fbpx
مقاربات في إشكالية الهوية (5)

 

كتب – عيدروس نصر ناصر النقيب.
تمظهرات نشوء وتطور الهوية الجنوبية
=============
قبل الخوض في أشكال وصور تمظهرات نشوء وتطور الهوية الجنوبية لنتذكر أنَّ أهم مقومات الهوية كما تعرضنا لها في وقفة سابقة تتلخص في:
• الوحدة الجغرافية لأصحاب الهوية المشتركة.
• الثقافة الشعبية.
• الذاكرة التاريخية المشتركة.
• الاقتصاد المشترك.
• الحقوق والواجبات المشتركة.
• المصالح المادية والمعنوية المشتركة لأصحاب الهوية الواحدة.
وكما أسلفنا في وقفة سابقة فقد بدأت بذور الهوية الجنوبية تتبرعم من خلال نشوء الحركة الوطنية الجنوبية، بشكليها النقابي والسياسي، الرافضة للوجود الاستعماري وما رافق ذلك من انتشار وتوسع للمنابر الإعلامية الجنوبية في مدينة عدن وبعض مدن وعواصم السلطنات والإمارات، ودورها في نشر ثقافة التحرر والرفض للسياسات الاستعمارية، وجاء فجر الاستقلال وإعلان الدولة الجنوبية الوليدة ليمثل ميلاداً حقيقياً لهوية جديدة ستتبلور وتنمو وتتسع وتترسخ جذورها في عمق التربة الجنوبية خلال ربع قرن من عمر الدولة الجنوبية الجديدة، بيد إن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي شهدتها البلاد مهما كانت متواضعة، قد كانت دافعاً رئيسيا لتعميق روح الهوية الواحدة دون إلغاء المزايا والخصائص للهويات المحلية وما فيها من تنوع.
وهنا سنتوقف بصورة موجزة عند أهم ملامح تبلور وتمظهر الهوية الجنوبية  التي نمت وترسخت وحلت محل أكثر من 23 هوية سابقة.
   1. الثقافة الشعبية الجنوبية.
الثقافة الشعبية هي سمة تاريخية ملازمة لقيام الأقوام والأمم والشعوب، وهي تكتسب صفتها التاريخية من خلال مظاهر عديدة منها المدون والمكتوب مباشرة أو غير مباشرة، كالأسلاف والأعراف، ومنها المتناقل بشكل شفوي عبر الأزمنة والقرون، كالأساطير والقصص الشعبية وقصص الأطفال غير المكتوبة، ومنها ما يتجسد في مجسمات مادية كأدوات الاستعمالات المنزلية والمهنية والملابس التقليدية وأدوات الزينة ومنها ما يتصل بالعلاقات التقليدية والعادات والتقاليد الشعبية المتوارثة كأفراح الزواج والميلاد وتقاليد تأبين الموتى وأشكال التعاون والتعاملات التقليدية بين الأسر والأصدقاء أو بين العشائر والفخائذ.
وهذه المظاهر لازمت مختلف مناطق سلطنات ومشيخات وإمارات الجنوب وجماهيرها خلال مئات السنين، وعبرت عن مظهر من مظاهر هويات تلك الكيانات والمكونات، كلٍ على انفراد وهي تتشابه أحياناً لدى بعض تلك الكيانات لكنها قد تختلف اختلافاً نوعياً في كثير من الأحيان، وإذا كان ميلاد الدولة الجنوبية قد فتح الآفاق أمام تنامي الهوية الجنوبية فإن المظاهر الثقافية الشعبية قد اتخذت منحيين في التعبير عن نفسها فأولاً نشأ نوع من الاندماج بين العديد من مظاهر الثقافة والفولكلور الشعبيين وظهرت المنتجات الثقافية الجديدة المعبرة عن الوضع الجنوبي الجديد، ومن ناحية أخرى شكل التمايز بين هذه المظاهر طيفاً متزاوجاً ومتناغماً في لوحة ثقافية شعبية واحدة انتفى معها الكثير من أسباب التناقض والتعارض والتصادم بين الكيانات السياسية التي ذابت في الكيان السياسي الجديد، وبعبارة أخرى فإن اندماج المكونات السياسية المناطقية في الكيان السياسي الجديد، “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”، قد خلق الظروف اللازمة لاندماج وتناغم وتكامل مظاهر الثقافة الشعبية دون أن يلغي ما بينها من تمايزات خلاقة وإيجابية أثْرَت اللوحة وأغنت مضامينها دون أن تتناقض فيما بينها.
