مقالات للكاتب
تمهيد: في تجربة البحث والإطار المرجعي
منذ التحاقي في مهنة التدريس الجامعي قبل قرابة عشرين عاماً وأنا أفكر وأبحث في سؤال معنى الجامعة بوصفها مؤسسة أكاديمية؟ وعلى مدى السنوات المنصرمة تركمت لي بعض المعرفة ومنحتني فكرة عامة عن معنى الجامعة بوصفها مؤسسة حديثة، هذا ما مكنني من كتابة عدد من الدراسات
والأبحاث المتواضعة التي شاركت بها في عدد من المؤتمرات العلمية الدولية ومنها: المؤتمر الدولي الرابع لكلية التربية: الاعتماد الأكاديمي: طريق إلى استدامة الجودة في التعليم. مسقط – سلطنة عمان نوفمبر2016. والملتقى الدولي حول إدارة الجودة والأداء المتميز في الجامعات العربية، في جامعة المدية بالجزائر بتاريخ 15_16مايو 2015م. أعمال المؤتمر الدولي: التربية والأخلاق في عالم متغير، جامعة القاهرة، كلية دار العلوم، بتاريخ 15_16 ابريل 2015م . المؤتمر الدولي الأول، العلوم الإنسانية أكاديمياً ومهنياً: رؤى استشرافية. جامعة الملك سعود، كلية الآداب في 6_ 7 ابريل 2015م، ورقة في حلقة نقاش عن مقومات الجودة في الجامعات اليمنية في مركز المرأة جامعة عدن ٢٠١٤م فضلا عن الدراسات والمقالات التي كتبتها ونشرتها في صحف ومجلات عدة منها: جامعاتنا العربية ومعايير الجودة العالمية؛ دراسة نشرت في مجلة الوسط اليمنية عام ٢٠٠٥م ودراسة بعنوان: الجامعة والنقابة بين التحدي والاستجابة. نشرتها في صحيفة الأكاديمي الصادرة عن نقابة أعضاء هيئة التدريس في جامعة حضرموت عام ٢٠١٢م موعدد من المقالات الصحفية التي نشرتها في فترات متقطعة ومنها جامعة عدن بين التقييم والتكريم في صحيفة عدن الغد عام ٢٠١٦ وفِي معنى كلية الآداب ..الخ. وربما يتذكر بعض الزملاء الاعزاء والزميلات العزيزات في جامعة عدن بعض تلك المقالات التي اطلعتهم عليها. وفِي سياق رحلتي المضنية للبحث عن الجامعة ومعناها تمكنت من جمع عدد من المصادر والمراجع المتصلة بأمرها
منها: س.هـ. هاسكنر.نشأة الجامعات في العصور الوسطى، ترجمة جوزيف نسيم يوسف الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة ١٩٨٨م. وتوبي.أ.هف.فجر العلم الحديث: الإسلام، الصين، الغرب، ترجمة محمد عصفور،مجلة عالم المعرفة الكويتية العدد260 اغسطس2000 وجون برينان تارلاشاه،إدارة الجودة في التعليم العالي.منظور دولي عن التقويم المؤسسي،ترجمة دلال بنت منزل النصير- معهد الإدارة العامة،السعودية الرياض2007م,وكروبر, ضرورة العلم،مجلة عالم المعرفة الكويتية العدد,325 ود.ل. ضمان الجودة في التعليم العالي(مفهومها مبادئها-تجارب عالمية)،ترجمة السيد عبد العزيز البهواشي وسعد بن حمد الربيعي،دار عالم للكتب القاهرة2005م, وعبد الفتاح احمد حجاج،أستاذ الجامعة أوضاعة المهنية وبعض مشكلاته دراسة مقارنة،ضمن كتاب دراسات في التعليم الجامعي وتنظيمه.المجلد الخامس ،جامعة قطر مركز البحوث التربوية 1981م التربوية 1981م وسعيد الصديقي،الجامعات العربية وجودة البحث العلمي،قراءة في المعايير العالمية.