يافع نيوز – العرب
كشفت تسريبات بريد هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، عن معطيات جديدة تدين جماعة الإخوان في مصر، بوصفها كيانًا طامعًا في السلطة، ومسؤولا عن أحداث المنطقة الدامية، وسلطت بذلك الضوء على الجوهر الحقيقي لتيارات الإسلام السياسي ومخططاتها للاستيلاء على الحكم مقدمة في سبيل ذلك شتى أنواع التنازلات.
يبدو النظام المصري أكثر الأنظمة سعادة بما حواه بريد وزيرة الخارجية الأميركية سابقا هيلاري كلينتون، حيث قدمت له الرسائل التي حوتها مراسلاتها خدمة سياسية كبيرة لا تقدر بثمن، وبصرف النظر عن الدوافع الداخلية التي أدت إلى الكشف عن هذا الكم من الأسرار، فهو في نظر القاهرة عزز الخطاب السياسي الرسمي حيال جماعة الإخوان.
وتحول المضمون الذي تداولته وسائل إعلام قريبة من النظام الحاكم في مصر وظلت تردده لسنوات، من التهكم إلى الحقيقة، ما أجهض محاولات الإخوان وحلفائهم للعودة السياسية رغم محاولتهم تكذيب ما حواه من معلومات مفصلة.
واعتبر المصريون ما احتوته الرسائل التي رُفعت عنها السرية مؤخرًا، كنوع من التوثيق لما خبروه جيدًا عن جماعة الإخوان طوال السنوات الماضية، بوصفها كيانًا طامعًا في السلطة ولو على جثثهم، ولو كان ذلك عبر العمالة والتعاون ودعم دول وجهات خارجية.
وضاعفت الرسائل المسربة من النقمة على جماعة الإخوان ودعمت الاصطفاف خلف الحكومة المصرية، التي نجحت في ربط الماضي بالحاضر على مسارين: الأول، إثبات مواصلة جماعة الإخوان التآمر على الدولة سيرًا على نهجها القديم في خدمة مخططات ومصالح قوى خارجية، والثاني، مواصلة القيادة الوطنية إحباط تلك المخططات من خلال تقوية الجبهة الداخلية والمضي في تنفيذ خطط التنمية والإصلاح الاقتصادي.
ولم تكشف الرسائل المتبادلة بين وزارة الخارجية الأميركية وعملائها التي أصبحت اليوم متاحة للرأي العام، جوهر خطاب تيار الإسلام السياسي فحسب، بل قدمت الكثير من الدلالات الموثقة التي كانت في الماضي تحتكرها الأجهزة الأمنية وحدها، والآن تحولت إلى حقيقة شائعة، من الممكن أن تؤثر بقوة على مصير الإخوان في المنطقة.
جعل الإدراك بطبيعة الجماعة الأيديولوجية وعلاقاتها بالأنظمة الحاكمة وافتقارها للكوادر القادرة على قيادة الدولة، الرأي العام على قناعة بأن التحول الهائل من جماعة تتسول الشرعية والعمل على هامش النظام السياسي في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، إلى رقم فاعل ونافذ في مشهد الأحداث بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، لا بد أن يكون خلفه مساندة هائلة، منحت التنظيم الجرأة في مناوأة الأجهزة والمؤسسات الرسمية.
لم تنل الجماعة الحضور والنفوذ ولم تسعَ لفرض نفسها على الجميع بهذه الثقة الزائدة بعد أن كان أفولها وشيكًا، إلا بعد تبني قوى خارجية لمشروعها في السلطة، حيث كادت تضمحل لعدم امتلاكها البرنامج السياسي والاقتصادي المفصل القابل للإقناع والصمود.
ومنحت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما الجماعة ما تتجرأ به على الأنظمة، وما تتوهم بسببه، أنها قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمها الذي انتظرته على مدى عقود طويلة في مصر، الأمر الذي أشعل ثورة المصريين ضدها، بعد عام واحد في الحكم، عندما فطنوا لمغزى الغرور الزائد، والقفزات المادية، والنشاط الميداني والسياسي والإعلامي الذي لا يتناسب مع قدرات هذا التيار وإمكانياته.
