د. ياسر اليافعي
نحن جيل كُتب علينا أن نعيش كل مرحلة من حياتنا وسط حرب لا تنتهي. جيل عايش تناقضات سياسية ودينية واجتماعية لم تتوقف عن ملاحقته، جيلاً وجد نفسه بين ليلة وضحاها ينتقل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، من شباب يحمل طموح إكمال التعليم إلى شباب يبحث عن طوق نجاة في الغربة بعد كارثة 1994.
كبرنا على تناقضات سياسية محيرة؛ رفعنا شعارات تمجد الوحدة اليمنية بحماس غامر، ثم وجدنا أنفسنا نرفع شعارات معادية لها بخيبة أمل وألم. كنا جزءًا من انفتاح واعد، لنجد أنفسنا فجأة محاصرين في زوايا التشدد، حيث أصبح كل شيء من حولنا محرمًا، من الأغاني إلى أبسط ذكريات الطفولة كصور قديمة طالبونا بتمزيقها وكأنها جرم.
حتى هويتنا، التي كان يفترض أن نكبر ويكبر حبها معنا، اختطفت منا وضاعت وسط دوامة من التشكيك والصراعات والحروب. ضاعت بين بقايا مشائخ وسلطنات، وجمهورية اشتراكية، ومشروع وحدة فاشل منذ مهده، وصراع سياسي لا ينتهي مزق كل أواصر التمسك بهوية نشأنا عليها في طفولتنا وسلبوها منا عندما كبرنا. وحتى الهوية التي حاولنا أن نحبها غصبًا عنا في مرحلة من المراحل، وجدناها وكأنها لا تريد أن نحبها أو ننتمي إليها، فالهوية والوطن هما حيث أجد كرامتي ونفسي .
وتبقى المشكلة أن صناع الأزمات في هذا البلد يرون أنفسهم صناع إنجازات وانتصارات. يتفاخرون بما يزعمون أنه إنجازات، بينما الحقيقة لا تحمل إلا الفقر والجوع والهجرة والنزوح، مع مغادرة العقول والكفاءات التي كان بإمكانها إنقاذ هذا البلد، وبقاء أصحاب الشعارات الجوفاء والمزايدات والنفاق. لقد صار البلد مليئًا بالكذب والنفاق، وكأن هذه العلل أصبحت قدرًا لا مفر منه.
كبرنا على شعارات حزبية لم تكن يومًا واقعية، شعارات رنانة تمجد النفاق والكذب السياسي. الحروب والأزمات لم تترك لنا فرصة لنثبت أنفسنا، فكلما حاولنا الخروج من محنة، أدخلونا في محنة أشد منها، حتى باتت حياتنا سلسلة من الصراعات التي لا تنتهي.
تركونا نصارع الزمن ونتساءل: من المسؤول عن كل هذا؟ أهي السنوات التي جرت بنا أم أن هناك من تعمد إغراقنا في دوامة الضياع؟
كبرت المتاهات في حياتنا كلما تقدمنا في العمر، حتى أصبح أقصى أحلامنا هو تحقيق الاستقرار الوظيفي والعائلي. لم نعد نحلم بأكثر من أن يكمل أولادنا فصول دراستهم في مدرسة واحدة، أن يعيشوا في منزل يعرفونه، منزل لا يضطرون إلى مغادرته كما غادرنا نحن منازلنا مرارًا وتكرارًا.
تعبنا من الترحال، من التنقل، من التناقضات التي أنهكت أرواحنا وأحلامنا. حتى بصيص الأمل يتلاشى كلما رأينا أخطاء الماضي تتكرر، وتتضخم دون حلول تُخرجنا من هذه الدوامة.
تموت الأجيال، تُدفن أحلامها، لكن الشعارات الكاذبة تستمر، تلتهم ما تبقى من أجيال جديدة، تُبقيهم عالقين في نفس الفخ الذي وقعنا فيه.
لكننا نبتهل إلى الله أن يجعل لنا مخرجًا، لعلنا نرى نورًا وسط هذا الظلام الدامس.