مجلة المستقبل العربي عن مركز دراسات ا نعمان محمد صالح ، المجلة التربوية الكويتية العدد 67 يونيو 2002. ومحمود عبد الفتاح رضوان، إدارة الجودة الشاملة: فكر وفلسفة قبل أن يكون تطبيق، وأسامة الميمي وشادية مخلوق الجودة في الجامعات الفلسطينية الإجراءات والممارسات، مؤتمر النوعية في التعليم الجامعي الفلسطيني جامعة القدس المفتوحة يوليو 2004. وجون وجاردنو، التميز الموهبة والقياد ترجمة محمد محمود رضوان، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، القاهرة، .واشرف السعيد أحمد محمد، الجودة الشاملة والمؤشرات في التعليم الجامعي دار الجامعة الجديدة الاسكندرية ، 2007وميشال دربوا مدخل إلى علم اجتماع العلوم ترجمة سعود المولى، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2008م، وفرانسوليوتار، الوضع ما بعد الحداثة تقرير عن المعرفة، ترجمة.وعبدالعزيز ابو نبع، دراسات في تحديث الإدارة الجامعية، مؤسسة دار الوراق، عمان الإردن، ط1 ، 2004م.رشيد أحمد طعيمة، الجودة الشاملة في التعليم بين مؤشرات التمييز ومعايير الاعتماد، والإستراتيجية الوطنية للتعليم العالي في الجمهورية اليمنية وخطة العمل المستقبلية2006- 2010م،مشروع تطوير التعليم العالي في الجمهورية اليمنية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي،2007م. وثائق المؤتمر العلمي الثالث ل جودة البرامج الأكاديمية وتعزيز دور الجامعة في خدمة المجتمع, المنعقد في جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا أبريل 2014م.هذا هو ما يخولني بالكتابة في موضوع الجامعة بوصفها مؤسسة أكاديمية.
ثانيا: فكرة المؤسسة في الثقافة العربية الإسلامية
تجدر الاشارة الى انني في محاولاتي المتكررة للبحث عن كلمة ( مؤسسة ) في المعاجم والقواميس العربية واهمها لسان العرب لم أجد مفردة بهذا الأسم للأسف الشديد. وحينما تغيب كلمة مؤسسة من المدونة اللغوية العربية فهذا معناها عدم وجودها في الواقع. ولعل هذا هو الذي جعل عالم اجتماع العلوم الأمريكي توني. أ.هب في كتابه المهم فجر العلم الحديث يكتب عن غياب فكرة وثقافة وقيمة المؤسسة بوصفها كياناً أو إطاراً أو هيئة تنظم نشاط مجموعة من الفاعلين الاجتماعيين في صيغة قانونية كلية مستقلة بشخصيتها الاعتبارية التي تأطر نشاط الفاعلين بها وعلاقاتهم وأدوارهم ووظائفهم وقيمهم وكل شيء يتعلق بالمؤسسة ونشاطها الداخلي والخارجي بحكم العقد القانوني الذي المتوافق والملتزم بِه من جميع أعضاء المؤسسة. تلك العبارة التي يسمونها مؤسسة هي ما لاحظ توني أ هب غيابها في تاريخ الحضارة العربية الإسلام التي سادت وهيمنة فيها البنية الشخصية إذ كتب قائلا:
“إن البنية الشخصية المهيمنة في مختلف مجالات حياة المجتمع العربي الإسلامي قد اعاقت نمو فكرة المؤسسة المستقلة وعرقلت نشوء معايير العلم الموضوعية والشمولية والعالمية والتراكمية، بل عرقلت نشوء ونمو وقيام
المؤسسة التي نسميها نحن في الغرب مؤسسة المؤسسات أي الدولة.
