fbpx
مقاربة منهجية نقدية في كيفية النظر الى القضية الجنوبية

جزء من الدراسة المقدمة الى منتدى الحوار الفكري وتنمية الحريات بصنعاء

 خلال الفترة 20-22 أكتوبر 2011م بعنوان  (الخلفية التاريخية والسياسية للقضية الجنوبية ) 

بقلم |    د. قاسم المحبشي

                                                           

      تعود أهمية قضية من القضايا إلى ذلك الوقيد الانفعالي المستعر بشأنها وليس هناك من قضية اليوم استقطبت الاهتمام وأثارت أمواج عاتية من الأفعال والانفعالات والتفاعلات مثل القضية الجنوبية, التي أخذت تحظى باهتمام مضطرد في مختلف الفضاءات المحلية والإقليمية والعالمية بعدّها قضية خطيرة وعادلة ونوعية وجديرة بالاهتمام والدرس والبحث والحل في ذاتها ولذاتها ومن أجل ذاتها.

  ورغم الحضور الكثيف لخطاب الجنوب والقضية الجنوبية في مختلف الوسائط الإعلامية المرئية والسمعية والورقية. فضلاً عن حضورها الملتهب في عالم الممارسة الاجتماعية الواقعية اليومية لحياة الجنوبيين الذين خرجوا منذ عام 1994م للتعبير عن رفضهم ومقاومتهم السلمية للواقع الجديد _ الذي فرض بقوة النار والحديد _ بمختلف أشكال وأدوات وطرق المقاومة والتعبير الممكنتين؛ كتابات مناشدات اعتصامات احتجاجات  مظاهرات, جمعيات, وتكوينات مدنية ونضالية وتكتلات تنظيمية  في الداخل و الخارج, تمخضت عنها ثورة شعبية عارمة منذ 7/7/2007م.

  ورغم كثرة الكتابات والمناقشات والمؤتمرات والشعارات والممارسات الشعبية والمدنية والرسمية والإعلامية والأيديولوجية فضلا عن الدراسات والتقارير الاجنبية والعربية والاقليمية التي أنجزت بشأن هذه الظاهرة الاجتماعية السياسية التاريخية الحيوية الراهنة , إلا أنها للأسف الشديد ظلت بعيدة عن اهتمام المشتغلين في البحث المنهجي والحقل الأكاديمي المهني التخصصي المعني بالبحث عن الحقيقة ؛ حقيقة الظاهرة وفهمها , فهماً علمياً ومنهجياً نقدياً عقلانياً موضوعياً محايداً. إذ لم ينجز حتى الآن خطاباً ابستومولوجيا ذات اعتبار بشأنها القضية  من حيث هي ظاهرة تاريخيةـ اجتماعية سياسية ـ شديدة التعقيد والتركيب بما تنطوي عليه من بنيه تضم شبكة هائلة من العناصر والأنساق والمستويات والإبعاد؛ فاعلين وأفعال ,علاقات ,تفاعلات أدوات ,عناصر ,انساق وممارسات ,خطابات ,قيم ,رموز,شعارات,ضحايا وتضحيات ومواقف ومواقع  واتجاهات ورؤى وسرديات …الخ.

    وهذا هو حال كل الظواهر الاجتماعية السياسية التاريخية المتشابكة الأبعاد, والمجالات المختلفة ؛ السياسي والعسكري والاجتماعي  والتاريخي والجغرافي والاقتصادي والحقوقي والثقافي والأيديولوجي والديني والاخلاقي والنفسي ..الخ

  وهي بذلك تنبسط بوصفها موضوع عام لعدد من فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية: التاريخ والفلسفة علم الاجتماع  والسياسة والانثروبولوجية , والجغرافية والاقتصاد والقانون والسيكولوجية والدين, والأخلاق اي بكلمة واحدة ما بات يعرف ب الدراسات الثقافية   والنقد  الثقافي والهيمنة .

  هذا ما يستدعي تعاون جهود عدد واسع من الدارسين الاختصاصين والمهتمين للإحاطة الممكنة بأبعاد الظاهرة( القضية ) والنفاذ إلى صميم بنيتها المغلقة , والكشف عن تيمتاها المتخفية, بما يساعد على فهمها فهم سليم بعيد عن الأوهام والخرافات والأهواء والرغبات والتحيزات وبمنى عن الأهداف والغايات.

