fbpx
الحيدري الذي غادرنا قبل الآوان

                          

   في مساء يوم الثامن عشر من شهر مارس 2013م، أنتقل إلى جوار ربه تعالى، الدكتور أحمد محمد حسين حيدره الحيدري – المشهور بـ( أحمد الكازمي) –  في مدينة عدن. رحم الله فقيدنا العزيز، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وأصدقاءه الصبر والسلوان. وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

   ومن السيرة الذاتية المتداولة للفقيد الدكتور أحمد الكازمي، أنه قد ألتحق في شبابه – كسائر أقرانه من الشباب – بالحركة السياسية، وكانت حركة القوميين العرب – كحركة وتيار سياسي وفكري ذا اتجاه قومي – واحدةً من تلك الحركات السياسية. ومن المعلوم بأن تنظيم الجبهة القومية، كان جزءاً من هذه الحركة القومية.

   وباعتبار الفقيد أحمد الكازمي واحداً من أبناء قرية الدرجاج، الموطن الخاص بقبيلة (آل حيدره منصور)، التي ترجع أصولها إلى منطقة لودر العوذلية – وهذا تاريخ قديم يطول شرحه- فإن انتساب الفقيد الكازمي إلى حركة القوميين العرب بشكلٍ عام، والجبهة القومية في فترة ما قبل الاستقلال الوطني للجنوب على وجه الخصوص، قد حكمته بالطبع ثلاثة عوامل أساسية:

الاول: هو العامل الموضوعي، المتمثل في الحالة السياسية والاجتماعية، التي كانت سائدة فى الجنوب، والتي كانت متجليَّة في حالة الاضطرابات المعبرة عن رفض الوجود البريطاني، والمطالبة برحيل الاستعمار البريطاني من الجنوب، والحصول على الاستقلال الوطني. وقد ساعد على تنامي هذا الشعور – بغض النظر عما إذا كان ذلك الشعور واعيا أو بدونه – هو تنامي الشعور القومي، وظهور الحركات القوميه واليسارية في بلدان المشرق العربي؛ في سوريا والعراق ومصر، وعلى وجه الخصوص ظهور وتنامي الحركه الناصريه في مصر. وبسبب هذا العامل، وجد الكثير من الشباب في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أنفسهم منخرطين في العمل السياسي باتجاهاته المتعددة ، بل والمتصادمة مع بعضها البعض أحيانا. وكان فقيدنا (أحمد الكازمي) واحداً من اولئك الشباب، الذين أختاروا حركة القوميين العرب، وفرعها في الجنوب المتمثل بتنظيم الجبهة القومية.

   أما العامل الثاني، فهو خاص بالمجتمع الذي ينتمي إليه الفقيد(أحمد الكازمي)، ونعني به مجتمع قرية الدرجاج، الواقعة شرق مدينة جعار بنحو ثلاثة كيلو مترات تقريبا. وتستحوذ الدرجاج على أفضل الأراضي الزراعية، وذك بسبب موقعها المتميز، إذ تقع أراضيها بين أهم مجريين مائيين، وهما وادي حسان ووادي بناء. فأنعكس ذلك على إنتاجها الزراعي من حيث وفرة الانتاج، والمردود النقدي الناتج عن تلك الوفرة الإنتاجية. ومن المؤكد بأن ذلك قد أفرز حالة تنوع في التركيبة الاجتماعية لسكان قرية الدرجاج. فقد وجد فيها من تملك مساحات زراعية جيدة من حيث الكم والنوع، كما وجد فيها آخرون معاكسون لهذه الحالة. وهذا وضع طبيعي وواقعي.

   وتمتاز قرية الدرجاج عن سواها، أنها لم تذهب إلى الفرز الاجتماعي الحاد، فيما يخص مشاركة شبابها في الحركة السياسية، وخاصة في فترة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهذه ميزة جيدة، إذ نجد أن جميع شبابها – ذكورا واناثا ومن مختلف الفئات الاجتماعية – قد انخرطوا في تنظيم الجبهة القومية. وبالطبع فإن فقيدنا(أحمد الكازمي) لم يشذ عن هذه القاعدة، فكان واحدا من أولئك الذين انظموا إلى هذا التنظيم السياسي والعسكري في فترة ستينيات القرن الماضي.

