fbpx
مقاربات في إشكالية لهوية (11)

 

كتب – د. عيدروس ناصر النقيب

 علينا أن نتذكر أن مناوشات عديدة شهدتها المناطق الحدودية بين محافظات شبوة-ومأرب، وحضرموت-الجوف، وأبين-البيضاء، فضلاً عن أعمال التخريب التي تعرضت لها المديريات الجنوبية الواقعة على الحدود مع الشمال، وكل هذا كان في معظمه محاولات من قبل نظام صنعاء لاختبار القدرات الجنوبية في التصدي ـ أو العجز عن التصدي ـ لأي محاولات للزحف العسكري على الجنوب، وقد أثبتت القوات المسلحة الجنوبية قدرتها على إفشال أية محاولة لجرها إلى حرب واسعة طويلة المدى، رغم النزيف الذي تعرضت له جراء أحداث يناير، وما خسرته من كوادر وكفاءات عالية التأهيل بين شهداء أثناء المواجهات، أو نازحين بعد توقف تلك المواجهات.

بل لقد قدم الجنوبيون العديد من المبادرات للسير باتجاه مزيد من تحسين العلاقات بين الدولتين بدلاً من المواجهات، مثل العمل على قيام مناطق مشتركة للتنقيب عن النفط، وقيام شركات مشتركة في مجالات السياحة والاستثمار، وتنقل المواطنين عن طريق البطاقة الشخصية والسماح للمرضى الشماليين بالعلاج المجاني في مستشفيات الجنوب، وغيرها.

وبعبارة أخرى فقد دخل الجنوبيون في مشروع الوحدة بهدف إغلاق ملف المواجهات بين الشعبين والنهوض الشامل بكل اليمن في الشمال والجنوب، حيث أن الأوضاع المعيشية والاقتصادية عموماً وحتى الأمنية في الشمال لم تكن أفضل حالاً من نظيرتها في الجنوب لا من حيث القدرات العسكرية ولا من حيث الموارد المالية ولا من حيث الوحدة السياسية الداخلية، فاعتبر الجنوبيون مشروع الوحدة مدخلاً للتخلي عن الصراع الشمالي-الجنوبي والتنمية الشاملة للشمال كما للجنوب.

أما القيادة الشمالية  فقد دخلت –كما قلنا- بمشروع الغنيمة منذ اللحظات الأولى وفي حين كان الجنوبيون يعدون التصورات والمخططات لبناء “اليمن الواحد الجديد” كان القادة الشماليون يخططون للغنيمة التي سيحصلون عليها بعد التهامهم الجنوب.

ولهذا فقد سارت الأحداث كما شاهد الجميع منذ اليوم الأول بتصادم المشروعين أو الخلفيتين اللتين بنيت “الوحدة” عليهما، ولم تكن حرب 1994م وما أفضت إليه من نتائج ومآسي ودمار وعذابات لم تنته في حياة الجنوبيين، لم تكن سوى تعبيرٍ عن تصادم هذين المشروعين.

لا يمكن الجزم أن اتفاقية 30 نوفمبر 1989م وبيان 22 مايو 1990م قد أسسا لقيام “وحدة يمنية” قابلة للحياة، نظراً للأسباب التي توقفنا عندها على عجل، وهناك أسباب عديدة يمكن تناولها في سياق آخر وفي دراسة أكثر توسعاً وتفصيلاً، من بينها أسباب موضوعية وتاريخية ومنها أسباب ذاتية وثقافية ونفسية وسياسية، لكن ملخَّص كل هذا أن اتفاقية 30 نوفمبر 1989م وبيان 22 مايو 1990م كانا عملاً ارتجالياً غير قائم على دراسة مستوفية لممكنات النجاح وعوامل الفشل ولا على الحرص على تأمين ظروف الاستمرار والنمو المتدرج المتصاعد حتى بلوغ الغايات بعيدة المدى لما كان يقصده الدعاة الأوائل لمشروع “الوحدة اليمنية” على طريق “الوحدة العربية” (كما ظل المتغنون يغنون والمرددون يرددون)، وأقلها أن الاتفاق لم يتضمن أية افتراضات لحصول إخفاق في تنفيذ بنوده ولا شروط جزائية تردع من يتخلى عن التزاماته أو ينكث بما تعهد به أو يخالف شروط الاتفاق وبنوده، ناهيك عن أمور كثيرة لم تؤخذ بعين الاعتبار كالفوارق السياسية والاقتصادية بين الدولتين والبلدين والشعبين، ونعني هنا التفاوت بين البلدين الشريكين في هذه “الوحدة”، في السياسات الاقتصادية المتناقضة وسياسات الملكية وفرض القانون والنظام القضائي، ومثلها التباينات الديمغرافية والجغرافية، أي التفاوت في المساحة والسكان وفي مصادر الثروة، وهي الأسباب التي أدت إلى السقوط الحتمي لـ”مشروع 22 مايو 1990م”، ليلي ذلك ربع قرن من الفشل والنزاع والتوتر والمعانات والعذابات غير المنقطعة التي تعرَّض لها الجنوبيون وما يزالون يتعرضون لها حتى يوم الناس هذا.