ذلك الغياب الخطير للبنية المؤسسية القانونية؛ أي عدم وجود الجماعات ذات الشخصية القانونية الاعتبارية المستقلة في الحضارات العربية الإسلامية؛ كان سببا اساسيا من أسباب عجز العلم العربي الإسلامي الذي بلغ في العصر الوسيط أوج مراحل تطور العلم والمعرفة في تاريخ الحضارة العالمية برمتها متفوقا على الصين والغرب بإنجازاته ولكنه عجز عن إتخاذ القفزة الضرورية الى رحاب العالم الحديث وغياب المؤسسة كان أحد أسباب هذا العجز إذ لم تكن مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي مؤسسات قانونية مستقلة، بل كانت المدارس ملحقه بالمساجد، وكانت المدارس مكرسة لتعليم علوم الدين والحساب، وتستبعد العلوم الطبيعية، فضلاً عن أن المدارس كانت مؤسسات خيرية وقفاً دينياً تنفذ رغبات وأهداف أصحابها الدينيين وغير الدينيين، كما أن نظام التعليم كان يعتمد على الصفة الشخصية، وكان الشيخ أو الفقيه هو الذي يمنح الإجازة لتلاميذه، ولم تكن الشهادة أو الإجازة تمنح من قبل جماعة أو مؤسسة مستقلة لا شأن لها بالأمور الشخصية كما كان عليه النظام في الجامعات الأوربية القروسطية. ولما كان التعليم في حقل العلوم الطبيعية يجري خارج المدارس الرسمية، فقد كان التخصص في علم من العلوم الأجنبية يقتضي السفر مسافات شاسعة بحثاً عن علماء متخصصين في علوم الأولين غير المرغوب فيها طبعاً. ومن المعروف أن الفقه الإسلامي حين ذلك كان قد تنامى وتكامل وصار الفقيه مربياً وخبيراً اقتصادياً وضابطا لقواعد الصحية العامة وآداب السلوك والكلام وكل صغيرة وكبيرة فضلاً عن سلطته التشريعية الشاملة فما الذي أبقى كتاب الفقه في الإسلام لكتب العلوم العقلية والوضعية من أبواب وفصول بما يمس الحياة والكون والقيم والتربية والسياسية والاقتصادية والالتزام والمسؤولية والجزاء والثواب والعقاب وفي جميع دقائق العادات والقوانين والتقاليد والأعراف؟
وربما يعود غياب فكر وثقافة المؤسسة في الحضارة العربية الإسلامية الى الباراديم الذي كان ينظر الى المسلمين بوصفهم أمة واحدة ذات رسالة خالدة وولاية مركزية واحدة. إذ “إن الولايات القانونية في العالم الإسلامي لم تنشأ مطلقاً لأن المسلمين كلهم أعضاء في الأمة الواحدة ولا يجوز فصل المسلمين إلى جماعات يتميز بعضها عن بعض شرعاً” ينظر توني هب فجر العلم الحديث ص ١٨٩.
ثالثا: الجامعة بوصفها مؤسسة حديثة
تعد الجامعة مقوماً أساسياً من مقومات الدول العصرية، وركيزة من ركائز تطور المجتمعات البشرية وتحقيق تقدمها العلمي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلاً عن كونها بيوتاً للخبرة ومعقلاً للفكر والإبداع، ومركزاً لانتقال الإنتاج والمعرفة وتطبيقها وبؤرة للتحديث والتجديد والتنوير والتغيير، وهي أهم وأخطر مؤسسة حديثة واستراتيجية في تاريخ الحضارة الإنسانية، وذلك لإسهامها الحاسم في نهضة وازدهار مشروع الحداثة العلمية العقلانية في عموم الكرة الأرضية، وأهمية الجامعة لا تعود إلى قيمة وظائفها الأساسية الثلاث: المتمثلة في نقل المعرفة خلال وظيفة التدريس، أو في إنتاج وتطوير المعرفة وظيفة البحث العلمي أو في استخدام وتطبيق المعرفة وظيفة خدمة وتنمية المجتمع فحسب، بل وإلى كونها تعد المثل الأعلى لمؤسسات المجتمع المدني الحديث والإدارة البيروقراطية الرشيدة، وذلك بما تمتلكه من بنية تشريعية دقيقة التنظيم وإدارة فنية أكاديمية كفؤة وعالية الجودة وقيم ومعايير، وهيئة أكاديمية علمية قانونية وثقافية وأخلاقية وجمالية وحضارية وإنسانية وعقلانية شاملة، ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيل غايته الكمال الأكمل، والتام والكلي المطلق المجرد، المثال الأمثل..وتأبى الأكاديمية النزول بالتشكيل عن أرقى تصميم، فهي نزوع دائم نحو الأكثر حكمة والأكثر عدلاً والأكثر جمالاً والأكثر نفعاً والأكثر صدقاً والأكثر أمانة والأكثر رقياً مهما كلف الأمر، والأمر من أعلى ما تكون الهمم ومن أرقى ما تكون معالي الأمور. ولما كانت المؤسسة الأكاديمية بالنسبة لنا هي فكرة حديثة وجديدة في سياق يفتقد الى تراث سابق لتأسيسها فمن الأولى بناء الاستفادة من التجارب والخبرات السابقة التي ازدهرت فيها المؤسسة الأكاديمية وحافظت على كيانها المؤسسي المستقل منذ قرابة سبعة قرون من الزمن.
