fbpx
الجزيرة وإسقاطاتها المشوهة

كتب – سارة عبدالله حسن.

‏تناول برنامج المتحري الذي يبث على قناة الجزيرة ، مؤخراً وخلال جزئين ، ما يعرف بأحداث يناير 86 ، و التي شهدتها مدينة عدن ، عاصمة ما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطيه الشعبية، و هي دولة تقع في جنوب الجزيرة العربية كان لها مقعد مستقل في هيئة الأمم المتحدة ، تم إتحدت في عام 1990 مع ما كان يعرف بالجمهورية العربية اليمنية ، و شكلا معاً ما يعرف حالياً بالجمهورية اليمنية .
‏و أحداث يناير 1986 ، هي حرب أهلية كان طرفيها علي ناصر محمد ( الرئيس الأسبق لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) ، و الموالين له من السياسيين و العسكريين و القبليين و أطلق عليهم ( وهذا ورد في البرنامج ايضاً ) ما يعرف باسم ( الزمرة )و اغلبهم من مناطق قبلية ينتمي لها قادة هذا الفريق ،وكان الطرف الاخر يسمى ( بالطغمة )، و يقوده مجموعة من القادة العسكريين و معهم مجموعة من السياسين و القبليين ، و أغلبهم ينتمون لمناطق قادتهم ، وكل هؤلاء محسوبون على دولة الجنوب سابقاً او ماكان يسمى ( جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ) .

‏الإخوة الأعداء ، و هو عنوان حلقة المتحري بجزئيها ،
‏عنوان ضخم ( أستخدم في أكثر من عمل فني وروائي) يراد به تضخيم صراع مضى بين الجنوبيين، و لسنا هنا بصدد التقليل من فظاعة هذا الصراع الذي قاد لاقتتال عنيف و مجازر فظيعة ، كما لسنا بصدد الدفاع عن قيادات قادت هذا الصراع، وان كانت الجزيرة لم تثبت الا إدانة ضيفها الرئيسي(ناصر)في ارتكاب جزء كبير منها ، و بالأدلة والبراهين .
‏لكن إسقاط الجزيرة ان هذا وضع الجنوبيين و حاضرهم اليوم ، هو إسقاط باطل ، كما ان القتل أو الإعتقال بالهوية كما أدعى احد ضيوف الجزيرة انه لازال حاضراً ، ليس صحيحاً ، و ان حصل فهذه حالات نادرة و ناتجة عن أخطاء فردية و ليست حالة عامة .

‏حاول المتحري أن يكون مهنيا في حلقته عن الإخوة الأعداء، عندما ترك لضيوفه مهمة النبش في ماضٍ لم يسئ لأحد في الوقت الحالي ، كما أساء لضيف البرنامج الرئيسي ( الرئيس السابق لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ) علي ناصر ،لكن مهنية البرنامج تسقط هنا مع الإسقاطات،التي أرادت الجزيرة تعميمها على من يقود المشهد في الجنوب الان ، و هم المجلس الانتقالي الجنوبي و المقاومة الجنوبية و قوات العمالقة الجنوبية ، التي تخوض حرباً شرسة ضد الحوثييين في الشمال و تحضى لذلك بدعم التحالف العربي بقيادة السعودية و الامارات ، كما أنها ذات القوى التي تقود حرباً شرسة على إرهاب جماعة الإخوان المسلمين ، وبقايا تنظيم القاعدة و داعش في اليمن .
‏أراد البرنامج أن يسقط حالة الصراع في الماضي على هذه القوى حالياً و تشويه صورتها ، و من كقناة الجزيرة في التضليل و التزييف لاي قوى تقاوم أو تحارب تنظيم الاخوان ، الذي تعتبر الجزيرة أهم منبر له .

‏و قد إعتمدت الجزيرة على إرشيف من الوثائق و التسجيلات القديمة المتعلقة بالحرب انذاك ( و إتضح انه إرشيف مسروق حصلت عليه الجزيرة دون وجه حق ) و بالتالي لابد من رفع قضية ضدها لنهب إرشيف دولة الجنوب ، و بحسب هذه الوثائق ، أشار تقرير بريطاني أن عدد ثمانية الف قتيل(الذي أشيع انه حصيلة حرب يناير) رقم مبالغ به،وان الأرجح ربع هذا العدد ،بالتالي ليس من الإنصاف أن تركز قناة الجزيرة على هذه الأحداث فقط ، و تتجاهل عمداً أحداث و حروب و مجازر عانتها اليمن ، و كأنها تريد ان تقول ان أنصار الحوثيين و الإخوان ، و القوى السياسية الاخرى المحسوبة على مناطق الشمال ، لم تشهد حروباً ضروسة خلفت عشرات الالاف من الضحايا و منها حروب صعده الستة ، و حروب المناطق الوسطى في الشمال ، ومجزرة مشائخ تعز ومقتل الرئيس الحمدي و الرئيس الغشمي ، و النائب عبدالله عبدالعالم و غيرها ، و كل هذه احداث جرت في الشمال و بين قوات و مليشيات كلها تنتمي للشمال ، أليسوا هم أيضاً إخوة أعداء تناستهم الجزيرة !