وبالعودة إلى موضوع “الهوية اليمنية” المفترضة ومن الناحية الشكلية كان من  المفروض ومع إعلان 22 مايو1990م أن تنبت على الأقل البذور الأولى لـ”الهوية اليمنية الواحدة” بعد أن توفر الضامن السياسي لها وهو نظام الحكم (الواحد) والدولة (الواحدة) في اليمن (الذي من المفترض أنه موحَّد) في ظل الدولة الجديدة (المفترضة).

ومن الطبيعي أن أحداً لم يكن يتوقع أن تنشأ الهوية اليمنية الواحدة بمجرد إعلان “الوحدة” الاندماجية بين طرفي هذه “الوحدة”، لكن كان من المنطقي أن تتوفر ظروف جديدة تنتفي فيها عوامل العداوة والكراهية السياسية بين الشعبين والطرفين السياسيين وتذوب أو على الأقل تتقلص فيها الفوارق في الحقوق والواجبات وتنشأ فيها المواطنة ذات الدرجة الواحدة لجميع المواطنين وتنتفي أو تتراجع فيها الهويات المتعددة، بيد إن كل ذلك للأسف لم يتم لعدة أسباب أهمها إن عملية الوحدة تمت بين نظامين مختلفين في موقفهما من الهوية:

• نظام يقوم على الهوية الواحدة والمواطنة المتساوية التي يمثل التنوع الثقافي والتباين في العادات والتقاليد والتفاوت في مصادر المعيشة وموارد الاقتصاد عامل إثراء وتماسك وتكامل بين مكونات المجتمع.

• ونظام يقوم على تعدد الهويات وتفاوت مستويات المواطنة وغياب أهم الروابط الأساسية المكونة للهوية الواحدة وهي المصالح المشتركة بين المواطنين كالحياة الاقتصادية المشتركة، والخدمات ومصادر المعيشة المشتركة، والقانون الضامن للمواطنة المتساوية، والنفسية الاجتماعية الواحدة المنطلقة من الشعور بالمساواة في الحقوق والواجبات، وهذه الوضعية المزدوجة أثرت بشكل واضح على مسار تكوين الهوية اليمنية الواحدة الغائبة أصلاً.

من المؤسف أن هذه العوامل متظافرة مع ما شهدته ما سميت بالفترة الانتقالية (1990ـ1993م) من توترات سياسية وتهديدات أمنية وعمليات اغتيال ومحاولات اغتيال للقادة السياسيين الجنوبيين وما نجم عن ذلك من أزمة سياسية استفحلت وتنامت خلال الأعوم الثلاثة التي تلت إعلان مايو 1990م، كل ذلك تفاعل مع بعضه باتجاه إعاقة أية مؤشرات يمكن أن تسمح ببناء هوية واحدة وامتد أثره على الهوية الجنوبية التي كانت قد اكتسبت ملامحها خلال العقدين والنصف المنصرمين.