يعود مصطلح أكاديمي إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون ، أول من أطلق اسم أكاديموس ( على المكان الذي كان يلقي فيه محاضراته الفلسفية ليعلم تلاميذه العلوم العقلية المجردة كالرياضيات والفلك والهندسة والتربية والسياسة، تمييزا له عن أنماط التعليم السفسطائي. ثم تطور المصطلح فيمابعد،منذ مطلع العصر الحديث ليكتسب معنى التمييز المهني للمشتغلين في حقل العلم والتعليم العالي، فالأكاديمي هو الشخص الذي يقوم بنقل المعرفة ونقدها وإنتاجها واستخدامها في حل المشكلات باتباع طرائق وأدوات منهجية علمية معيارية واضحة ومحددة، بما يشتمل عليه ذلك النشاط من قيم مهنية أكاديمية، منها: الرصانة والأمانة والاستقامة والعقلانية والموضوعية والتجرد … إلخ. وقد ترسخت المهنة الأكاديمية منذ أن تحولت إلى مؤسسة اعتبارية مستقلة فيما عرف بـ)الجامعة(؛ إذ كانت الفكرة القانونية التي تعامل فيها جماعة من الناس كأنها وحدة نسقية أو مؤسسة مستقلة هي أساس نشوء الجامعات وتطورها في القرون الوسطى؛ إذ اعتبرت المؤسسة المتحدة Universities من الناحية القانونية جماعة لها شخصية قانونية تختلف عن أعضائها فرادى. ويرى توبي أ. هف في كتابه )فجر العلم الحديث( أنه من المصادفات التاريخية أن الكلمة اللاتينية Universities التي تعني Corporation أي الجسم كله، قد احاصر معناها ليعني أماكن التعليم العالي التي تحتفظ باسم الـ Universities )أي الجامعات
ويؤكد جينز بوست “أن العلماء في جامعة با ريس كانوا مع حلول سنة ١٢١٢م على أبعد تقدير، قد تبلور وجودهم على شكل هيئة تدعى )هيئة الأساتذة والعلماء بوسعها أن تضع القوانين وأن تنفذ الالتزام بها.
ومنذ أن تم تحويل العلم وعناصره الى إطار أو كيان مؤسسي مستقل بقواعده ونظامه الخاص ظهر مفهوم الجماعة العلمية بصفتها وحدة معيارية؛ إذ لا يكفي أن ن دعي أننا علماء حتى يتم الاعتراف بنا بصفتنا علماء. أن تكون عالمًا يعني أن تنتمي إلى إطار اجتماعي مؤسسي مهني
متشكل من مجموع الفاعلين المشتغلين في النشاط العلمي؛ أي) الجماعة العلمية( بمعنى الانتماء إلى مؤسسة محددة، يمكن تمييزها عن بقية المؤسسات الاجتماعية. ويعني ثانيا أن يتم اختيارك وإدماجك في نسق يقيم فاعلوه علاقات ترابط وفق طرائق تتوافق مع مبادئ مهنية معيارية مخصوصة، وهو يعني أخيرا أنك موضوع لمراقبة اجتماعية، داخل المؤسسة، وأن عليك إتقان الدور الاجتماعي المقدر إيجابيا في الجماعة العلمية ) (. ويعني مصطلح مأسسة العلم؛ اعتراف المجتمع بالوظيفة الخاصة للنشاط العلمي وبقيمته الجوهرية، ومن جهة أخرى تشكيل مجال مهني لضبط أدوار الفاعلين بما يحقق غايات ذلك النشاط ويصون استقلاليته. وإذا ما أردنا صياغة تعريف سوسيولوجي لمعنى المؤسسة الأكاديمية فيمكننا القول: إنها المجال
المستقل المنظم بقانونه وقواعده الخاصة ذات شخصية اعتبارية ممثلة لمجموع الأساتذة ومساعديهم والطلبة بوصفهم جماعة مهنية معنية بنقل وتداول المعرفة العلمية – وظيفة التعليم – ونقدها وتنميتها وإنتاجها – وظيفة البحث العلمي – وتطبيقها واختبارها، وظيفة خدمة المجتمع وتنميته وتنويره، مجال يؤمن بيئة محمية لكل منتسبيه للممارسة نشاطهم بحرية تامة.