‏و الأهم من كل هذا يأتي السؤال ، عن الحرب الحالية في اليمن و مسببيها ، أليست بين الحوثي (الشمالي)الذي أسقط الحكم في صنعاء،ثم أسقط الشمال سريعاً بأقل الخسائر، و ذهب ليرتكب المجازر في الجنوب، بينما لم يطلق الجنوبيين رصاصة واحدة نحو الشمال الا من باب صد الهجوم ،وهاهم الجنوبيون اليوم ( عبر قوات عسكرية جنوبية ) يساهمون في مساعدة إخوتهم في الشمال لتحرير أرضهم من الحوثي الشمالي ؟

‏بمعنى أن حقيقة ما يجرى الان ، أن احداث يناير تكررت في صنعاء ( الشمالية ) وليس في عدن !
‏فمن تغالط الجزيرة ولماذا العودة لهذه التصنيفات المناطقية العفنة ؟

‏و بالنسبه لضيوف برنامج الجزيرة فكان معظمهم من فريق واحد ( مايعرف بالزمرة ) و اذا كان للمتحري مهنية ، فكان يجب ان يحظر شهود من الطرف الاخر او مما يسمى انذاك بالطغمة ، ولكن الحقيقة كانت واضحة (رغم بعض التناقضات التي أوردها ضيوفه وأسقطت مصداقيتهم) ، وأكرر انا لست بصدد الدفاع عن طرفي الصراع انذاك، لكني بصدد التأكيد ان جنوب اليوم ليس كالأمس، بدليل انه لم تحدث حرب بين الجنوبيين بعدها .
‏إن محاولة الجزيرة بعث مصطلح(طغمة)يراد به إسقاطه على حاضر الجنوبيين، تريد الجزيرة ان تقول ان الطغمه لازالت موجودة، و هي من يسميه إعلام الإخوان ب(أصحاب المثلث) ، و هو تصنيف مناطقي عفن ، أطلقه إعلام و ناشطو الإخوان على أبناء ثلاث مناطق جنوبية متجاورة ، كثير منهم منظمين للقوات التي تشكلت لمقاومة الحوثيين و محاربة الإرهاب ، و كثير منهم يحملون مشروع إستعادة دولة الجنوب، و الحقيقة انه لم يعد هناك طغمه و لا زمرة في الجنوب ، وان التصالح والتسامح اصبح واقعا يجمعهم ، و قد أقاموا فعالية جماهيرية حضرها مئات الالاف ، منذ اكثر من عشر سنوات ، لترسيخ مبدأ التسامح و التصالح بين جميع هذه الأطراف التي جمع بين أفرادها في الماضي صراع يناير 86 .

‏الشئ المستغرب في برنامج المتحري هو كيفية إقناعه للرئيس الأسبق علي ناصر ، للمشاركة في سرد تاريخ حرب و مجازر شارك فيها ؟
‏لا أعلم كيف وقع هذا الرجل الذي بلغ من العمر عتيا ، في فخ المتحري، وقدم له إعتراف انه بدأ هذه المجازر(والإعتراف سيد الأدلة) ، وقدم البرنامج دليل اخر لإدانته بلسان قائدحراسته،و هو أمر قد يعرضه لمحاكمة دولية !
‏من جهة اخرى اتى البرنامج بأدلة تغذية عبدالفتاح إسماعيل ( و هو أمين عام الحزب الإشتراكي الذي حكم دولة الجنوب أنذاك ) للصراع الجنوبي ، بمحاولته تشكيل قوة عسكرية خارج اطار وزاره الدفاع ، ورغبته بالعودة من روسيا ( التي نفي لها قبل سنوات ) لتأجيج الوضع ، رغم النصائح و التحذيرات التي تلقاها، كون رجوعه سيجعله يصطف مع احد أطراف الصراع ، و هذا ما حدث بالفعل .
‏من تناقضات البرنامج ، ان ناصر قال حرفيا ان قوات تدخلت بالطيران في محاولة اخلال التوازن العسكري وذلك في حديثه عن أسباب هزيمته في تلك الحرب ، وذكر مخابرات أجنبية !
‏في حين منصور هائل (ضيف اخر في المتحري) أكد ان الطيران كان يخضع لناصر !
‏وهناك مغالطات حاول ان يمررها البرنامج تتعلق باغتيال الرئيسين السابقين الغشمي وسالمين ، ففيما يتعلق باغتيال الرئيس الشمالي الغشمي، سمعنا روايات كثيرة، لكن ان يكون فصيل القائدين العسكريين صالح مصلح و علي عنتر(او ماعرف لاحقا بالطغمة) ، من دبروا اغتياله، لتوريط الرئيس الجنوبي سالمين و إتهامه بهذا الإغتيال ، كحجة للتخلص منه، فهذه المعلومة لم نسمعها الا من قناة الجزيرة ، وهو أمر يحتاج لأكثر من دليل و شاهد لإثباته .

