fbpx
حرب 1994م أفشلت مشروع الوحدة السلمية بين الجمهوريتين

بقلم / د. فضل الربيعي  
يشير الكاتب الانجليزي بول دريش إلى أن التناقض بين الشمال والجنوب قد نتج عنهما نظامان مختلفان، نظام جمهوري في الشمال، ونظام جمهوري أخر في الجنوب، ولقد كان لهما نتائج مختلفة على البيئة الاجتماعية والسياسية حتى من حيث الطبيعة المتناقضة للدولتين اليمنيتين اللتان تولتا البناء الوطني في ستينيات القرن الماضي، وظهرت بصورة ملموسة في النظام السياسي في اليمن بعد إعلان الوحدة .
فقد أعلنت الوحدة بين نظامين مختلفين تماماً، نظام في الجنوب قائم على أسس التوجه ألاشتراكي تشكل الملكية العامة لوسائل الإنتاج أساس الدولة وهي التي تحتكر النشاط الاقتصادي وتقدم الخدمات الأساسية للمواطنين والنظام في الشمال قائم على أساس الانفتاح الاقتصادي وحرية الاقتصاد ويعتمد على الأعراف أكثر من القانون الوضعي .
ويمكن القول إن مفهوم الوحدة كان مختلفاً لدى النخب السياسية الحاكمة في الشمال والجنوب وهذا الاختلاف يعود إلى طبيعة التنشئة السياسية والثقافية لكل منهما، فالوحدة التي سعى إليها الجنوبيون وناضلوا من أجلها وترسّخت في نهجهم السياسي هي وحدة تحمل مشروعاً وطنياً وقومياً تحديثياً يقوم على أساس الشراكة المتكافئة واحترام حقوق الآخرين وبناء دولة النظام والقانون. بينما الوحدة بنظر السلطة الحاكمة والنخب السياسية في الشمال قائمة على أساس السلب والنهب والظلم والعصبية وفقا لقاعدة التوحيد السبئي الحرق من الأساس، الذي يؤكد تاريخ الوحدة لديهم بالحرب والقتل لا على منطق الوحدة السلمية بين شعبين ودولتين ذات سيادة .
وفي هذا الصدد يشير د محمد حيدره مسدوس إلى أن الحركة الوطنية لم تخلق أرضية صالحة للوحدة، إذ اتخذت الوحدة عند إعلانها الطابع الحزبي نيابةً عن الشعب، وأن اتفاقية الوحدة تمت بين الحزبيين السياسيين ( الاشتراكي في الجنوب والمؤتمر في الشمال ) دون مشاركة القوى السياسية الأخرى أو الاستفتاء، فالاشتراكي مثلاً لم يجد للوحدة عند إعلانها غير الطابع الحزبي، وهذا الطابع شاهد على المفاهيم الخاطئة للحركة الوطنية ودليل على عدم شرعيتها وبطلان إعمالها ، والمفهوم الزائف للوحدة الذي تحمله النخب التقليدية الحاكمة في الشمال، عودة الفرع إلى الأصل وهو منطق الإمام نفسه لم يتغيّر، وهذا ما كشفته الأيام الأولى للوحدة عندما ظهرت الخلافات بين الطرفين، والتي بينت أن نظام صنعاء إنما كان يضمر إلحاق الجنوب بسلطته والاستحواذ عليه، وهذا ما أكده الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رئيس مجلس النواب السابق ورئيس حزب الإصلاح في مذكراته قائلاً : ” طلب الرئيس صالح منا بالذات مجموعة الاتجاه الإسلامي وأنا منهم أن نؤسس حزباً في الوقت الذي كنا ما نزال في المؤتمر فقال لنا صالح : كوّنوا حزباً يكون رديفاً للمؤتمر ونحن وإياكم لن نفترق وسنكون كتلة واحدة ، ولن نختلف معكم وسندعمكم مثلما المؤتمر، وأن اتفاقية الوحدة تمت بيننا وبين الحز ب الاشتراكي الذي يمثل الدولة في الجنوب وأُنا امثل المؤتمر والدولة في الشمال، وفي ظل وجودكم كتنظيم قوي سوف ننسق معكم بحيث تتبنوا مواقف معارضة ضد بعض النقاط والأمور التي اتفقنا عليها مع الحزب الاشتراكي وهي غير صائبة ونعرقل تنفيذها ).