رابعا: كيف نحمي ونصون مؤسستنا الأكاديمية؟
الجامعة في مجتمعاتنا العربية عامة هي مؤسسة حديثة وجديدة في كينونتها المؤسسية وبنيتها التنظيمية ووظيفتها العلمية، والتعليمية والتنموية وقيمها المهنية والأكاديمية، وأنماط علاقاتها وأهدافها وعاداتها وتقاليدها، في حين أن مجتمعاتنا بحكم التخلف التاريخي لا تزال أسير البنى والعلاقات والقيم التقليدية على مختلف صعد الحياة، السياسية والاقتصادية والثقافية، والاجتماعية والأخلاقية هذه البنى الثقافية التقليدية لا ريب وأنها تأثر في المؤسسة الجامعية وتخترقها بسهامها المنطلقة من كل حدب وصوب، إذ إن الجامعة ليست جزيرة منعزلة عن المجتمع التي توجد فيه، بل هي جزء من هذا المجتمع الذي يؤثر فيها وتأثر فيه.
وقد تأسست أول جامعة عربية في مصر عام 1908م بجهود أهلية ثم تحولت إلى جامعة حكومية عام 1925م جامعة القاهرة حالياً، وكانت جامعة دمشق التي تأسست عام 1923م أول جامعة عربية حكومية حديثة وفي عام 1942م أنشأت جامعة الإسكندرية وفي العام ذاته تأسست جامعة القرويين في مدينة فاس المغربية، ثم تأسست جامعة الخرطوم سنة 1955م وجامعة بغداد في سنة 1957م وتأسست أول جامعة في عدن 1970م وفي عام 1971م تأسست جامعة صنعاء، وتأسست جامعة السلطان قابوس في مسقط عام 1986 وهناك ما يربوا على 300 جامعة عربية حكومية وخاصة، معظمها حديثة النشأة إذ نشأ أكثر من 80% منها بعد عام 1970م. يصعب الحديث عن معايير الجودة والتمييز والأداء الأكاديمي والقيم المهنية بمعزل عن المؤثرات السوسوثقافية التي تأتي من خارج أسوار الجامعة، ونحن نعلم أن مسألة النمو العلمي وإزهار العلم والتعليم هي مسألة ليست علمية بل سياسية حضارية وثقافية، فكذلك يمكننا القول، أن مشكلة معايير الجودة والتميز ليست مشكلة فنية أو إدارية أو أخلاقية أو ذاتية يمكن حصرها وحلها داخل جدران الجامعة الأربعة أو في أداء عضو هيئة التدريس فقط بل هي مشكلة أكثر تعقيداً مما يمكن تخيله، أنها تتصل بنسق هائل من المستويات والعناصر الحضارية والتاريخية والفكرية وكل المنظومة الثقافية للمجتمع التقليدي أو الحديث، إذا أن الجامعة بحكم حداثة ميلادها في بيئتنا الثقافية التقليدية ظلت عرضه للاختراق من البنى والقوى والقيم والممارسات والعادات والمعتقدات التقليدية التي تشن حرب لا هواده فيها ضد هذه المؤسسة الوليدة بدون وعي في معظم الأحيان وبوعي أحياناً وهذه هي سنة من سنن الحياة الاجتماعية أنه الصراع الأبدي بين القديم والحديث بين التقليد والتجديد بين المألوف وغير المألوف بين القوى والمصالح الاجتماعية السياسية الاقتصادية المتنافسة المتصارعة المختلفة الاستراتيجيات والغايات والأهداف صراع بين المعروف والمجهول بين الطبع والتطبع، بين العادات التي تشكلنا والعادات التي نريد أن نشكلها هذا يعني أن التعليم الجامعي على صلة وثيقة بالسياق التطوري التاريخي للمجتمع وتراثه وقيمه ومؤسساته وبنياته وتقاليده من جهة وبالمؤسسة الأكاديمية الحديثة وتاريخ نشأتها ومستوى تقدمها من جهة اخرى.إذ يصعب فهم وتفسير تخلف مخرجات جامعتنا بمعزل عن تخلف المجتمع والجامعة ككل.فالالتزام بأنماط معينة للعلاقات الاجتماعية يولد طريقة معينة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة تبرر نموذجاً منسجماً معها للعلاقات الاجتماعية. ومن المعرف أن أفكار الناس ونظراتهم للعالم وإلى أنفسهم والآخرين وكيفية تجسيد الحياة فيه نابعة من علاقاتهم الاجتماعية ففي مجمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسة الأكاديمية وقيمها لا سيما إذا تركت مكشوفة لاعداءها التقليديين بلا حماية وبلا رعاية من الدولة والمجتمع وبلا سلطة خارجية أو ذاتية وفي ثقافة لا يزال بعض الناس فيها ينكرون الطبيعة وقوانينها والإنسان وعقلة