يافع نيوز – العرب
لدى مصر علاقات إقليمية ودولية متنوعة يرقى بعضها إلى مستوى التحالف الإستراتيجي، لكن يبدو أن فرنسا أصبحت أكثر التصاقا بهذا اللقب، فكل القوى الكبرى التي يمكن وصفها بذلك تعتريها منغصات من حين لآخر، في وقت تسير فيه العلاقات بين القاهرة وباريس سياسيا وعسكريا واقتصاديا بخطوات تتجه نحو المزيد من النمو والتمدد وتسعى القيادة في البلدين إلى تعزيز ذلك بحزم من الاتفاقيات المختلفة.
وعكست القمة التي عقدها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون بقصر الإليزيه الاثنين جانبا من الصورة الناصعة، ولم يفوت الرئيسان فرصة وجودهما لحضور مؤتمرين في باريس، أحدهما خاص بالسودان، والآخر يتعلق بأفريقيا، من دون قمة تضمنت إشارات تؤكد أن العلاقات تمضي بوتيرة ثابتة، الأمر الذي عكسته الصفقات الكبيرة لطائرات الرافال الفرنسية مع مصر.
وحوت الاتفاقيات صفقات عسكرية واقتصادية على مدار السنوات الماضية، جعلت العلاقة بين القاهرة وباريس تصل لمرحلة متقدمة من الانسجام في كثير من القضايا الإقليمية، كأن كل طرف وجد ما يبحث عنه في الآخر، من حيث تعظيم الاستفادة والمكاسب المتبادلة، على الرغم من أن كليهما لديه علاقات متشعبة مع قوى متباينة.
وارتفع مستوى التنسيق في قضايا مثل ليبيا وشرق البحر المتوسط وملف مكافحة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة والهجرة غير الشرعية، فضلا عن التعاون في إعادة الحياة لمفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
لماذا باريس
العلاقات المصرية – الفرنسية تمضي بوتيرة ثابتة، الأمر الذي عكسته صفقات باريس الكبيرة لطائرات الرافال مع القاهرة
لم يؤثر الخلاف في موضوعات حيوية وحساسة مثل الحريات وحقوق الإنسان على جوهر العلاقة بينهما، وهو ما جعل النموذج الفرنسي مريحا بالنسبة إلى مصر بخلاف نماذج غربية أخرى لا تخلو من مطبات تؤثر على التطورات الإيجابية.
هناك مجموعة عوامل لعبت دورا مهما في دفع القاهرة نحو باريس والعكس، أهمها أن التحركات التي قامت بها الأولى مع دول في الشرق والغرب تخيم عليها بعض المشكلات الهيكلية، فالولايات المتحدة التي بدأت خطوات للانسحاب من المنطقة ليست على استعداد لأن تحقق لمصر ما تريده من مصالحها في المنطقة.
وأوحت رسائل جس النبض والإشارات غير المباشرة خلال الفترة الماضية بأن العلاقة بينهما لن تبلغ مستوى مرتفعا من التطور، وسوف تظل محدودة بسقف أميركي منخفض لا يريد المزيد من الانخراط في القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط أبعد من التفاهم مع إيران بشأن برنامجها والحفاظ على أمن إسرائيل.
كما أن السياسة البرغماتية التي يدير بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توجهاته الخارجية لن تكون صالحة مع مصر، أو بمعنى أدق لن تلبي طموحاتها، حيث تملك موسكو بنكا من الأهداف في المنطقة تتعارض في بعض جوانبها مع تصورات القاهرة، ومهما ارتقت العلاقات لن تتعدى حدا معينا، ما يبقيها عند مستوى عال من الحذر والتوجس.
ولعل التذبذب الذي مرت به خلال السنوات الماضية وعدم حدوث انفراجة سريعة في ملف عودة السياحة الروسية لمصر يبيّن لأي درجة أن التطورات سوف تظل أثيرة لحسابات إقليمية متعارضة، فقد استغرقت التفاهمات نحو ستة أعوام لتوافق موسكو على تدفق السياح منذ سقوط الطائرة الروسية فوق صحراء سيناء في أكتوبر 2015.
ناهيك عن الغموض الذي يكتنف أهداف موسكو في المنطقتين العربية والأفريقية، والتي تتعارض أحيانا مع تقديرات القاهرة، وعدم إبداء موسكو رغبة كافية لمساندة مصر في التحديات الإقليمية التي تواجهها في أزمتي ليبيا وسد النهضة الإثيوبي.