وتم تأسيس حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي لعب دوراً في تأزّم العلاقة فعلاً بين طرفي الوحدة، وعرقلة تنفيذ اتفاقيات الوحدة في المرحلة الانتقالية. إذ ظلّت معظم مؤسسات الدولتين لا تخضع إلّا لقياداتها السابقة دون قيادة دولة الوحدة لاسيما المؤسسات العسكرية والأمنية . وفي أول انتخابات بعد الوحدة سنة 1993م، برز حزب الإصلاح ككتلة ثانية في الحياة السياسية متحالفاً مع الكتلة الأولى ” المؤتمر الشعبي العام” وهو التحالف الذي قام على أسس جهوية (الشمال)، فأظهرت نتائج الانتخابات عمق الأزمة بين الشمال والجنوب، فحصل الشمال على 245 دائرة للمؤتمر والإصلاح، بينما حصل الجنوب على 56 دائرة جميعها للاشتراكي فمثّلت هذه النتائج مؤشر إقصاء الجنوب من المعادلة السياسية في أي ائتلاف حاكم، وتصاعدت الأزمة بين شريكي الوحدة الجنوب والشمال ، وتم تبادل الاتهامات بينهما لتؤل الأمور إلى نشوب الحرب بين جيشي الطرفين في ابريل عام 1994م، اللذين تعثر اندماجهما، وإعلان القيادة الجنوبية فك الارتباط عن النظام في صنعاء في 21 مايو، بعد نشوء الحرب بشهر تقريباً، كرد فعل على إعلان الحرب وشنها على الجنوب . وانتهت الحرب بانتصار الطرف الشمالي بعد مرور 72 يوماً، كان الجنوب مسرحاً لها دمرت فيها الخدمات التحتية وراح ضحيتها الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين وشردت عشرات الآلاف من أبناء الجنوب إلى الخارج، وتم اجتياح جيش الجمهورية العربية اليمنية ” الشمال للجنوب ” وتم تعديل دستور الوحدة وإلغاء اتفاقيات الوحدة، إذ كانت الحرب من الناحية العملية قد أنهت مشروع الوحدة بين دولة الشمال ودولة الجنوب.
وقد بدا ذلك واضحاً عند مماطلة الطرف الشمالي في رفضه لدمج المؤسسة العسكرية، إذ كان ينوي الانقضاض على الوحدة واحتفاظه بالمرجعية العسكرية لشن الحرب على الطرف الآخر ، وهذا ما حدث بالفعل كما أسلفنا وذلك يدل على أن الحرب كان مخطط لها في قرار تفكير القائمين بها فضلاً على كونها ثاراً تمتد جذوره إلى الحروب السابقة التي قامت بين دولتي الشمال والجنوب كحرب 1972م وحرب 1979م، كما تحمل بصمات حرب يناير 1986م، وحروب النظام الجنوبي مع القوى السياسية المعارضة له الذي استطاع نظام صنعاء توظيفها في حربه على الجنوب والانتقام منه.
لقد كانت الحرب الظالمة على أرض الجنوب والتي استمرت 73 يوماً عاش فيها أبناء الجنوب تحت نيران المدافع والطائرات فلم تسلم منها حتى دور العبادة ومحطات الكهرباء والمياه التي انقطعت خلال الحرب على مدينة عدن تحديداً ، وأصدر مجلس الأمن قرارين 924 و931 في العام 1994م ، دعا فيهما لوقف إطلاق النار وعودة الطرفين إلى طاولة التفاوض، وبينما أبدي نظام الجنوب تفهماً لهذه القرارات بدا نظام صنعاء رافضاً لها، وتم اجتياح الجنوب وقتل وجرح فيها عشرات الآلاف من أبناء الجنوب.