‏أما فيما يتعلق بقتل الرئيس سالمين الذي حكم دولة الجنوب في السبعينيات ، فالمتحري ترك المجال لرواية علي ناصر، دون تحري، اذ ادعى علي ناصر انه و رفاقه في السلطة ، لم يقرروا إعدام سالمين، وأنهم كانوا ينوون نفيه فقط،وان قتل سالمين نتج عن قيام احد حراسته باطلاق النار،مما صعد الموقف فاعدموا سالمين!
‏رواية لم تكن منطقية هي الأخرى و بحاجة لإثبات !

‏بالمجمل ، كل التسجيلات المسروقة التي بثتها الجزيرة،لم تؤكد الا إدانة علي ناصر، ففي تسجيل قديم تحدث أحدهم عن جريمة بشعة ، هي تصفية سياسي بارز أنذاك ، يدعى محمود عشيش في حرم مستشفى الجمهورية،وهذه الجريمة محسوبة على جماعة ناصر،حتى سكرتيرته أكدت انه من بدأ الحرب ، و أنا
‏هنا لا أنفي كوارث رد فعل الفريق الاخر حينذاك،لكن الجنوبيين تعلموا من الماضي .

‏الخلاصة ان حلقة المتحري،رغم محاولة توظيفها للصراع الجنوبي بصورة سلبية،لإسقاطها على حاضرنا،الا انها خدمت الجنوبيين في اظهار ان واقعهم اختلف الان ، وشهدت على ذلك سبع سنوات مضت حتى الان ،منذ تحرير أراضي الجنوب في عام 2015 ، لم نشهد فيه اي اقتتال داخلي بينهم .

‏و أخيراً ، استوقفتني عبارتان في برنامج الجزيرة،الأولى للمؤرخة هيلين لانكير ، اذ قالت أن إتفاقية الوحدة بين الدولتين ، لم تجرِ في ظروف مثالية، وان الحزب الاشتراكي(الذي عقد هذه الوحدة وكان يحكم الجنوب)فقد مصداقيته آنذاك ، وهذه الشهادة،التي ذكرها البرنامج، يجب ان تسجل ، لالتقاطها صورة واضحة لظروف الجنوب ، و إرتباك المشهد و القرارات السياسية في تلك الفترة ، بغض النظر عن محاولة المتحري، جر ضيوفه للاقرار بأهمية الوحدة رغم ظروف نشأتها غير المثالية كما ذكرت هيلين .

‏أما العبارة الثانية فكانت للرئيس علي ناصر ، عندما قال؛خسرنا التجربة سواء نحن أم هم.
‏والحقيقة ان هذه العبارة يجب ان نقف عندها كشعب و قيادة سياسية جنوبية ، كما نقف على ذكريات الماضي، وخصوصاً احداث يناير لنتعلم الدروس، لقد تعلم الجنوبيون الكثير ، خلال فترة الصراع الطويلة التي حدثت ، لكن عدد من الأخطاء لازالت موجودة، والانتصار الحقيقي ليس العسكري ، انما يتمثل فيما بعده .
‏الانتصار الحقيقي يتمثل في البناء، وقوة الإرادة و (الإدارة)، وتحقيق العدالة الإنتقالية، التي تمنع تكرار اي جريمة، و تردع اي مجرم أو فاسد من إستغلال اي حصانه ،أو إستغلال عدم إستقرار البلاد .
‏نعم تصالح الجنوبيون وتسامحوا ، ولكن يجب ان يتجهوا للبناء ايضاً،و إرساء دولة القانون ، و أعتقد ان الظروف أصبحت مهيأة الان ، و آمل ان نكون نحن أيضاً قد أصبحنا مؤهلين لذلك .