وحريته وغير ذلك الظواهر والموضوعات التي هي الموضوع الأول والأخير لكل العلوم الطبيعية والإنسانية وينكرون العقل الإنساني كأداة ومعيار للمعرفة العلمية بل وينكرون الإنسان بعده كائن كرمه الله وأكرمه بالعقل وبالقدرة على التمييز والمعرفة ومن ثم فهو يستحق بأن يعيش حياته بحرية وكرامة وأمن وأمان هذا الإنسان الذي هو الموضوع الجوهري لكل العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي ثقافة رسمية وشعبيه لا زال مفهوم العلم فيها يثير الالتباس وغير متفق عليه، بل لا زال الاعتقاد الراسخ، بأن العلماء هم “علماء الدين أو علما الشريعة ولا أحد سواهم)، وأن العلم هو العلم الشرعي النافع في الدار الآخرة لا في هذه الدنيا الفانية (وأن كل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) هذا الحديث الشريف الذي يحذر من البدع والابتداع في العقيدة الدينية الإسلامية الحنيفة السمحاء والذي جرى تأويله وتعميمه للآسف الشديد على كل مناحي حياة المسلمين بسبب الغلو والتطرف في التأويل والتفسير، وفي مجتمع لا زالت فيه الثقافة السحرية والأسطورة والخرافية واللاهوتية تهيمن على كل الأفق الثقافي والفكري عند الخاصة والعامة في مجتمع ليس من بين مثلة العليا للنجاح العلم والتعليم والتفوق العلمي والكفاءة الشخصية والأداء المتميز والمواهب الفردية بل القرابة، العشائرية القبلية والعصبية والنفوذ والمحسوبية والرشوة والوساطة والانتهازية، والابتذال والنفاق والمزايدات السياسية الأيديولوجية… يقول (جون وجاردنر) في كتابة (التميزة الموهبة والقيادة) ” “إذا أعدت الرثاثة والهرجلة مجتمعاً ما فليس من السهل على أي عضو في ذلك المجتمع أن يبقى بمعزل عن التأثر بها في سلوكه الخاص والعام. وإذا أردنا لجامعتنا السلامة والنمو والأزهار فلابد من توافر الشروط الضرورية الأولية لحمايتها وأهمها الثلاثة الاستقلالات الجوهرية والرابع نتيجة.
١- الاستقلال المالي: شرط ضروري للاستقلال الإداري والأكاديمي معاً بل هو أقوى الضمانات لحرية الجامعة واستقلالها، ولا يمكن أن تستمر الجامعة في أداء رسالتها دون أن يكون بحوزتها موارد مالية كافية ومستمرة وثابتة نسبياً، إذ أن المال هو عصب كل مشروع وهو قوة كل مؤسسة في تسيير عملياتها ونشاطاتها بصورة منتظمة وبيروقراطية.وسلسة وكفؤه وفعاله. والاستقلال المالي للجامعة، لا يعني بأي حال من الأحوال تحويل الجامعة إلى شركة استثمارية تعتمد على مصادرها المالية الخاصة، بل يعني أن تتحمل الدولة مسئوليتها الوطنية وتمنح الجامعة ما تحتاجه من المصادر المالية في ميزانية محددة ومستقلة، يترك أمر تصريفها وتوظيفها للجامعة وهيئاتها المستقلة وفقاً للقنوات الشرعية، مع منح الجامعة الحرية في وضع القواعد المالية الخاصة بها وحرية التصرف في الميزانية المعتمدة لها وحرية التحويل من بند إلى أخر من بنود الميزانية كما يجب أن تكون الرقابة المالية على الميزانية من داخل الجامعة ذاتها دون تدخل من الخارج. وتشير الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من الجامعات الحكومية في الدول الأوروبية تعتمد في تمويلها على حكوماتها الوطنية، دون أن يؤثر ذلك على حريتها واستقلاليتها الإدارية و الأكاديمية .إذ أشار د. ل في كتابه (ضمان الجودة في التعليم العالي) 2005 إلى انه “وباستثناء جامعة بوكنهام Buckingham تحصل كل الجامعات البريطانية على نسبة كبيرة لتمويلها من الحكومة من خلال لجنة المنح الجامعية UGC وهي هيئة شبه مستقلة ذاتياً؛ أعضاؤها أكاديميون، ولم يكن للحكومة دخل في تعيين رؤساء الجامعات” واحترام الاستقلال الذاتي للجامعات معناه، تخصيص المعونات في إطار الخطوط أو الأطر الحكومية العريضة التي لا تمس حرية واستقلالية المؤسسة الأكاديمية بأي شكل من الأشكال.