وقد انعكست نتائج الحرب السلبية على الجنوب، والمتمثلة في تلك الإجراءات التعسفية بحق الجنوبيين، التي أحسستهم بالضيم والحرمان من حقوقهم المدنية والسياسية، وتعاملت السلطة مع الجنوب بطريقة أقرب إلى الاحتلال منها إلى الوحدة. فاسقطت الحرب مشروعية الوحدة وفكت الارتباط بين الشمال والجنوب في الواقع وفي النفوس فالوضع القائم في الجنوب بعد الحرب هو وضع اغتصاب بقوة السلاح وليس وحدة، وهو ما عبر عنه الطرف العسكري المنشق عن النظام الشريك الأساس في الحرب على الجنوب والمؤيد للثورة الشعبية الحالية عندما جاء في احد بياناته بأن النظام قد استعمر الجنوب.
لقد كانت صنعاء تعتقد أنّ الحرب التي شنتها على الجنوب ستكون مثل حروبها التاريخية في الشمال، لم تدرك أن حروبها تلك كانت على السلطة والحكم في الشمال، بينما حربها على الجنوب في 1994م بعد إعلان الوحدة بين الشمال والجنوب، هي حرب على الجنوب ومستقبله في الوحدة، فوظيفة الحرب على الجنوب هي إسقاط للوحدة.
وبالحرب أسقطت جميع اتفاقيات الوحدة والتي لم تنفذ معظمها في المرحلة الانتقالية 1990-1993م كما تم استبدال دستور الوحدة واستعادة نظام الجمهورية العربية اليمنية، وتشريد القيادات الجنوبية وحكم عليها بالإعدام ، وأصبح يوم 7 يوليو هو يوم الوحدة المعمدة بالدم وظل نظام صنعاء يحتفل به كل عام بوصفه العيد الرسمي للوحدة- المعمدة بالدم- فالوحدة لا تقوم على منطق سفك الدماء والقوة العسكرية والاغتصاب فذلك غزو وليست وحدة . إذ كانت الحرب ونتائجها التي تمثلت في طبيعة تلك الممارسات قد أثبتت عدم وجود وحدة في الواقع، إذ تم تسريح عشرات الآلاف من العسكريين والمدنيين الجنوبيين من أعمالهم. وطمس تاريخهم الثقافي والسياسي والاستيلاء على الأراضي وأملاك الدولة والثروة في الجنوب من فيداً وغنائم للمشاركين في قيادة الحرب من الشماليين وحرمان الجنوب منها ، وقد خلفت الحرب شروخاً عميقة في الشخصية الجنوبية فتشكل لدى الجنوبي وعي بالقهر السياسي والاجتماعي ناتج عن تلك الإجراءات والممارسات الوحشية والقذرة التي يمارسها ضدهم الشماليين في مختلف المجلات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية .
يمكن القول أن الحرب قد أدّت إلى إقصاء الجنوب الشريك الأساسي في معادلة الوحدة تماماً والاستحواذ على السلطة والثروة ، واحتكار الحكم في يد عصبة، وباسم الادعى بالوحدة والحفاظ عليها تم تحويل الجنوب أرضاً وإنساناً وثروةً إلى غنيمة وفيد حرب- كما اعترف بذلك فرقا الصراع الدائر حالياً في صنعاء- فالمنتصر في الحرب امتلك الدولة ومواردها من ثروة وطنية وإقصاء الجنوب من شاركته الفعلية في العملية الإنتاجية والسياسية، وذهب إلى تعميم ثقافة الجمهورية اليمنية ونظامها السابق، وشمللة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة على أسس الغنيمة وتدمير كل مؤسسات الجنوب المدنية والعسكرية والثقافية لصالح الشمال.