fbpx
عندما يغيب الوعي يبرز المشعوذين

 

 بدايةً إذا أخذنا على سبيل المثال أن شخص وصل إلى مرحلة معينة من العمر فتوقف نموه نتيجةً لمرض عضوي أصابه، فالأمر يتوقف على المعنيين بأمره إذا كانوا عقلاء وأهل وعي سيتولى أمره أطباء مختصين لتشخيص حالته، ثم بعد ذلك علاجه، إما أن كانوا جهلة مؤمنين بالشعوذة سيقنعون أنفسهم أنه “مسحور” ويتولى أمره المشعوذين. وأينما غاب الوعي تتسيّد الشعوذة وتتحكم بتفاصيل المشهد وتضبط إيقاعه، ويصبح المشعوذين هم أصحاب الكلمة العليا والقول الفصل في كل الأمور، وأي رأي منطقي يستند إلى العقل يعارض أو يحاول تصحيح هذه المفاهيم السائدة يصبح منبوذ وغير مرحب فيه. طبعاً هذا إذا افترضنا أن هناك من يستطيع قوله..!

 لأن ذلك في واقع الحال شيء مستحيل حدوثه.. ومن يجرؤ أن يقف بوجه الشعوذة في ظل إيمان عامة الناس بها! ما يؤسف أن هذا الوضع هو الوضع السائد في الجنوب وأن الثورة هي هذا الشخص، بدلاً من أن يتدخل المختصّين لعلاجها، شوّه جسدها المشعوذين بالكيّ، ومن يستطيع أن يقف أمام هذا العبث! في ظل إيمان الناس به. الثورة وقفت خطواتها عند المهرجانات ولم تتقدم بعد ذلك خطوةٌ وأحده، منذُ سنوات وهي على هذا الحال تدور حول نفسها في ظل غياب مشروع فكري يهديها السبيل، وأيضاً غياب الوعي والحامل السياسي المنظم الذي يؤخذ على عاتقه تطلعات الجماهير وأهدافهم ويبحر بها إلى بر الأمان.

 صحيح أن المهرجانات مهمة وضرورية، وصحيح أيضا أن الشعب من خلالها يقول أنا هنا وأنا مالك الأرض وسيدها، ولكن هناك ثمة شيء أهم وأعمق من ذلك بكثير وهو إيجاد مشروع فكري متكامل يحدث ثورة فكرية تحرر الجماهير من دائرة الجهل السياسي والتبعية للأشخاص إلى الوعي والعمل الجماعي المنظم الغير خاضع للأهواء والرغبات، تقوده مجموعه من النخب المثقفة والأكاديمية المختصة والمخلصة.

 أن انشغال المشعوذين بالتسابق على المنصات وإعلان المهرجانات وتشكيل اللجان التحضيرية لسّيطرة على الجماهير واستغلالها لأهداف وحسابات خاصة -تخصهم وتخص مستقبلهم السياسي الشخصي- دون أي اكتراث بالوطن وشؤونه وإن أبدوا ذلك فهم بالحقيقة لا همّ لهم إلا التسويق لأنفسهم طمعاً بالكعكة التي يرون أنها بدأت تنضج بجهود هذه الجماهير المغلوب على أمرها. رغم هذه العجز الواضح والعقم الظاهر للعيان إلا إننا لم نر أحداً يقيّم المراحل السابقة للوقوف على نقاط السلب والإيجاب فيها، ولم نرى أحدا يسأل ما هي أسبابه ومسبباته.. 


ثم يبحث عن إجابة منطقية ومقنعه على ضوئها يرسم سياسة معيّنة وواضحة المعالم للخروج من هذا المأزق الذي طال أمده وضاق الناس ذرعاً منه ! لم نرى أي خطوات عملية ملموسة يشعر بها الناس، مذ سنوات والجميع يدور حول نفسه، كلّما في الأمر هو مزيداً من الوعود والخطابات وبيع الوهم.. والمصيبة الكبرى أن الغالبية سلموا وآمنوا أيمان لا يساوره شك إن الشعوذة هي الحل، وصدقوا إن الثورة تتخبط نتيجة قدرة الخصم على اختراقها والعبث فيها واقتنعوا بهذا التوصيف رغم أنه أوهن وأضعف من أن يخترق إرادة الشعب أن استُغلت استغلالاً صحيحاً.

 ويظنّوا أن كل ما يدور هو نتيجة لمفعول السحر الذي ألقاه، وبنفس الوقت يتجاهلون الوقائع والحقائق الموجودة على الأرض دون إدراكها أو محاولة فهمها وفهم الأسباب الحقيقية التي أعاقت الثورة وقيدتها، بل يرفضوا ويجرّموا أي تشخيص موضوعي يكشف حقيقة المرض الذي تعاني منه ويعتبروا هذا مساس بالثوابت الوطنية وخيانة عظمى في حق الوطن والشعب. قبل الختام نعود إلى الوراء قليلاً لتّأمل: من المعروف أن الفكر الاشتراكي يقوم على التفاؤل بحتمية الانتصار، وهذا التفاؤل المفرط الذي لا يؤخذ بعين الاعتبار الحقائق كان وراء انهيار كل البلدان الاشتراكية! ولأننا كنّا جزء من هذه الدول ونُخبنا مشبّعة بهذا الفكر فقد ذهبنا إلى الوحدة نحمل التفاؤل وحده فقط، دون تدرّج بخطوات مدروسة ومحسوبة مسبقاً وحينذاك حدث ما حدث. 


وهذا الشيء أيضاً ما نخشاه أن يحدث في طريق العودة. الاعتماد على التفاؤل بحتمية الانتصار أو شعارات حتماً سننتصر لا تنتج الانتصار.. هناك فجوه سياسية وفكرية كبيرة في طريق العبور إلى المستقبل وتجاهلها الآن دون العمل على ردمها، يعني إننا أمام كارثة أخرى تنتظرنا لا تقل خطراً عن الأولى!