ويجب على الباحث الدقيق والأمين ألّا ينسى حقيقة هامة، تتمثل في أن حرب التعبئة والتحريض على النظام الجنوبي، والشعب الجنوبي بعامةٍ، تمتد إلى مراحل ما قبل إعلان 22 مايو، بل وتعود إلى فترات النزاع والمواجهات المسلحة بين الدولتين، خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وكانت الدعاية الأكثر ترويجاً بين المواطنين في مناطق الجمهورية العربية اليمنية تقول إن النظام في الجنوب “يرتكب المحرمات”، و”يبيح المعاصي” و”يقتل العلماء”، و”يسمح بزناء المحارم” و”المعاشرة الجنسية دون زواج”، وإن الجنوبيين “حولوا المساجد إلى خمارات وملاهي ليلية يشربون فيها الخمور ويمارسون فيها الرقص والغناء” وغير ذلك من الدعايات التحريضية التي تعتمد على الزيف والبهتان والافتراء ومخاطبة العاطفة الدينية والقبلية عند أبناء اليمن من أجل تهيئتهم لخوض المعركة المصيرية مع “الكفار” القادمين من الجنوب.

وأثناء الحرب كرر عبد المجيد الزنداني ـ رجل الدين والقيادي في حزب الإصلاح وعضو مجلس الرئاسة عن هذا الحزب ـ كرر في كل خطبة ولقاءاته التحريضية في المساجد والمعسكرات ومهرجانات الحشد للجبهات، “أن الحزب الاشتراكي قد قرر أن يغزو الجزيرة العربية ويدخل مكة ليحول الحرم المكي الشريف إلى ملهى ومرقص ليلي”، وهذا النص ونصوص مشابهة من خطاباته وخطابات أتباعه أيام الجُمَع وفي الأيام العادية ما تزال قيد التداول حتى اليوم.

وعلى هذه الخلفية جاءت الفتوى المشهورة للداعية الإصلاحي عبد الوهاب الديلمي أثناء احتدام المعارك بين جيشي البلدين، وكان الديلمي حينها وزيراً للعدل في حكومة 1993م، والتي قال فيها إنه “إذا تترس الكفار بالنساء والأطفال والعجزة فإنه يجوز قتل النساء والأطفال والعجزة مع إنهم مسلمون، لكن حتى لا ينتصر الكفار، وأضاف “إن قتل المسلمين من النساء والأطفال المتترس بهم مفسدةٌ صغرى ويجب اللجوء إليها لاتقاء المفسدة الكبرى وهي انتصار الكفار على المسلمين” ومن ثم أباح قتل النساء والأطفال والعجزة الجنوبيين بصفته الأولى كوزير في حكومة الحرب على الجنوب، وبصفته الثانية كداعية إسلامي معروف لدى كل الأوساط السياسية والدينية اليمنية والعربية.

إن حرب 1994م وما آلت إليه من (انتصار) لثقافة الهيمنة والفيد والغنيمة واستفحال عوامل ثقافة الغلبة قد مثل ضربة موجعة للجنوب، ليس فقط كنظام سياسي وعلاقات اقتصادية واجتماعية ومنظومة قوانين وتشريعات وشريك أساسي في “المشروع الوحدوي” (المفترض)، بل -وهذا هو الأهم- إن هذه الحرب قد استهدفت اجتثاث أهم ما نجح فيه النظام السياسي السابق في الجنوب وهو بنا عوامل المواطنة والتأسيس للهوية الجنوبية الواحدة التي نمت وترعرعت وترسخت خلال ما يزيد على ربع قرن ما قبل الحرب، وبطبيعة الحال فإن آثار هذه الحرب كانت مدمرة على الكثير من مكونات وأسس الدولة الجنوبية التي ورثت تراثاً إدارياً وقانونياً وتقاليد مؤسسيةً عن النظام الإنجليزي وجرى تطويرها من خلال العديد من الإجراءات الحداثية التي اتخذتها سلطة ما بعد الاستقلال.

لقد كان لحرب 1994م آثارٌ مباشرةٌ أو غير مباشرةٍ على موضوع الهوية وهذا ما سنحاول التوقف عنده في حلقة قادمة من هذه السلسلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*   ملخصات من كتاب المؤلف “القضية الجنوبية وإشكالية الهوية”.