والعامل الثالث والأخير، هو الاستعداد الفطري والذاتي عند فقيدنا العزيز الدكتور أحمد حسين الكازمي. وهو العامل الأهم والمحدد من بين هذه العوامل الثلاثة مجتمعة، ذلك أنه لا العامل الاول – وهو الموضوعي، ولا العامل الثاني وهو – الخاص بالبيئة التي ينتمي اليها(أحمد الكازمي)، قادران على دفعه إلى العمل السياسي، بدون توافر الاستعداد الذاتي الداخلي.

معرفتي بالفقيد الدكتور احمد محمد حسين حيدرة الحيدري المشهور بـ(أحمد الكازمي)

أتت معرفتي بالفقيد الكازمي من ثلاث طرق، وهي:

الأولى: من المعلوم بأن قرية الدرجاج، وهي الموطن الخاص بقبيلة آل حيدره منصور، أو آل الحيدري، تتكون من ثلاثة بيوت رئيسية(البيت هو الأسرة الكبيرة، أما الأسرة فهي التي تعود إلى الأب الكبير فيها). وهذه الثلاثة البيوت هي: آل تيسير، وآل ناجي، وآل العوسجي.

   أما المسألة الاخرى، فهي أن العلاقات الاجتماعية والأسرية – أي رابطة الدم – ظلتْ محافظة على ذاتها، إذ بقيت علاقات الزواج محصورة فيما بين أسر وعائلات آل حيدرة منصور، بحيث لا يسمح زواج نساءهم خارج أبناءها. وقد ظلت هذه العادة حتى فترة قريبة جدا، وكنت واحدا ممن لا ينتسب إلى قرية الدرجاج، إلا أنني تزوجت من آل حيدره منصور في عام 1977م. ولذا، فإن آل حيدره منصور هم أخوال ولدي أوسان. ومن الناحية الأخرى، فإن الفقيد(أحمد الكازمي) يعتبر صهرا لي، بحكم العلاقة الأسرية بين الفقيد ووالدة أوسان. ومن هنا، فإن الطريقه الاولى التي تعرفت من خلالها على الفقيد أحمد الكازمي، هي علاقة المصاهرة.

الثانية: من المعلوم أن الفقيد (أحمد الكازمي)، يعتبر من الصف القيادي الثاني لتنظيم الجبهة القومية. ومثل كثيرين، فقد وصل اسم الفقيد إلى اسماعنا  منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي. ومثل غالبية شباب الدرجاج – بل وشباب المناطق الريفية – فقد أنتقل أحمد الكازمي للعمل والسكن في عدن. والحقيقة، فإنني لا أتذكر تفاصيل ما كان يقال عن الرجل من معلومات،  وأخص بالذكر تلك الفترة المشار إليها آنفاً. إلا إنها في واقع الأمر، لم تكن سلبية. وهو بعكس ما كنا نسمعها عن سلوكيات آخرين من الصف القيادي ذاته، والتي كانت تتسم سلوكياتهم بالنزق والتطرف.

   وفي فترة لاحقة، أي بعد أن صارت علاقتي وثيقه بالدرجاج وأهله، بسبب علاقة المصاهرة، فقد  صارت معلوماتي عن الفقيد الكازمي أفضل وأوفر. والأهم من ذلك كله، أنها كانت في العموم تعكس الجانب المضيء عند الرجل.

الثالث: أما الطريق الثالث، الذي من خلاله تعرفت على الفقيد(أحمد الكازمي)، فهي اللقاءات المباشرة: الثنائية أو الجماعية. ومن المؤكد بأنني غير قادر على تحديد اللقاء الأول، الذي جمعني بالفقيد (الكازمي)، ولكن سأتناول لقاءين؛ أحدهما ثنائي، والآخر جماعي.