  فكيف يمكننا إنجاز ذلك المقصد المرتجى من هذه   (الندوة العلمية) التي أعلنت بوضوح بأن هدفها هو ( البحث العلمي والموضوعي للقضية الجنوبية من مختلف جوانبها وبكافة مفرداتها , وتوصيفها توصيفاً علمياً وصياغة تصورات لكيفية حلها حلاً جذرياً ومنصفاً.

  ومع الاحترام  العميق لمنتدى الحوار الفكري وتنمية الحريات, ولكل منتسبيه,  فقد أبديت تحفظي الشخصي على وصف الندوة باـ ” العلمية” لاعتقادي غياب الشروط الممكنة لذلك في جانبيها الموضوعي والذاتي  في بيئتنا الثقافية العربية التقليدية التي لم تخبر بعد ممارسة تقاليد النشاط العلمي والبحث المنهجي لأسباب يطول شرحها.

   وقد  عبر الكثير من العلماء والمتخصصين في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية عن ما يكتنف دراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية من معوقات منهجية ونظرية تحول دون تحقيق شروط العلم ومنهج البحث العلمي الموضوعي المحايد حتى في أفضل الظروف مواتاة ,اقصد في البلدان التي تمتلك تقاليد وخبرات بحثية علمية راسخة ومتراكمة منذ مئات السنين.

  وبهذا المعنى يمكن لنا فهم فحوى تساؤل عالم الاجتماع الفرنسي الشهير, بيار بورديو, هو “كيف يمكننا إنجاز خطاب ابستمولوجي في موضوع سيوسولوجي” دائم الحركة والتحول والتغير والتبدل, شأن جميع الظواهر الاجتماعية ؟”

 اذ أن الباحث في هذا الحال يكون جزء من الظاهرة المراد بحثها, بما هو إنسان يعيش في  مجتمع يؤثر ويتأثر وينفعل بما يعتمل فيه من قضايا وأحداث صغيرة أم كبيرة , تمارس تأثيرها المباشر على حياة جميع أفراد المجتمع  الذين يعيشون الحياة بسياقها الحي  والمباشر,تلك الحياة التي نمنحها تسعة أعشار من وقتنا الذي نعيشه في عالمنا     الواقعي المعيشي الفوري , بلا ماض ولا مستقبل , عالم اللحظة الحاضرة الراهنة المباشرة , عالم الحياة وتدفقها بملموسيتها وكليتها. أي الحياة اليومية البسيطة المليئة بالانشغالات الروتينية والمتطلبات المعيشية الملحة الصغيرة والروتينية التي تستغرق الكائن الاجتماعي الساعي إلى إشباع حاجاته بمختلف الوسائل والسبل والحيل والتقنيات والعادات التقاليد والأساليب والصراعات والرهانات والتفاعلات والنجاحات والأخفقات,المكاسب والخسارات وكل أنماط العلاقات والممارسات اليومية التي ننهمك بها  والتي تشكل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمته  “أي” الحياة بلا مزايا “,التي   يسميها عالم الاجتماع “جلير دوران” بالجو الخانق.”

    والسياسة هي “الزمن الذي لا يمر” حسب دوبرية بمعنى انها حضوراً مستمر وانشغال دائم للكائن الاجتماعي السياسي بفطرته, حسب ارسطو وابن خلدون , وهي لذلك تمارس        تأثيرا طاغيا في حياة الناس بأشد مما تأثر بهم  تقلبات الظواهر الطبيعية : المناخ, الحر البرد,  الجدب, الخصب, الفيضانات, الرياح ,العواصف ,الزلازل والبراكين…الخ.

  ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بمدى ذلك الأثر الفاجع الذي أحدثته الكوارث  السياسية في حياتنا في هذا هذا الصقع المسمم بالفساد والعنف والخوف والظلم والجهل والجريمة والانكسارات والكوارث السياسية, والتي تعد (قضية شعب الجنوب ودولته الجنوبية) أحد أبرز تجلياتها الفاجعة , تلك القضية التي نود اليوم  بحثها من حيث هي ظاهرة سياسية واجتماعية من زاوية نظر منهجية عقلانية نقدية متجردة قدر الإمكان .وهي بحكم راهنيتها وحضورها الكارثي المؤلم في العقول والقلوب مشبعة بشحنة إنفعالية وعاطفية أيديولوجية بالغة الحساسية والتأثير في حياتنا هنا والآن في الجنوب والشمال   بهذا القدر أو ذاك من الشدة والحدة  ومن الاشتباك والاحتكاك  ومن مختلف المواقف والمواقع والاتجاهات بل والمسافات التي نشغلها بالنسبة لها  ومنها من حيث القرب والبعد المع والضد … الخ . هذا الشعور الملتهب   المنفعل يصعب علينا التحرر منه وتأثيره الطاغي فينا وعلينا مهما حاولنا ذلك. وبقدر ما يتعاظم الجزع الذي تحدثه ظاهرة من الظواهر, يبدو معها المرء أقل قدرة على ملاحظتها بشكل صحيح  والتفكير فيها بشكل موضوعي وإعداد الطرق الملائمة لوصفها ومراقبتها وتفسيرها وفهمها وتوقع مآلاتها بقدر من التجرد والموضوعية بما يؤمن حد أدنى من الصدق والأمانة والنزاهة  والإنصاف في معرفة الحقيقة وفهمها. اذ ان  الحقيقة مستقلة دائما في أخر المطاف .وفي طلب التعرف على الحقيقة لا يهمني أن اعَّارض بقدر ما يهمني أن اكون على صواب ولو نسبيا .

