fbpx
الصوت الداخلي عالم خفي تحت السيطرة
شارك الخبر

يافع نيوز  – الخليج

من منا لم يتفاجأ بصوت داخلي يقول له في صمت: “اهدأ”، “هيا أقدم وكن شجاعاً! أو يقول له لا، لا تفعل ذلك”، هذا الصوت الخفي المنبعث من الأعماق نعرفه جميعاً وغالباً يرافقنا عندما نقرأ كتاباً بصمت ونخطط لأعمال الغد أو نبحث عن محفز للوصول إلى هدف معين كما يظهر في لحظات استراتيجية ينبغي علينا خلالها السيطرة على أنفسنا لمواجهة وضع دقيق، والتحكم في دوافعنا الخاصة، وربما يكون للعداء تجربة خاصة مع هذا الصوت وذلك حينما يكون جسمه متعباً ويريد التوقف، ينبعث فجأة هذا الصوت الداخلي ليساعده بالقول: “هيا، لم يزل أمامك كيلومتر واحد، كي تصل إلى المنعطف” .

طالبة الدكتوراه في علم النفس اليكسا توليت، والبروفيسور مايكل إنزلخت من جامعة تورنتو أجريا تجارب لقياس تأثير الصوت الداخلي في مسألة ضبط النفس، وفي واحدة من هذه التجارب، طلب الباحثان من أناس الضغط على زر عندما يظهر رمز معين على الشاشة، ولكن لا بد لهم من كبح رغبتهم في الضغط عند ظهور أي رمز آخر، والواقع، أن الاختبار يتم بطريقة بحيث الرمز الذي يطلق الفعل يكون أكثر شيوعاً من غيره، بحيث الضغط على زر يصبح بسرعة استجابة تلقائية، ولو أننا دعونا أفراد التجربة إلى تكرار كلمة ما بشكل ضمني أي من دون ترديدها علنا خلال تمرين، فإن ذلك سيؤدي إلى كبح صوتهم الداخلي، وبالتالي إلى خفض أدائهم للتمرين .
وعن طريق تجارب أخرى من نفس النوع، خلص الباحثون إلى نتيجة مفادها أن الناس تتصرف بتلقائية أكبر عندما لا يمكنهم اللجوء إلى استخدام “صوتهم الداخلي”، ويقول مايكل إنزلخت: “إذا كنا غير قادرين على التعبير عن الرسائل الداخلية، فإننا نفقد جزءاً من ضبطنا لأنفسنا” .
ولكن من أين هذا الصوت المعروف لنا جميعاً؟ ومن هو؟ مما لا شك فيه أن الأنا يتحدث إلى نفسي، ولكن لماذا التحدث إلى النفس؟ وهل ثمة شخصان بداخلي واحد يتحدث وآخر يستمع؟ الكاتب الياباني موراكامي يقول إنه عندما لا يشرع بالكتابة، فإنه يتدرب على الماراثون، المتمثل في الحوار الداخلي بينه وبين جسده الذي تعكسه صورة المؤلف والعداء .
ويعتقد موراكامي أن الصعوبة الأولى تتمثل في تحديد ماهية ذلك الخطاب الداخلي . فتعريف محدود يحصر هذا الخطاب في إطار الرسائل التي يرسلها المرء لنفسه، لتحفيزها وتشجيعها خلال أحداث معينة، ومر ستيفن كالاهان بهذه التجربة عندما غرقت سفينته في عام 1982 حيث لجأ البحار الوحيد إلى هذا الصوت الداخلي لمكافحة الذعر أثناء الغرق في وسط الليل المدلهم، حيث اتخذ منه رفيقاً خلال أيام طويلة من الشعور بالوحدة واليأس امتدت 76 يوماً على قاربه)، (انظر صعوبة البقاء على قيد الحياة وحدك في البحر) .
وبما أن هذا الصوت ملجأ يستخدمه المرء خلال المحن التي تتطلب الإرادة وضبط النفس، فإن هذا “الصوت الصغير” يلقى اهتمام علماء نفس الرياضة والخبراء في تطور الشخصية، وظهرت عند الأنجلوسكسون تحت مسمى “حديث النفس”، و”الصوت الداخلي”، و”الخطاب الداخلي” أو “المونولوج الداخلي” .