   أما اللقاء الثنائي، فقد كان في العاصمة البلغارية – صوفيا – حيث صادف أنْ كنَّا الاثنين ندرس هناك للحصول على شهادة الدكتوراه. فكانت الفلسفة بالنسبة للفقيد الكازمي، وكان الاقتصاد بالنسبة لي. وكان ذلك اللقاء في أحد مطاعم المدينة الجامعية في صوفيا. وكان اللقاء مصادفة، إذ وجدت الفقيد (الكازمي) هناك، فاتجهتُ إليه وسلمتُ عليه. وكان أمامه صينية مرق يرتشف منها. ودار حديثٌ طويلٌ ومتشعبٌ بيننا، فيما يخص الدراسة، والسياسة، والحالة الصحية، وهي الأهم هنا، وفي ذلك الحديث.

   وفي الحقيقة، فإنني لا أتذكر كيف قادنا الحديث، بحيث شرع الفقيد يشرح لي عن مهاجمة مرض (النقرس) له. ثم لفت نظري إلى وجود ورم في الجانب الأعلى من قدميه.

   ومرض “النقرس”، الذي يطلق عليه أيضاً “مرض الملوك”، ويحدث نتيجة زيادة نسبة أملاح حمض البوليك في الدم، مما يؤدي إلى ترسبُّها في الأغشية الداخلية للمفصل وعظام المفصل، حيث تحدث الآلام المميزة للمرض. وأكثرُ المفاصل عرضة لهذا المرض، هو المفصل الذي يصل أصبع الإبهام بالقدم. مع أن مرض النقرس، يمكن أن يصيب أي مفصل بالجسم، بما فيها مفاصل العمود الفقري نفسه. ويبدو أن الحالة المرضية، قد تطورت عند الفقيد الكازمي إلى هذا المستوى. وهو ما تأكد من طول فترة مرضه، وتعرضه للجلطات الدموية المتتابعة.

   ويزيد من ارتفاع حمض البوليك في الدم العديد من العوامل مثل: الإكثار من تناول البروتينات الحيوانية(اللحوم ومشتقاتها)، والسمنة، وارتفاع مستوى الكولسترول في الدم، وقصور الغدة الدرقية، وضيق الشرايين، والأمراض الوراثية، وغيرها.

    وبالعودة إلى حديثنا المشار إليه آنفاً، فقد لاحظت مستوى الخوف الظاهر على ملامح الفقيد(الكازمي). ويبدو أن ذلك عائدٌ إلى إدراكه لخطورة مرض النقرس.

   ومن المؤكد بأن لقاءاتنا قد تكررت في صوفيا، وكان ذلك بفضل الأخ علي محمد حسين الكازمي – الأخ الشقيق للدكتور أحمد الكازمي، الذي كان طالبا جامعيا يدرس في جامعة صوفيا، والذي كانت علاقتي به ممتازة، والذي كان ومازال يحبذ أن يناديني بـ “الصهير” بلهجة الدرجاج، وهي تحوير للصهر أو العديل.

   أما اللقاء الآخر – وهو اللقاء الجماعي – فقد كان بعد انتهاء حرب صيف 1994م مباشرة. وكان الهدف من ذلك اللقاء، هو تأسيس فرع لمنظمة حقوق الإنسان في محافظة أبين. وكان اللقاء في مكان ما لا أتذكره في منطقة خور مكسر، وأعتقد أنه كان مقر المنظمة المذكورة.

   ومن أبين كان يرافقني الصديق العزيز، الفقيد صالح مفتاح عبد الرب(الله يرحمه)، والدكتور عبد الله عوبل منذوق، وآخرين لا أتذكرهم الآن.

   أما من جانب(الفقيد”الكازمي)، فقد كان بمعيته الفقيد سالم عمر حسين (الله يرحمه)، وكذلك الصديق العزيز حامد جامع، متعه الله بالصحة والعافية. وقد تناول الفقيد الكازمي في ذلك اللقاء، أهمية تشكيل منظمة تختص بالدفاع عن حقوق الإنسان، وخاصة في ظروف ما بعد تلك الحرب. وقد قدم لنا استمارات قمنا بتعبئتها. وقد أناط بنا مهمة تأسيس فرعاً لهذه المنظمة في محافظة أبين. ومع أهمية تلك الخطوة، إلا أنها لم تستكمل خاصة في المحافظات الجنوبية، ومنها محافظة أبين، ولا نعلم الأسباب.