  وهذا هو قدر الإنسان مع ذاته وحياته ومشكلاتها ومع الاخرين ومجتمعه ومشكلاته  التي لا فكاك منها مهما حاول الهروب والتهرب واللامبالاة  إذ لا بد من المحاولة مرة ومرات وبذل المزيد من الجهد والبحث والدراسة  والنقاش  وتداول الرأي والنقد والقييم   فليس لدينا سبيل آخر للتعرف على المشكلات التي تؤرق حياتنا وفهم العلل والأمراض التي تفتك بنا وبحث السبل والممكنات الناجعة لتجاوزها, فلا عذر لنا طالما ونحن موجودين هنا والآن, وقّدر لنا أن نكون شاهدين على هذه الحقبة الصاخبة بالحروب والعنف والظلم والظلام  وبالمآسي والأزمات والإخفاقات , إذ أنه من المهين أن يكون سر أزمة حياتنا والتقييم الدقيق لمصائبنا وأزماتنا وقفاً على أناس لم يولدوا بعد ولا شيء يمكن انتظاره ان نبادر نحن بعمله .

  وفي سبيل أن لا يضيع جهدنا ويذهب سدى لابد لنا من محاولة انتهاج طرق وأساليب مقاربة منهجية ورؤى متبصرة وفاعلة في دراسة وفهم القضية الجنوبية والمشكلة الشمالية.  وأقترح هنا المنهج  النقدي العقلاني  الذي يقوم على الأسس التالية:ـ

التفكير القائم على الانفصال:

أي الانفصال عن موضوع البحث بقدر الإمكان , بمعنى أن رؤية ظاهرة من الظواهر غير متاحة إلا بعد التحرر من أسرها وسطوتها  , ووضع ذواتنا على مسافة كافية منها بما يمكننا من رؤيتها بوضوح من جميع أبعادها, إذ أن الغارق في البحر لا يراه, والغاطس في السياسة لا يراها. وهذا ما ألمح إليه عالم الاجتماع الفرنسي “ميشيل مافيزولي” في فترات القلاقل والغليان وفي سبيل مقاربة وفهم المشكلات المؤثرة من  الأجدى تناول الظواهر الاجتماعية بعقل متحرر ما أمكن من  العواطف الملتهبة ومن أي أحكام مسبقة ومعتقدات قبلية”وألامر كذلك فإن رؤية متبصرة للظاهرة السياسية, الراهنة, الحيوية, المعقدة, التي جرى تبسيطها بتعرفها ووصفها ب” القضية الجنوبية” بما يوحي بأنها جزئية بسيطة أي مجرد   (قضية) واحدة من قضايا مشابهة في اليمن !. في حين إن المطلوب كي تتضح الصورة أن نحاول  الابتعاد عن الصيغ السهلة والكليشات الجاهزة, والتعريفات الشائعة, المبتذلة من كثرة الاستخدام عند الرأي العام     ونعتقد أن مثل هذه  الأمكانية  المعرفية في   فهم القضية هي مهمة أولئك المتحررين من الأيديولوجيات والاستلابات الكثيرة المختلفة , ممن يمتلكون عيون نقدية قادرة على رؤية (القضية ) كما هي في الواقع  باسبابها الفعلية  وحدودها الواقعية وعناصرها ونتائجها وحلولها الممكنة بعيدا عن الرغبات والاهواء والامنيات والاوهام الشائعة  أو كما يروج لها  في الوسائط الرسمية اليمنية المختلفة وفي الراي العام  وهذا هو ما يتيحه منهج النقد العقلاني المجرد عن الأحكام المتسرعة والأهواء المبتذلة وحسن النوايا أو التعصب الأعمى , والعواطف الملتهبة. فالانفعالات والشهوات لا تفسر شيئاً على الإطلاق بل تزيد الطين ضغثا على ابالة !!