ولم تتطلع قيادات الجماعة لترجمة نظرياتها وأحلامها في السلطة إلى واقع إلا بعد لقاءات مع جهات أجنبية جمعتهم بسفراء أميركا ودول أوروبية، وبعد مؤتمرات وتفاهمات مهدت لاحقًا لصعود نادر وقصير للتنظيم المحظور وغير المجبول على المغامرة والمجازفة، إلى سدة السلطة.
ولم تكتف وزارة الخارجية في عهد أوباما برصد وتحليل المعلومات المتوافرة، بل عمدت إلى توجيه الأحداث، وعقد اجتماعات مع قيادات الإخوان، وغيرهم من القوى المدنية الليبرالية لتنسيق المواقف، كي تتمكن واشنطن من القبض على دفة التطورات، وحوى البريد مواقف عززت هذه المسألة، وهو ما كانت الأجهزة الأمنية في مصر تتابعه عن كثب، في حين كانت الجماعة تتصور أن دورها انتهى ومهامها تلاشت.
وبدا اغتيال المقدم محمد مبروك منذ سبعة أعوام، علامة على أن الإخوان حاولوا وأد جرائم علاقاتهم الخارجية، حيث عثر الرجل على معلومات تؤكد تواطؤ واشنطن مع الجماعة، ما حدا بها بجناحها المسلح إلى التخلص منه قبل أن يدلي بشهادته أمام المحكمة على قياداتها.
وتحولت واشنطن في ظل حكم الديمقراطيين إلى ما يشبه دار الضيافة لقادة الإخوان الذين أعطوا وعودًا لها بالتوصل إلى تسويات مؤدية لتصفية الكثير من القضايا العالقة مقابل تمكينهم من الحكم.
فطن أوباما وفريقه المعاون إلى لعبة إضفاء الهيبة والقداسة على عملاء بالداخل لخداع جمهور العرب والمسلمين وإيهامهم أن تفتيت دولهم ونشر الفوضى بمجتمعاتهم مقرون بالتعاطف مع مشاعرهم الدينية وبالتحالف مع ممثليهم الورعين، لكن لم يخل الأمر من وجود نخب عربية فطنت للمخطط مبكرًا وكشفته للرأي العام، ما سرع من مواجهته ومناهضته.
قبل أن تُرفع السرية عن مراسلات هيلاري كلينتون والتعرف على تفاصيل التعاون والتنسيق الدقيق والدعم غير المسبوق لتمكين الجماعة من الحكم، بدأت الحملة العربية المضادة مبكرًا رافعة الغطاء عن تاريخ عمالة جماعة الإخوان للقوى الأجنبية منذ تأسيسها لتربط بين ماضيها وحاضرها، وهو ما قاد لوقف تمدد الإخوان في مصر.
وعكس التعامل النخبوي والشعبي والمؤسسي العربي مع المشروع الغربي عبر توظيف تيار الإسلام السياسي وصولًا لما آل إليه اليوم، خبرة عميقة بتنظيم لم يبحث يومًا عن الحضور والنشاط من خلال المشاركة الوطنية كشريك طبيعي مسهم في الإصلاح، إنما فقط عبر علاقاته وأدواره الوظيفية منذ أن التقى سعيد رمضان زوج البنت الصغرى لحسن البنا بالرئيس الأميركي أيزنهاور في واشنطن عام 1953، وهي البداية الحقيقية لتأسيس ما سمي بالتنظيم الدولي.
انطوت قسوة تعامل المصريين مع جماعة الإخوان من خلال الثورة عليها في الثلاثين من يونيو 2013 ونبذها وتجفيف منابعها، على قدر كبير من الوعي بطبيعة أدوارها ضمن مخططات طويلة المدى لتفتيت المنطقة والمشرق العربي، علاوة على أنها قسوة تناسب ما ارتكبته الجماعة من خيانات.
واعتمدت شرارة التمكين الفعلي للجماعة في عهد أوباما وهيلاري، على مستشارتها هوما عابدين عضو التنظيم الدولي للإخوان، وابنة أحد أهم كوادر الإسلام السياسي في أميركا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
وبدأت بتبني أيزنهاور صاحب فكرة الانفتاح على الإخوان وكل من جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي وشقيقه آلان دالاس مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك لخطط تقسيم البلاد العربية والإسلامية على أسس طائفية وعرقية.
