محمود السالمي
لم تكن الثورة المسلحة التي قادتها الجبهة القومية هي العامل الحاسم في سقوط الاتحاد الفدرالي، فقد كان لدى الاتحاد جيش قوي ومحترف لا يمكن للعدد المحدود من فدائي القومية والتحرير أن يهزموه، وفوق ذلك فقد كانت الجبهتان (القومية والتحرير) تعيشان قبيل الاستقلال في صراع وتناحر داخلي مرير، وكان بإمكان الاتحاد أن يستغله لتعزيز موقفه على الأرض.
كان العامل الحاسم في انهيار الاتحاد عدم ثقته بنفسه، فبعد أن قررت الحكومة البريطانية في ورقة دفاعها (الكتاب الأبيض) التي أعلنتها في فبراير 1966م، سحب جميع قواتها العسكرية من عدن بحلول 31 ديسمبر 1968م، انتابت قيادة الاتحاد صدمة كبيرة وتدهورت معنوياتهم إلى أقصى حدودها. وحاولت الحكومة البريطانية تخفيف حالة اليأس والخيبة التي إصابة قيادته، فأرسلت “اللورد بيزويك” سكرتير وزارة المستعمرات البريطانية إلى عدن، لهذا الغرض.
لكن كل ما قاله في جلسته مع المجلس الأعلى لم يكن له أي أثر، كان اللقاء منفعلا جدا وكال معظم أعضاء المجلس الشتائم والاتهامات للحكومة البريطانية التي نكثت بوعدها في الدفاع عنهم.
كان لدى الحكومة البريطانية أسباب كثيرة وراء قرارها سحب قاعدتها من عدن، أهمها السبب الاقتصادي، فقد دخل الاقتصاد البريطاني في أزمة بالغة، وأصبح يئن تحت وطأة نفقات القواعد العسكرية البريطانية في الخارج ولذلك قررت سحب قواعدها من عدن، وقبرص ومالطة، وفضلاً عن ذلك فقد كان الاحتفاظ بالقاعدة العسكرية البريطانية في عدن في ظل المواقف المحلية والإقليمية والدولية المناهضة لتلك القاعدة، أمراً في غاية الصعوبة.
لكن كانت تلك المبررات غير مقنعة لحكام الاتحاد، الذين فسروا سحب القاعدة البريطانية في ذلك الوقت العصيب، على أنه تضحيةً بهم، ففي الكلمة التي عقب بها السلطان صالح بن حسين وزير الأمن الداخلي والرئيس الدوري حيينها للمجلس الأعلى على كلمة اللورد بيزويك قال فيها: (( كما تعرفون فقد تحملنا لسنين كثيرة من الذم والقدح، من معظم العالم العربي، لأننا كنا نعتقد أن الحكومة البريطانية هي الصديقة المخلصة، وإنها ستحمينا من نتائج تأييدنا الذي لم يتزعزع … وذلك إلى أن نصبح قادرين على الدفاع عن أنفسنا “. وعبر شريف بيحان حسين الهبيلي عن أسفه من خطة الانسحاب البريطاني وقال بسخريه: ” من الأفضل كثيراً أن تكون عدواً لا صديقاً لبريطانيا، لأنك إذا كنت عدواً هناك إمكانية لشرائك، وإذا كنت صديقاً فمن المؤكد إيجاد إمكانية لبيعك)).
وفي محاولة من الحكومة البريطانية لمعالجة الآثار التي ترتبت على قرارها سحب القاعدة العسكرية من عدن، استدعت في نهاية مايو 1966م ستة من وزراء حكومة الاتحاد هم: الشيخ محمد فريد العولقي، والسلطان صالح بن حسين، والأمير محمد بن عبد الله العولقي، وأحمد عبد الله الدرويش، وعبد الرحمن جرجرة، وحسين علي بيومي، لحضور محادثات في لندن لبحث مستقبل الجنوب.
كان الوضع كئيباً تماماً لحكام الاتحاد بعد قرار بريطانيا سحب قواتها من عدن، ولا نبالغ إذا قلنا إن العد التنازلي لانهيار سلطة الاتحاد بدأ منذ تلك اللحظة. فقد أخذت قوة الإتحاد تتراجع وكثير من قاداته غادروا عدن بحنق إما إلى قراهم وإما إلى الخارج، فجعل ذلك الغياب وتلك الحالة من الإحباط مؤسسات الاتحاد في حالة من الشلل ومنها مؤسسة الجيش.
وفي بداية عام 1967م وصلت الحكومة الاتحادية إلى قناعة بأنه ليس ثمة من خيار أمامها أفضل من تحويل الاتحاد إلى جمهورية على أساس المقترحات الدستورية التي اعدها خبراء في القانون، وحاولت بريطانيا خلال المدة التي شهدت فيها قضية الجنوب تحركاً للأمم المتحدة، الدفع بحكومة الاتحادية للسيطرة على الوضع السياسي في البلاد، لسد الطريق أمام أي حلول أخرى، فوصل إلى عدن في مارس 1967م “جورج تومسن ” وزير الدولة للشؤون الخارجية، لذلك الغرض، واجتمع مع أعضاء المجلس الأعلى، وقدم لهم عرض الحكومة البريطانية القاضي بمنح الجنوب الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م، وتسليم السلطة إلى الحكومة الاتحادية، وتقديم مساعدة مالية للاتحاد قدرها 60 مليون جنية موزعة على ثلاث سنوات. لكن أعضاء المجلس الأعلى رفضوا بشدة قبول الاستقلال بدون معاهدة حماية. وبعد عدة اتصالات أجراها تومسن مع حكومته، طلب من أعضاء المجلس الأعلى العودة للاجتماع من جديد، وقال لهم أن حكومته وافقت على تمديد معاهدة الحماية البريطانية للاتحاد لمدة ستة أشهر بعد الاستقلال، من خلال قوة بحرية محمولة خارج المياه الإقليمية، تستطيع أن توفر درعاً جوياً ضد أي هجوم محتمل من شمال اليمن، وان ذلك أقصى ما يمكنها عمله. لكن وزراء الاتحاد رفضوا ذلك العرض، وطالبوا بتأجيل الاستقلال على الأقل حتى ربيع 1968م، والاحتفاظ بقوات بريطانية برية في عدن لمدة غير محددة، تقوم بمساندة القوات الاتحادية بموجب اتفاقية حماية جديدة وهو الأمر الذي رفضته بريطانيا. وبعد ذلك استسلم قادة المجلس الأعلى لمصيرهم المحتوم ولم يقدموا أي جهد للحفاظ على الاتحاد، فتساقطت ولاياته في أثناء تلك الحالة من اليأس والإحباط مثل أوراق الخريف بيد الجبهة القومية وبدون طلقة رصاص واحدة في معظمها، ولم يكن من خيار أمام الجيش الاتحادي غير مشاهدة عملية السقوط من نوافذ منازلهم وبعضهم خلع بدلته العسكرية وانضم للثوار.
الخلاصة: عدم الثقة في النفس وتدهور المعنويات أقصر طرق للهزيمة، وبدون حرب.