ومن وجهة النظر هذه، فإنه يمكن لهذا الصوت الارتباط بطريقة “الإيحاء الذاتي” التي اخترعها عالم الصيدلة الفرنسي إيميل كويه في بداية القرن العشرين، والتي من خلالها استطاع التدرب على سماع هذا “الصوت الصغير” الذي يدعمنا عند انفرادنا بأنفسنا والاستماع إلى مناقشة حدثت في وقت سابق مع صديق أو زميل . لا شك أنك مررت بهذا الحدث من قبل، أليس كذلك؟ ووجدت نفسك تتحدث بهدوء مع نفسك وتحرك شفتيك وتهمس .
هذا “الصوت الداخلي” كان محور بحث وتفكير العلماء في الفلسفة القديمة والقرون الوسطى، وكان الفلاسفة يدركون تماما وجود هذه “اللغة الداخلية” التي وصفت من قبل المفكرين في القرون الوسطى من خلال التمييز بين ثلاثة أنواع من الخطابات: المكتوبة والشفوية و”العقلية” . (انظر C . Panaccio الخطاب الداخلي، من أفلاطون إلى وليام من أكهام، دار نشر سوي، 1999) لكن الجدل الفلسفي حول طبيعة هذا الخطاب الداخلي، جعلهم يدخلون في تكهنات لا تنتهي، وبدأوا يتساءلون هل المقصود ب “الخطاب الداخلي” الأفكار الداخلية التي يتم التعبير عنها على شكل لغة داخل النفس وهذا يعني أن كل فكر لغة والتفكير ليس أكثر من مجرد “حديث داخلي” وأن ما نظنه أفكاراً شخصية ليست سوى نتاج لأفكار داخلية عما يحدث في هذا العالم، وهنا طرح الفلاسفة تساؤلاً آخر: “هل ينبغي لنا أن ننظر إلى “الخطاب الداخلي” على أنه فكر يسبق اللغة . وأنه صور وكلمات ما نتأمله في حد ذاته، وبالتالي فإن الكلام ما هو إلا المظهر الخارجي لذلك؟ وكانت الإجابات عن ذلك متعددة فمنهم من قال إن الحديث الداخلي صدى للعالم الذي يصدح في رأسي بينما رأى آخرون أن الكلمات التي نقولها عندما نتكلم، ليست سوى قمة جبل الجليد الذي يظهر منه ذلك الجزء المغمور وهو الخطاب الداخلي .
واعتقد الفيلسوف النمساوي البريطاني الأصل لودفيغ فتغانشتاين، الذي يعتبر واحداً من أكبر فلاسفة القرن العشرين أنه وضع حداً لأي تكهنات من خلال إنكار وكبت هذا “الصوت الصغير” حيث كان يرى دائماً أن الشعور بالانكسار والضعف وسرعة الاستياء والذاتية، والأفكار الداخلية، كل هذا هراء! فمن الناحية التقنية، يرى أن “اللغة الخاصة” ما هي إلا وهم، ويرى مارلو – بونتي الشيء نفسه في كتابته لظواهر الإدراك . لكن اعتقد C . Panaccio أنهما على خطأ لأننا إذا أردنا الاستماع إلى الصوت الداخلي للآخرين وهو ما يعتبر من المستحيل، يجب أن نتوجه نحو الكتاب بدلاً من علماء النفس لأنهم استطاعوا الكشف عن أهمية “الصوت الداخلي”، فمن الكاتب والشاعر الأيرلندي جيمس جويس إلى البريطاني ديفيد لودج، فإن ذلك الصوت الصغير يعكس أفكارنا الشخصية العميقة، والتأملات الشخصية الصغيرة التي نجترها بصمت، من الصباح إلى المساء، إنها تلك الأفكار السرية، لأنها ربما تكون خاصة أو عابرة، أو سخيفة جداً أيضاً، وربما غامضة للغاية، (وإذا كنت تريد عينة منها فاقرأ كتاب: مرحباً بك في ذهني، قصص من الحياة الداخلية ) .
وكان الطبيب النفسي والفيلسوف الفرنسي المنسي فيكتور إيجر (1848-1909) نشر في العام 1881 كتاب: “الخطاب الداخلي محاولة في علم النفس الوصفي”، حيث شرع في إثبات وجود ووصف الصوت الداخلي غير المرئي الذي يتحدث أحياناً داخلنا .

أخبار ذات صله