*عقد اجتماعات سرية وعلنية مع قيادات الإخوان
*استخدمت وأشاعت مصطلح الإسلاميين المعتدلين
*دفعت الإخوان إلى التطلع للحكم وشجّعتهم على مد نفوذهم
وعززت الرسائل العديدة التي عثر عليها في بريد كلينتون القناعة بأن إدارة أوباما دفعت الإخوان إلى التطلع للحكم وشجعتها على زيادة نفوذها، مستخدمة مصطلح الإسلاميين المعتدلين، برغم مما ورد ذكره في وثائق الاستخبارات المركزية الأميركية بشأن تكتيك الجماعة مثل “بناء قواعد الدعم” عبر توزيع أعضائها على أربع وعشرين جماعة متطرفة، وهي الجماعات الجهادية الموجودة على الساحة.
واستندت خطط إدارة أوباما لتمكين لجماعة الإخوان على الشعارات البراقة دون طرح برامج حقيقية لانتشال المجتمع وحل مشاكله المستعصية، وظل إسهامها بالجهد الأكبر في هز استقرار الكثير من الأقطار العربية من الحرب في سوريا واليمن وليبيا، إلى أحداث مصر في 2011، وما بعدها، ما يمثل دلالة أكيدة على أن الجماعة لا تملك رؤى وتصورات للحكم، إنما فقط ركوب موجة القلاقل التي شاركوا فيها للانقضاض على السلطة.
وفشلت الجماعة في تقمص الدور المرسوم لها من الخارج لكونه لا يعبر عن حقيقتها وقناعاتها الأيديولوجية، فلم تكن تملك مسوغات قبولها كشريك وطني فيما أثبتت اتصالاتها وطبيعة تحالفاتها الخارجية عكس ذلك، وعجزت عن بناء جسور تفاهم مع التيارات المدنية والليبرالية فلجأت لاكتساب الهيبة والنفوذ من الشراكة مع حلفائها في تيار السلفية الجهادية.
وخيب الإخوان أمل إدارة أوباما، ولم تتحول الجماعة إلى قوة رئيسية في الحياة السياسية المصرية، رغم تمسحها بالدين وما تمتلكه من امتياز ثقافي يمنحها سطوة على جماهير غفيرة.
وعجزت الجماعة عن اكتساب النفوذ عبر اللعب بورقة العقيدة، وظهرت أصوليتها بعيدة عن الشغف الحقيقي بالدين والتمسك بجوهره وقيمه، ومتسقة كقوة رجعية طائفية مع مشروع خارجي تتلاقى مصالحهما ويعقدان الصفقات خارج سياق المصالح الوطنية، على حساب الحقوق والثوابت العربية.
وانتبه المصريون إلى أنهم بصدد محاولة متجددة مدعومة من الخارج لإقامة الحكم الديني الإخواني الذي يثير الانشقاق والصراعات بين الشعوب العربية، حيث يقوم على وحدة الدين لضرب المشروع العربي الذي يوحد كل الناطقين بالعربية بصرف النظر عن الدين واللون والعرق.
ولم تضف رسائل بريد هيلاري كلينتون جديدًا على المستوى السياسي، بعد أن قطع قادة جماعة الإخوان خط الرجعة إلى أقطارهم ومجتمعاتهم التي خاضوا مواجهات شرسة ضد مختلف مكوناتها وتياراتها السياسية والفكرية، وشنوا الحملات الشرسة على قياداتها، وانخرطوا في مؤامرات وأنشطة استخبارية وخطط تقسيم للدول وتفكيك للجيوش واضحة للعيان ليست بحاجة لبرهان وتوثيق جعلتهم ملاحقين بتهم الإرهاب.
وما طرأ على المنطقة والعالم من مستجدات، أهمها تعثر تيار الإسلام السياسي في أكثر من بلد محوري وتراجع المشروع الإقليمي الداعم، يمثل علامة على ارتكاب أخطاء فادحة فتحت الشهية لاستحضارها وكشف المزيد من أسرارها لتوظيفها في منافسات انتخابات الرئاسة الأميركية بين الديمقراطيين والجمهوريين.
وتكمن أهمية تسريبات بريد هيلاري في قطع الطريق على جو بايدن في حالة فوزه على تكرار المحاولة، فالمستور أصبح معلنا، ومن الصعوبة أن ينزل السياسي النهر مرتين، بالتالي تتأثر حسابات الإخوان سلبا، وتتراجع طموحاتها في أن وصول إدارة ديمقراطية للحكم يصوب المسارات الحالية.