار.

هذه ربما كانت أبرز الأسباب ـ من وجهة نظري ـ التي جعلت اللقاء المشترك يخرج في خياراته عن سياق الثورة الشبابية السلمية، ويفضل المضي في طرق تعوّد أن يسلكها أمناً ومرتاح البال طيلة السنوات الماضية ودون أن يكلف نفسه مشقة الدخول في معمعة المسالك الثورية التي تتطلب كثير من الجرأة والمجازفة.

واليوم، وبعد شهورٍ من توقيع مبادرة التسوية السياسية بينه وحزب المؤتمر الحاكم، وتنفيذ بعض بنودها، تذهب الأمور عملياً في مواقف وسلوكيات اللقاء المشترك لتأكيد كل ما قلناه آنفاً.

فالمشترك، وبكل رحابة، يتقاسم السلطة مع النظام الحاكم، راضياً ومقتنعاً أن تُدار اللعبة بشروط وأدوات وأساليب وشخوص النظام السابق، ربما الشيء الوحيد الذي ينغص عليه ويعكر صفوه هو وجود شخص الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ولكأن المشترك لم يكن بحاجة إلى ثورة، وتغيير شامل وجذري، فقط كل ما كان يحتاج إليه هو تفجير مسجد دار الرئاسة!!

وكما كان يفعل نظام علي عبدالله صالح قبل الثورة في التعامل مع مناوئيه، أشعل اللقاء المشترك؛ وبالذات حزب الإصلاح الإسلامي المتشدد، وهو الحزب الأقوى والمهيمن على صناعة القرارات في اللقاء المشترك، حرباً في شمال الشمال عن طريق حلفائه من القبائل، وتعامل بعنف مفرط مع عناصر الحركة الجنوبية في الجنوب، كما تعاملت عناصره بوحشية مع شباب الساحات (ربما أرادوا تصفية الساحات امتثالاً للبند الثاني من نص المبادرة الخليجية الذي يقضي “إزالة عناصر التوتر…” وهو شرط أساسي لنيل باقي الاستحقاقات التي وزعتها اتفاقية التسوية!).

وربما أيضاً كانت هذه السلوكيات، وسلوكيات أخرى غيرها، هي التي استدعت الرئيس الجديد عبدربه منصور هادي قبل بضعة أيام للاجتماع بالحكومة التي يرأسها اللقاء المشترك، فيحضها بالكف عن المناكفات الإعلامية والحزبية وعدم توظيف الأحزاب للمماحكات السياسية التي لا ترتقي إلى أن تكون سلوكيات “حكومة وفاق وطني”! جنباً إلى جنب توبيخه لوزراء حزب المؤتمر الذي ما زال بعضهم يمتثل للرئيس صالح.

والاستشهاد بعبدربه هنا، لا يعني التسليم به كمرجع في الاستقامة والصلاح، بقدر ما يشير إلى أن كثير من التصرفات أصبحت لا تُشرّف أحداً، حتى عبدربه نفسه باتت لا تشرفه، وهو الذي كان،  وإلى وقتٍ قريب جداً، أحد رجالات الرئيس صالح الأمناء..

إن الثورة، وبمفهومها الشامل والجذري، وفي ظل مجتمع مثقل بالتقليدية، بحاجة إلى أن تتغلغل عميقاً وإلى أبعد نقطة في الذات (سواء كانت فردية أو جماعية) حتى تعمل على ترميمها وإصلاح موروثاتها السلبية والجامدة، وتتمكن هي، في النهاية، من تحقيق التغيير المطلوب الذي تنشده. ولعل أحزاب اللقاء المشترك، وهي أحزاب تحسب نفسها على الثورة، هي أكثر من يحتاج إلى تغلغل ثوري حقيقي، فذلك سيوفر كثير من وقت وتكاليف”المستقبل”، كما لن يضطر باليمن للسير في نفس الطريق التي سار عليها نظام الرئيس صالح!