وقد ربطت موسكو تدخلاتها المنتجة بما تجنيه من ثمار كبيرة، بعضها يتعلق بالحصول على قواعد وتسهيلات عسكرية في البحرين المتوسط والأحمر، وهو ما يربك حسابات مصر مع دول أخرى، أو يفرض عليها التخلي عن ثوابت حافظت عليها في خضم تطورات إقليمية عاصفة.
مواصفات آمنة
Thumbnail
ظلت القاهرة في أثناء الفترة الماضية تبحث عن حليف قوي تثق به، يمكن أن يمثل سندا قويا بالنسبة إليها على الصعيد الدولي، ووجدت في فرنسا الكثير من المواصفات التي تحقق لها هذه الأمنية الغالية، والتي لن تكون مثيرة لاستفزاز حلفاء آخرين، ويمكن أن تمضي فيها بالتوازي مع قوى أخرى بقليل من الحساسية.
وتكمن الميزة التي تنطوي عليها العلاقات مع باريس في أنها أيضا تبحث عن حليف إقليمي له مزايا خاصة يعوضها عن الإخفاقات التي تتعرض لها في دول الشمال الأفريقي، حيث تمر علاقاتها مع كل من تونس والجزائر والمغرب بعراقيل ومشكلات تؤثر على جريانها بالطريقة التي كانت عليها سنوات، وتريد سد هذه الفجوة التي يمكن أن تتسع بتعميق العلاقات مع مصر.
واختبرت العلاقات بين القاهرة وباريس في الأزمة الليبية، وحقق التعاون بين الطرفين نتيجة جيدة في التعامل مع ملف مكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة، وكانت معارك درنة وتنظيفها من جيوب المتطرفين واحدة من المشاهد التي عكست التقدم، ووصل التنسيق بينهما إلى حد مرتفع مكنهما من عدم الافتراق قبل أو بعد رحيل حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج.
تحتاج فرنسا الاستفادة من تجربة مصر في مجال مكافحة الإرهاب ويمثل أحد التحديات الرئيسية التي تواجهها في أفريقيا، وتعرضت من خلاله إلى أزمات عديدة، كما تحتاج القاهرة خبرة باريس في المجال نفسه، وأسهمت الصرامة الفرنسية في التعامل مع المتشددين في كل من مالي والنيجر وأفريقيا الوسطى وتشاد في الوصول لنقطة التقاء كبيرة بين الجانبين تدعم التعاون على مستويات مختلفة.
وتحتاج مصر إلى قوة حليفة في قلب الاتحاد الأوروبي والعالم، مثل فرنسا بكل ما تملكه من مقومات سياسية ومؤهلات عسكرية، وتحتاج باريس إلى القاهرة المشتبكة حاليا مع عدد معتبر من الملفات الإقليمية التي تلتقي فيها مع فرنسا، لأن الفترة المقبلة قد تشهد خروجا مصريا عن الحذر الذي عرف عنه، ما يفرض امتلاك شبكة أمان تمثل غطاء دوليا إذا تصاعدت الأمور في أي من الأزمات التي تشتبك معها القاهرة.
ما يقوم به الطرفان الآن يبدو وثيق الصلة بما سوف يحدث من تطورات في التوازنات الإقليمية والدولية، والتي من المرجح أن تشهد تحولات كبيرة في المنظومة المعروفة والموروثة منذ نهاية الحرب الباردة، ولذلك يستند كل طرف على ما يملكه الآخر من عوامل تحفيزية تتناسب مع تطلعاته.
تريد فرنسا – ماكرون أن يكون لها موطئ قدم وتأثير في الأحداث الدولية تتجاوز عملية الدوران التقليدية في فلك واشنطن، وقد حاولت تقديم مقاربات في أزمتي ليبيا ولبنان، ولا تزال لم تحقق أهدافها كاملة، ومن مصلحتها أن تكون لها نقاط ارتكاز مؤثرة في المنطقة تساندها في تنفيذ سياساتها التي ترمي لمراكمة عوامل القوة.
وتسعى مصر – السيسي إلى إيجاد دور لها يتمثل في توظيف القوة الرشيدة للدفاع عن المصالح الإقليمية، وتجد في التوجهات الفرنسية عناصر توافق يمكن أن تمكنها من تحقيق هذا الغرض، بما يجعلها أكثر التصاقا بها، خاصة أن القواسم المشتركة كبيرة، بما يسهل على كل طرف تجنب الصدام في اللحظات الحرجة، فوضوح الخطوط والفواصل والأهداف يعزز التعاون والتنسيق في الملفات المشتركة، ويؤدي في النهاية إلى أن تصبح فرنسا أهم حليف إستراتيجي لمصر.