مقالات للكاتب
هاني مسهور
يبدو أن ثمة انحساراً لتيارات الإسلام السياسي وأن تراجعاً حدث لها بعدما استوعبت الشعوب العربية خطر تلك الأفكار عليها وعلى مستقبلها.
هذا ما تبدو عليه الصورة، غير أنها في الواقع لا تعكس حقيقة أن التيارات الإسلاموية تعيش حالة انكفاء اضطرارية، فهي لم تُقدم مع كل ما نالها من هزائم – مراجعات فكرية تؤكد بها أنها خسرت رهاناتها، وأنها لن تعود مرة أخرى لمساعيها، هذه ليست قراءة متشائمة بمقدار ما هي واقعية، فالأصولية مازالت عند مفاهيمها، ومازالت متمسكة بمعتقداتها ما دامت كتب التراث العربي على حالها، وعلى كل أرفف المكتبات وفي متناول الناس الحصول عليها.
المحك دائماً في الاحتكاك المباشر مع هذه التيارات لتبدي حقيقة أنها مازالت في خنادقها ووراء متارسها تصدر خطابات التكفير مع كل اقتراب من ما تراه هي أنه مساس بمكامن وجودها، السيطرة على الأدمغة وتحويلها لبنادق قابلة للقتل هي التي مازالت تحافظ عليها كل التيارات المتطرفة التي لم تقدم مراجعة نقدية لعقيدتها، فيما تقدم نفسها باعتبار أنها معتدلة ووسطية وأنها تقوم بأدوار دعوية وإصلاحية للحفاظ على القيم والعادات المجتمعية، بينما هي ترفض أن تقدم آراء واضحة حول مفاهيم «الحاكمية لله»، والولاء والبراء، والخلافة، وتقديم تعريفات واضحة للعلمانية والديمقراطية وحتى الليبرالية، وهي مقومات الدولة الوطنية المنشودة والتي يجب على المجتمعات العربية السير ناحية ترسيخها.
التيارات الأصولية مازالت ترى حصرية امتلاكها للحقيقة دون غيرها، وأنها تمتلك السلطة المتصلة بالسماء، وفي الحقيقة أن التيارات المتشددة وجدت ثغرة للتملص من مسؤولياتها عن ما اقترفت من جرائم قتل وسفك للدماء عبر سنوات سيطرتها المطلقة وما وظفته من قيّم دينية لخدمة أجنداتها الإرهابية، فكرة التحول إلى الانكفاء جاءت اضطرارية بعد الثورة المصرية في 30 يونيو 2013 وإسقاط حكم جماعة الإخوان وما تلي ذلك من أحداث دفعت بهذه التيارات إلى الانكفاء والاكتفاء بلعب الأدوار الباطنية.
الانسحاب الأميركي من أفغانستان منح المتأسلمين جغرافية من الأرض بإمكانهم توظيفها بما يريدون وكيف يشاءون، هذا واقع وليس تحليلاً، كذلك يحدث في شمال اليمن الذي تذهب القوى الراديكالية الحوثية لفرض سياسة الأمر الواقع، هذه حقائق حتى وإن هي مؤلمة وصعبة، غير أنها موجودة لأن هناك اعتبارات اعتقدت أن لابد من القبول بالتيارات الأصولية والتماهي معها حتى تذويبها في المجتمعات الوطنية، وهذا اعتقاد خاطئ تماماً، فلا يمكن أن يختلط الماء مع الزيت، كما أن من المستحيل أن تقبل الأصولية بالليبرالية، فالشيء لا يتعايش مع نقيضه، حتى وإن كانت الليبرالية قادرة على احتواء كافة الأفكار، إلا أن الأصولية ترى أن أي مفهوم غيرها هو كفر مرفوض شرعاً، بحسب تفسيراتهم غير القابلة للمناقشة. من المفارقة أن أصحاب الفكر المتأسلم يقدمون أنفسهم على أنهم دعاةٌ للحرية والعدالة والمساواة، بينما هم أعداء لهذه المفاهيم جملة وتفصيلاً.
ومن العجيب أن هناك قبولاً بهكذا مزاوجة مع الانكفاء الاضطراري مع معرفة الجميع أن لعبة الذئب والغنم هي الحاضرة في ما يحدث، لذلك بات من الضرورة القصوى اتخاذ خطوات جادة للدعوة لإصدار قرارات من أعلى سلطات سياسية عربية بتجديد الخطاب الديني، ووضع حد قاطع مع هذه المراوحة التي لن تنتج غير عودة الذئب ليأكل الغنم متى ما وجد فرصة الانقضاض المواتية.
هذه فرصة للدول الوطنية لتقوم بما عليها القيام به من أجل تصحيح الأخطاء وفتح مسار آمن للمجتمعات لتتحول إلى الإنتاج والتنمية بعد عقود طويلة من الارتهان لسطوة الأصوليين ومعسكرهم الرافض للعلوم. فالأمم ذهبت إلى الإنتاج بالانفتاح على الآخر بثقافاته وأفكاره. فالقطيعة مع الماضي ضرورة حتمية، فهل من قرارات تأتي أو نصحو على الذئب وقد عاد؟
صحيفة الاتحاد