و زاوية النظر المنهجية التي  نقترحها هنا  تسمى, (منهجية الممارسة الانعكاسية)

     بمعنى أن يمتلك الباحث النقدي حساسية نقدية تجاه ذاته الفردية والجمعية _ حساسية نقدية واعية  _  تمكنه من القيام بإحداث قطيعة فكرية بين  عواطفه ورغباته وتأويلاته وغاياته, ومواقفه, واتجاهاته الشخصية والاجتماعية _ قطيعة _ مع  رؤيته للظاهرة المعنية, موضوع البحث ومع الخطاب السياسي والإيديولوجي الرائج ومع السوسيولوجيا التلقائي العامومي  ومهما يكن موقفنا من  الماضي فإنه تاريخنا ولا جدوى من  الثأر منه أو السخرية منه , كما أن حبنا له وإجلاله لا يغيران من حقيقته شيئاً, وحينما يكون الماضي الذي نود معرفته, ماضياً سياسياً اجتماعيا قريباً وحاضراً ومؤثراً , مليئاً بالإحداث المأساوية فإن المهمة ستكون شاقة,غير أنه ليس هناك من خيار لنا  طالما ونحن بشر يفترض أن نمتلك, العقل والحكمة, لا قطيع من الكائنات الحية.  لا تدري لماذا تعيش ولماذا تموت , وكيف تتصدى لمشكلاتها وتبحث في مآلاتها وممكنات حلولها , فمهما حاولنا فلابد مما ليس منه بد ولا يجدي التسويف والتبسيط واللف والدوران والمغالاطات والترقيع والتخدير والتأجيل … الخ  كما أن تجليات الواقع مكررة على الدوام , وليس في الإمكان المعرفة إلا ضد معرفة سابقة أُسيء تكوينها, أو كما قال الفرنسي باشلار ” ستكون الحقيقة خطأ مصححاً أو لا تكون”.

فإذا ما عرفنا الأخطاء تعلمنا منها, وإذا ما عرفنا الأسباب الحقيقية التي أفضت بنا إلى ما نحن فيه من حال ومآل  تمكننا من تجاوز وضعنا المنذر بأشد وأوخم العواقب . وكلما كانت صياغتنا للأسئلة دقيقة وواضحة وسليمة كلما انجزنا نصف المهمة . فما هي قضية شعب الجنوب الثائر  وما الذي حدث هنا بالضبط , وكيف حدث ما حدث ومن المتسبب به , وماهو حجم الكارثة وكيف يمكن علاجها … الخ  ؟؟ من الاسئلة التفصيلية  التي تبحث عن اجابات اختبارية احصائية دقيقة يصعب تجاوزها بالكلام المرسل والخزعبلات الفارغة .  

انني اذ اعيد نشر هذه الجزئية من الورقة البحثية بعد جريان مياه كثيرة في نهر الجنوب وقضيته المشتعلة وبعد ان اتضحت الكثير من ابعادها , وصيرورتها قضية دولية واقليمية نوعية وملحة , وذلك بهدف لفت نظر الزملاء والزميلات المهتمين  بالبحث المنهجي العقلاني النقدي بقية معرفة وفهم حقيقة القضية الجنوبية فهما مجردا عن اي غايات واهداف ايديولوجية واخلاقية  حسنة او سيئة النية _ من حيث كانوا طبعا _ انطلاقا من الخاصية الاساسية للبحث والمعرفة المنهجية  التي هي( القدرة على التنبوء بالمآلات المستقبلية للظاهرة موضوع المبحوثة ) وهذا لا يتحقق الا لمن اخلص النية في محاولته فهم الحقيقة والحقيقة الصافية مهما كانت مؤلمة وغير محبذة , اذ ان الحقيقة مستقلة عن اهواءنا في اخر المطاف .

 

·       استدراك

 لم اتمكن من المشاركة الشخصية في اعمال المنتدى  الفكري المذكور  خلال الفترة20-22أكتوبر         مما اضطرني الى ارسال ورقتي الى ادارة المنتدى التي بادرة مشكورة بتكليف احد الزملاء الاعزاء بقراءتها والتعقيب عليها      
مع خالص التقدير والتحية