وهذا ما أكده د/عبد الفتاح أحمد حجاج بقوله”أن مجمل إيرادات الجامعات البريطانية- تقريبا- تأتي من الحكومة المركزية عن طريق( لجنة المنح الجامعيةUGC) وبذلك تتمكن الجامعات من ضمان الحصول على موارد مالية ضخمة شبة دائمة من الخزينة العامة للدولة وفي ذات الوقت تضمن استقلاليتها المؤسسية وحرياتها المهنية الأكاديمية” هذا في حين أن القابضين على مقاليد الشأن السياسي في بلادنا لا يزالون ينظرون إلى الجامعة بعقلية البقال عقلية الربح والخسارة التي لا ترى في كادر الجامعة غير حفنة من النقود الإضافية على الميزانية.
2- الاستقلال الإداري:
يرتبط الاستقلال الإداري للجامعة شرطياً باستقلالها المالي وهو شرط ضروري للاستقلال الأكاديمي، ونعني بالاستقلال الإداري حرية الجامعة في إدارة نفسها بنفسها، وحريتها في وضع القوانين واللوائح التي تنظم عملها وحرية وضع هياكلها التنظيمية والمؤسسية واتخاذ القرارات الداخلية وتصرف شؤونها دون تدخل أو تسلط أو وصاية من أي جهة أخرى، سياسية أو بيروقراطية رسمية أو حزبية أو شخصية خارجية والاستقلال الإداري للجامعة يعتبر من أهم الضمانات التي توفر المناخ السليم لاستقرار العمل الجامعي ونموه وتقدمه ولا يكون الاستقلال الإداري للجامعة إلا بامتلاكها حرية تشكيل أجهزتها الإدارية العليا وقياداتها الأكاديمية من رئيس الجامعة إلى رئيس القسم العلمي- بطريقة ديمقراطية تقوم على أساس الانتخابات الجد والتمثيل الصادق للتنظيم الجامعي والتجسيد الفعال للقيم العلمية والأكاديمية مع ضرورة اشتراك الطلبة في إدارتها وتمثيلهم في هيئاتها المنتخبة، والاستقلال المالي والإداري للجامعة لا يعني الحرية المطلقة، بل يتضمن منح المؤسسة فضاء وأفق ومجال نسبي وكافي لتتمكن من الحركة والاستدارة بمرونة وسلاسة ودينامية، وتستطيع النمو والتطور والتقدم بقواها الذاتية، وهي بذلك تظل خاضعة في كل نشاطه للأهداف الوطنية والمصالح العليا للدولة والمجتمع في ظل الدستور والقوانين النافذة والجامعات الحديثة منذ نشأتها كانت كيانات قانونية مستقلة، تضم )هيئات من الطلبة والمدرسين الذين أعطوا صلاحية تصريف أمورهم كيفما شاءوا) ويذهب توني هف ” إلى أن الجامعات جاءت إلى الوجود بوصفها نقابات علمية » دون الموافقة الصريحة من الملك أو البابا والأمير أو الأسقف بل كانت منتجات عفوية أنتجتها غريزة الارتباط التي اكتسحت المدن الأوروبية خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر وكأنها موجة عظيمة.
٣- الحرية الأكاديمية:
وقد ارتبط نمو العلم وازدهاره بالحرية كمعطى إنساني وحق فطري للكائن الاجتماعي، إذ أن الحرية الشيء الوحيد الذي يستحيل إنكاره، وقد كانت الجامعات منذ نشأتها في القرون الوسطى تمتع بقدر كبير من الحرية والاستغلال الأكاديمي، والحرية هي من التقاليد الراسخة التي ورثتها الجامعات الحديثة المعاصرة ونعني بالاستقلال الأكاديمي حرية الجامعات في اختيار نظامها التعليمي وبرامجها ومناهجها وطرائق التدريس واختيار هيئة التدريس فيها، وعدم وضع قيود على ما تدرسه الجامعة وما يقوله أو ينشره أو يعبر عنه أساتذتها من الأفكار والآراء العلمية وغير العلمية. ويعني الاستقلالية الأكاديمية للجامعة حيادها الفكري وتجردها وعدم انحيازها.والحرية الأكاديمية هي حصيلة وثمرت الاستقلال المالي والإداري للمؤسسة الجامعية. وتجدر الإشارة إلى اننا لا نزال نستخدم كلمة (أكاديمي) و(الأكاديمية) بدون أن نمتلك فهماً واضحاً ودقيقاً لمعناها، بل جرت العادة على عدم التفريق بين الأكاديمي والجامعي، أو بين النقابة والمهنة أو بين التعليم العام والتعليم الأكاديمي.
