fbpx
العالم الصاعد بثقة إلى الهاوية

 

إذا كان يحقُ للمرء أن يفخر بشيء ما في عالم السياسة، فهو لن يفخر سوى أن الأقدار قد أتاحت له الفرصة ليعيش الجزء الأخير من حقبة ميركل، ومع إن هذا الجزء كان الأهم، لكنه في نفس الوقت كان الأسوأ على مستقبل المستشارة السياسي.

كانت مواقف ميركل الأخلاقية اختبار حقيقي وعملي لكل القيم والمبادئ الأخلاقية المُدعاة، فهذه السيدة التي أتت من قلب حزب يميني محافظ، ستُفاجئ العالم بالتزامها مواقف أخلاقية صارمة، فتتجاوز بذلك كل المواقف الأخلاقية للأحزاب ذات الخلفيات والتوجهات المختلفة، الليبراليين والخضر والاشتراكيين واليسار، لدرجة أن دفاعها المستميت عن سياسة اللجوء ستجعل يساريين بارزين، واليسار الألماني بالمناسبة من أكثر الأحزاب تشدداً على مستوى العالم كله لمبادئه ومنها الأفق الأممي، يتبنون مواقفاً أقرب إلى مواقف اليمين وهم بصدد التعبير عن امتعاضهم من التبعات السلبية الناتجة عن سياستها، وهي سياسات ذات طابع وغايات أخلاقية واضحة، فتتفوق عملياً في هذا البُعد الأخلاقي الأقرب إلى مبادئ وأهداف اليسار على يسارية كثير من الرفاق البارزين.

لقد عادت عليها سياسة اللجوء بـ”السقف المفتوح” بكل أنواع المشاكل، تراجعت شعبيتها كثيراً ، وخسر حزبها الكثير من الأنصار، ولا يتوقف النقد لسياستها على مدار الساعة، لدرجة أن أعضاء بارزين من حزبها، ومن التحالف الحاكم الذي تقوده، لم يكتفوا بنقد سياستها بكل حدّة، ولكن بعضهم قام برفع قضايا ضدها في المحاكم لمنع سياسة “السقف المفتوح” الذي تبنته فيما يخص أعداد اللاجئين المُستقبلين… ومع كل ما واجهته من انتقادات لاذعة، ومعارضات صاخبة وعسيرة، وتبعات سلبية ليست بالهينة، كانت ميركل في كل مرة تُفاجئ الجميع في الدفاع عن مواقفها الأخلاقية والتشبث الشديد بها، فتبدي قوة وصلابة لن تجدها في أي سياسي آخر، ولكأنها جبل لا تهزه أعتى أنواع الأعاصير.

في نهاية العام 2015، قالت ميركل في مقابلة تلفزيونية أنها تروم من خلال سياسة الترحيب باللاجئين إلى تقديم وجه ودود لألمانيا، وفي مناسبة أخرى أضافت: “في حال كان علينا أن نعتذر إذا ابتسمنا وأظهرنا وجهاً ودوداً لأولئك الذين يحتاجون إلى مساعدتنا، فهذا يعني أن هذا البلد لم يعد بلدي”، لكن للأسف الشديد لم يمنحها أحد الفرصة لتحقيق هذه الغاية الأخلاقية، لا المستقبلين ولا المُستقبلون، لا الداخل ولا الخارج، وها هي تُغادر عالم السياسات بخيبات كبيرة نتيجة تمسكها بمواقفها الأخلاقية.
ربما قد اقتضى المشهد السياسي الألماني إجراء تغيير ما لدفع دماء جديدة، لكن بالنسبة لي، فأخر ما كنتُ آمله هو أن يكون سياسي كميركل أخر من يمكنه يتوارى، في هذا العالم الصاعد بثقة إلى الهاوية.