   ومن خلال معرفتي بالفقيد الدكتور أحمد محمد حسين حيدره الحيدري (أحمد الكازمي)، وذلك عبر مختلف الوسائط – اللقاءات المباشرة، والنقاشات المتبادلة، أو حتى ما كان تصل إلينا من معلومات عن الرجل – فيمكننا إجمال الخصال أو السمات، التي كان يتمتع بها الفقيد على النحو التالي:  

أولاً: بالمقارنة مع الكثير من أقرانه وزملائه ورفاقه – من قيادات الصف الثاني في تنظيم الجبهة القومية – لم يكن الفقيد أحمد الكازمي، مثيرا للغبار في حياته السياسية أو العملية (الوظيفية). بمعنى أن الرجل كان يتمتع بطباع هادئة، وعلاقات جيدة مع الآخرين، حتى وإن كانوا في الجانب الآخر منه سياسيا.

ثانياً: وبالاستناد إلى لقاءاتي بالفقيد(أحمد الكازمي)، فقد تأكد لي مجموعة من الخصال الكامنة لديه، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

1. فقد كان يتمتع بثقافة سياسية ممتازة.

2. وكان يتمتع بالانفتاح على الآخرين، بغض النظر عن اختلافه معهم سياسيا، أو إيديولوجيا.

3. كان الفقيد (أحمد الكازمي) إنسانيا في علاقاته مع الآخرين، وعلى وجه الخصوص علاقاته مع أسرته وأقاربه، وهذا ما تأكد لي من علاقته بإخوته، وبالمقابل مبادلتهم له الاحترام والتقدير والمحبة.

ثالثاً: بالمقارنة مع الكثيرين من قياديي الصف الأول أو الثاني، كان الفقيد أحمد الكازمي نظيف اليد. بمعنى أن الرجل، لم يتحصل على أية عطايا أو مزايا، مما لدى السلطة أو الدولة طوال حياته السياسية، حتى غادرنا إلى رحاب الرحمن.

رابعاً: أما السمة أو الخاصية الأساسية والمميزة، التي لفتت انتباهي في الفقيد (أحمد الكازمي)، فهي شجاعته في التحرر من الماضي السياسي والفكري، وقدرته من الانعتاق من الكثير من الممارسات والأفكار السياسية، التي ما زالت مكبِّلة للكثيرين من السياسيين منذ عدة عقود، ابتداء من خمسينيات القرن الماضي.

   وقولنا بأن الدكتور أحمد الكازمي قد غادرنا قبل الأوان، فإن ذلك يحمل معنيين:

الأول: مرضه، فبالإشارة إلى أن الرجل قد سقط بين براثين المرض منذ العام 1997م، وذلك إثر إصابته بجلطة دماغية، واستمر طريح الفراش(مقعدا)، بل وفاقد القدرة على العطاء في أي مستوى من مستويات الحياة، حتى سلَّم روحه لباريها في 18 مارس من عام 2013م. ومن دون شك، فإن هذه الحالة الصعبة التي عاشاها الفقيد الكازمي – بغض النظر عن المرض الذي يعاني منه وأسبابه – إلا إن عدم الاهتمام الجاد من الدولة، كان له الأثر البالغ في تعقيد حالته الصحية، إلى الدرجة التي صارفيها ميئوسا من العلاج.

   كما أن نكران الرفاق والأصدقاء الزملاء، ونسيانهم له بعد أن غاب عن أنظارهم كان له أيضا أثر بالغ في نفسه، مع أن حالة النكران واللامبالاة عندنا جميعا تجاه بعضنا، صارت هي الظاهرة البارزة، خاصة منذ ما بعد 1990م. وتفسير هذه الظاهرة يدركها كثيرون.

الثاني: وفاته، وتعني أن الدكتور أحمد محمد حسين حيدره الكازمي – وعند يوم وفاته – لم يكن بذلك الشخص صاحب العمر الكبير، بل يمكننا القول بأنه كان في السن المعطاة والحيوية عند كل إنسان.

رحمه الله الفقيد أحمد الكازمي، وغفر له ذنوبه، واسكنه جنته، إنه على كلِّ شيء قدير.