من أقوال خالد الأثر ابن خلدون: «إن التاريخ في ظاهره لا يزيد على الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق»، وهذا ما يجدر بالحضارمة أن يأخذوا به بعد ألفية أولى من القرن الحادي والعشرين، شهدت حراكاً فاعلاً عمد إلى بعث الهوية الحضرمية من مرقدها بعد عصور من دفنها على أثر تراكمات وتجريفات، وهذا ما يحفز على تناول ما يراه البعض من المحظورات فيما يتعلق بالقراءة النقدية للحركة السياسية في بلاد هي بلاد التنوير والفكر والآداب والفنون، ومع ذلك غابت القراءات النقدية الموضوعية، ما أتاح ظهور جدليات فارغة الفهم والاستيعاب للأثر السياسي الحضرمي في ما تلا نشأة الدول الوطنية في العالم العربي.
عبر التاريخ شكّلت المَهاجر الحضرمية رافداً تنويرياً بحكم اختلاط المهاجرين الحضارمة بالشعوب والثقافات، وهي سمة من السمات الخالصة في هذه البلاد. «عمر سالم باعباد» هو مهد الحكاية الحضرمية التي شكلت بداية الحركة الوطنية السياسية في شبه الجزيرة العربية. فالرجل الذي جاء من العراق حاملاً مبادئ القومية العربية ومتأثراً بها في الربع الأول من القرن العشرين، نشط في محاولاته استنهاض مجتمعه لمقاومة الاستعمار البريطاني ورفض الوصاية على السلطنات والمحميات الشرقية لمستعمرة عدن وحاول من خلال شعار تحرير حضرموت من التبعية البريطانية ووحدة حضرموت.
وأصدر بياناً أكد فيه وحدة المنطقة بأكملها وأن وحدة حضرموت تعتبر دعامة من دعائم الوحدة العربية الشاملة. وشكلت دعوته بعد تأسيسه أول تنظيم سياسي (جمعية الغرفة التعاونية) نقطة البدء العملية بوضع مسودة الدستور الوطني للدولة بحدودها من عدن إلى ظفار سابقاً.
المهاجرون الحضارمة كانوا أصحاب الأثر في الحركة الوطنية، وتعزز دورهم بعودة المحامي الفذ «شيخان الحبشي» إلى حضرموت، وهو الشخصية الأكثر فاعلية في دفع التيار التحرري الوطني بعدما انتقل إلى عدن وشارك في تأسيس «رابطة الجنوب العربي»، وهي الرافعة الوطنية التي أطرت مفهوم العمل السياسي الداعي بجدية لجلاء الاستعمار. البعد القومي كان ظاهراً على امتداد البلاد في جنوب الجزيرة العربية، حتى أن الحركة الطلابية في المدرسة الوسطى بغيل باوزير، التي كانت ضمن السلطنة القعيطية، قامت باعتصام طلابي تضامناً مع ثورة الضباط الأحرار المصرية في يوليو 1952 مما يؤكد مدى العمق القومي في الحركة الوطنية.
الزعيم جمال عبدالناصر ساهم بقوة في دعم الجبهة القومية ضمن توجهاته لمقاومة الاستعمار، وهو ما أثمر تحقق الاستقلال الأول بجلاء بريطانيا عن عدن في 30 نوفمبر 1967، وهو الاستقلال الذي أسهم لاحقاً بتسريع انسحاب بريطانيا من بلدان الخليج العربي كاملاً وتحقق السيادة الكاملة، في واقع الحال كان ما سجله «باعباد» في مسودته الدستورية حصل بالكامل، فلقد تشكلت دولة بحدودها السياسية من عدن إلى المهرة.
الأثر الحضرمي امتد ما بعد الاستقلال بفاعلية النخب الفكرية صاحبة البصمة الاشتراكية بما حملته أفكار عبدالله عبدالرازق باذيب، والذي وضع النهج اليساري التقدمي في مفهوم الدولة الوليدة، ضمن عقيدتها لمواجهة الأفكار الرجعية.التأثير الحضرمي السياسي انتشر على امتداد الدولة في تمثيل الأمانة العامة للحزب الاشتراكي الحاكم.
وكان علي سالم البيض أحد أبرز شخصيات حركة «القوميين العرب» لعب أدوراً سياسية كبرى، بالإضافة إلى «حيدر العطاس» وغيرهما من الشخصيات التي تولت مقاليد السلطة، حتى أن الشخصيات التي أشرفت على التأميم كانت حضرمية، فلم يأتِ أحد من خارج حدود حضرموت ليقود تلك العمليات المجحفة بحق الشعب كما حصل في كافة الجغرافية الجنوبية، فكل تلكم الأحداث قام بها أبناء المحافظات أنفسهم في محافظاتهم ومناطقهم.
هذه السردية التاريخية تقودنا إلى حضرموت بين الظالمة والمظلومة في القراءة النقدية للتاريخ السياسي، فرجالات هذه البلاد كانوا جزءاً لا يتجزأ من الأفعال وتأثيرهم واضح في سياسات البلاد وما وصلت إليه من حال. الباحثون عن مظلومية عليهم أن يتجردوا ويعيدوا قراءة التاريخ بوعي واستدراك، فحضرموت ذات أثر وصاحبة القرارات الكبرى ولا يمكن تصغيرها تحت أي ذرائع كانت.
القراءة النقدية تضع حضرموت شريكاً في الإخفاقات والنجاحات من نشأة الحركة الوطنية، مروراً بكل المراحل حتى اللحظة التي أسقطت فيها صنعاء آخر الحضارمة خالد بحاح. الشراكة بمفهومها تقود إلى النظر والتحقق في حوادث التاريخ بمسؤولية وأخلاق النبلاء.