في حين أن المفهوم قد تطور وتحور منذ أفلاطون ليكتسب اليوم معنى واضح ومحدد. هو معنى التمييز المهني للمشتغلين في حقل المعرفة والعلم والتفكير المنهجي النظامي ، فالأكاديمي هو الشخص الذي يقوم بنقل المعرفة وإنتاجها بإتباع مناهج وأدوات علمية محددة، بهدف الكشف عن الحقائق وبحث الأشياء والمشكلات بموضوعية وتجرد وحيادية تامة.
والأكاديمية هي الصفة التي تطلق على حقل متعدد الأدوار والقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية،دور الأستاذ الجامعي دور الباحث العلمي، دور المثقف المتخصص، دور المشرف العلمي(أو حارس البوابة)بما تشتمل عليه تلك الأدوار من قيم مهنية أكاديمية وأخلاقية منها: الرصانة والأمانة والاستقامة والعقلانية والموضوعية والتجرد …الخ. وقد كانت جامعة باريس في القرنين الثاني عشر والثالث عشر على سبيل المثال،هي التي تضع قواعد وتعليمات تنظم قبول الطلبة وطردهم وقواعد وتعليمات تحدد سلوك أعضاء هيئة التدريس؛حقوقهم وواجباتهم وتحدد المواد التدريسية وتسلسلها، وبكلمة كانت الجامعة مؤسسة للتعليم العالي تحكم نفسها بنفسها ولا تخضع لأي ضغوط أو قوى من خارجها.
٤- الجامعة وحرية التفكير
إن الحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، إذ أن العلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة. وقد كان الفتح الجديد الذي أوجد حرية البحث العلمي هو من اخطر الثورات الفكرية والاجتماعية في تاريخ البشرية، ولقد أعطى العلم بصفته الشكل النموذجي للبحث الحر، مهمة وضع مجالات الفكر كلها في الوضع الصحيح لذا فإن العلم هو العدو الطبيعي للمصالح القائمة كلها سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو الدينية بما فيها مصالح المؤسسة العلمية ذاتها، ذلك أن الحرية ترفض التسليم ببقاء الأشياء على حالها. والشك المنظم الذي تتصف به الطبيعة العلمية أمر دائم الحضور ودائم التشكك بأخر الاقتناعات الفكرية، بما فيها تلك التي طال أمد التسليم بها. وكما يقول توبي أ. هف » بما أن العلم قد أعطى هذه المهمة الفكرية لفحص صور الوجود وأشكاله كلها فانه غدا العدو الطبيعي للنظم التسلطية بشكل خاص وهذه النظم لا تستطيع أن توجد حقاً إلا إذا كبتت أشكال البحث العلمي التي تظهر الطبيعة الحقيقية للنتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الخطيرة والمدمرة لتسلطها وحكمها. ولما كانت الجامعة هي المؤسسة التي تنهض برعاية العلم وتنميته وتقدمه وازدهاره، فلابد لها من أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة، إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، كما يقول كروبر “إن حاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية”، وتلعب الحرية الأكاديمية دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتغييره وتقدمة وازدهاره.وهذا ما أوضحه امارتيا صن في كتابه (التنمية حرية)(مؤسسات حرة و إنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر) بقوله”أن الحرية هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع .وبدون أن تأمن الجامعة بيئة مناسبة للأساتذة والطلبة في ممارسة نشاطهم التعليمي والعلمي، فلا يمكن لها النمو والتطور والازدهار.هكذا نلاحظ أن حرية الجامعة واستقلاليتها المالية والإدارية والأكاديمية ليست من الأمور التكميلية والثانوية، بل هي أس الأسس ولب المسألة برمتها. لكن كيف يمكن للجامعة أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة؟!.
وسوف تكون لنا وقفة قادمة مع الجامعة والجودة الأكاديمية
ختاماً نقول إن الأشخاص يأتون ويذهبون
بينما المؤسسات هي وحدها التي يمكنها أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون والتنمية.
ونحن الذين نقوم بتشكيل مؤسساتنا ثم تقوم هي بتشكلنا، وكيفما نشكلها تشكلنا!