وعلينا أن لا ننسى الدور الكبير الذي لعبته مدينة عدن العاصمة،  كمركز استقطاب سكاني تدفق إليه مئات الآلاف من القادمين من الأرياف في إطار الهجرة الداخلية، في تقريب الوعي الثقافي بين الوافدين إليها وصناعة تلك الثقافة الجديدة التي تحولت شيئا فشيئا من معارف ومكتسبات معلوماتية جديدة وطارئة بالنسبة للكثيرين منهم إلى ثقافة يومية تتجسد في سلوك الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الجهوية أو المناطقية السابقة.
ولتأكيد هذا يمكننا الإشارة إلى مثالين حيين عبرا عن نشوء الثقافة الجديدة التي تحولت طوال ربع قرن إلى ثقافة شعبية جنوبية عامة:
 فظاهرة حمل السلاح والتفاخر به كانت ملازمة لكل مناطق الجنوب ما قبل الاستقلال، باستثناء مدينة عدن، وعواصم بعض السلطنات والإمارات، لكنها بعد الاستقلال وإنهاء النزاعات القبلية والجهوية والعشائرية ما بين المناطق أو بين فخائذ وعشائر المنطقة الواحدة، صار الاستغناء عن السلاح أمراً مفهوماً وشبه ملزم قبل صدور قانون تنظيم حمل وحيازة السلاح وإطلاق الأعيرة النارية، وتحول حمل السلاح من ظاهرة يومية تكرس ثقافة التفاخر والمباهاة والاستعراض، إلى سلوك مستهجن ومستفز، وصار من يحمل السلاح في المدينة أو حتى في الريف يبدو كحالة غريبة ومزدراة، فضلاً عن إنها مخالفة للنظام العام، بل إن الكثيرين صاروا يشعرون بالخجل من مظاهرهم إذا ما اضطروا لحمل السلاح الناري أو حتى السلاح الأبيض (الجنبية).
والمثال الثاني ويتمثل في الاحتكام إلى الأعراف القبلية، التي لم تكن دوماً صائبة وعادلة، في فض المنازعات بين الأفراد أو الجماعات، وهذه الثقافة ظلت لقرون هي الوسيلة الوحيدة لإصلاح ما بين المتنازعين، وفي كثير من الأحيان كان هذا النوع من العلاقة يتحول إلى وسيلة لابتزاز المتنازعين وإثراء الوسطاء من خلال إطالة أمد التنازع ورفع الإتاوات المفروضة على المتنازعين كمكافآت للوسطاء.
لقد اختفى هذا التقليد ولم يعد له أي حضور في  تنظيم العلاقة بين الناس، بل لقد تراجعت النزاعات الناجمة عن استخدام السلاح في حل الخلافات وصار المتنازعون على خلفية أية قضايا حقوقية أو مدنية أو جنائية لا يحتكمون إلا إلى اللجنة الشعبية أو الفلاحية أو لجنة الدفاع الشعبي لاحقاً (وهذه هيآت شعبية طوعية معتمدة لدى السلطات الرسمية، وتنتظم تحت القانون المعمول به في البلد)، ثم إلى مركز الشرطة وقاضي المحكمة، وهو ما يعني تخلُّق نوعٍ جديدٍ من العادات والتقاليد المدنية الراقية والموحدة بديلاً عن الأعراف والتقاليد المتخلفة أحياناً والمتباينة غالباً من منطقة إلى أخرى.
هذان النموذجان يبينان لنا كيف تَخلَّقَ نوعٌ جديدٌ من الثقافة الشعبية المختلفة التي شقت طريقها بفعل قيام النظام الجديد بعد عقود من أزمنة الولايات والإمارات والسلطنات التي لم تكن دوماً متوافقة ومتجانسة.
وما ينطبق على هذين النموذجين ينطبق على الكثير من مجالات الثقافة الشعبية، كأعراف الزاج والمغالاة في المهور، والأشعار والأهازيج الشعبية، التي انتقلت من تبادل الهجاء والفخر إلى تقديس القيم الوطنية الجديدة التي لازمت قيام المجتمع الجديد ومن التباهي بالقبيلة والعشيرة إلى التباهي بالوطن والمواطنة.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الثقافة الشعبية الجديدة لم تنشأ بين عشية وضحاها بل لقد تخلقت ونمت وسط معترك صامت مع بقايا الثقافات المعيقة لعملية الاندماج الوطني والتي لم تضمحل وتتلاشى إلا بعد فقدانها أسباب البقاء وعجزها عن مواكبة معطيات الحياة الجديدة ومتطلباتها، لكنها ما لبثت إن انبعثت من جديد عند ما تعرض الجنوب للانتكاسة التاريخية في العام 1990، ثم 1994م.