fbpx
عطر أكتوبر.. العبق الذي لن ينفد

كتب – د.عيدروس نصر النقيب.
كان ذلك صبيحة يومٍ خريفيٍ مميزٍ من أكتوبر العام ١٩٦٣م، عندما صحا الناس على دوي القصف وأصوات الانفجارات وتصاعد أعمدة الدخان التي كانت تُشاهَد من قمم جبال يافع والضالع وحالمين وودنة ووصلت الأصوات إلى لحج وأطراف عدن وبعض مناطق أبين وانتقل الصدى إلى أنحاء مختلفة من العالم.
كان الكثيرون يتساءلون ببراءة الأطفال : ماذا هناك؟ هل هي ألعاب نارية؟ هل هي مواجهات قبلية؟ ومن أطرافها؟ لكن الضجيج تصاعد ودخلت الطائرات على الخط، ولم تتوقف الأصوات لأيام وأسابيع ثم لسنوات بعد أن انتشرت واتسعت دائرتها لتشمل كل الجنوب، أما السياسيون أو حتى المواطنين العاديين من كبار السن فقد فطنوا إلى ما يدور وإن لم يستكشف الكثيرون ما وراء المشهد.
كنا في مدرسة العمري (وهي شكل هجين بين الكُتَّاب التقليدي والمدرسة الحديثة) ومنطقة العمري تقع اليوم في مديرية رُصُد بمحافظة أبين، حينما جاءنا الأستاذان العزيزان حسن محمد عبادي وأحمد قاسم راجح عليهما رحمة الله ورضوانه، بأول بيان للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، والذي تحدث عن قيام ثورة الرابع عشر من أكتوبر وأسباب اندلاعها  وأهدافها وعن حق شعب الجنوب العربي في الحرية والاستقلال، كما تحدث البيان عن سقوط شهداء نتيجة لاستخدام العدو المحتل لسلاح الطيران والمدفعية مشيراً إلى قصف القرى وتشريد الأهالي من بيوتهم وسقوط ضحايا من المدنيين بينهم نساء وأطفال وعجزة.
لم يكن بمقدورنا نحن الصغار استيعاب معاني كل المفردات التي تضمنها البيان، لكننا كنا قد تعلمنا من الأستاذين العزيزين أن أرضنا الجنوب تقع تحت الاحتلال الأجنبي وأنه قد آن الأوان لرحيل الاستعمار.
لم تمضِ أيام حتى تدفق النازحون من أبناء ردفان، وكان الصبية والفتيات يأتون إلى مدرستنا ويستطلعون بصمت ما نفعل وبدأنا في التعرف على أسماء بعضهم وإقامة العلاقات الشخصية مع بعضهم كـأطفال يتعرفون على أطفال آخرين وافدين من مناطق بعيدة هرباً من قصف وعدوان الاحتلال، لكن أساتذتنا الذين اتضح لا حقا أنهم من فدائيي الجبهة القومية، قالوا لنا إن هؤلاء الأطفال وأهلهم يدفعون اليوم ثمن الحرية التي يتطلع أليها كل أبناء شعب الجنوب.
لم تكن ثورة اكتوبر فقط عمليات فدائية ومواجهات مسلحة مع قوات الاحتلال، ولم تكن مجرد تفجيرات وقذائف وتصيد لقادة وجنود ومخبري وعملاء قوات الاحتلال البريطاني، بل كانت طموحاً مشروعاً نحو الحرية والعزة والكرامة واستعادة السيادة على الأرض، وحق الشعب الجنوبي في صناعة قراره المستقل، وهو ما تحقق بعد أربع سنوات من اندلاع أحداث ردفان في ذلك الصباح الخريفي المشهود.
لم يقتصر العطر الأكتوبري على إجبار المستعمر على الرحيل وتحقيق الاستقلال وإعلان دولة جنوبية موحدة ذات سيادة على أنقاض أكثر من 23 سلطنة وإمارة ومشيخة وعلى مساحة أكثر من 350 ألف كيلو متراً مربعاً، بل لقد وصل عبق عطر أوكتوبر المجيد  ألى أكواخ الفلاحين وخِيَم البدو الرحل وبيوت العمال وثكنات الجنود وعشش المهمشين فصار بإمكان الفلاح الذي كان أخيرا وعامل النظافة أن يتعالجا مجانا لأول مرة في حياتهما وأن يسافرا إلى الخارج للعلاج على حساب دولتهما الفتية، وصار بمقدور ابن الفلاح أن ينافس ابن الوزير للفوز بمنحة جامعية في الداخل أو الخارج، وبعد أن التخرج من الجامعة غدا ابن العامل طبيبا وابن المهمش طيارا وابن الصياد قائدا عسكريا وابن البدوي المترحل محاميا وقاضيا وابن راعي الإبل والأغنام قائدا سياسيا ومهندسا وأستاذا جامعياً، وأصبحت الفتاة قاضية ومحامية ووزيرة وقائدة حزبية وجماهيرية حينما كان الأشقاء يعتبرون ذلك جريمة يجب معاقبة مرتكبيها، واختفى التمييز في المواطنة بين فئات المجتمع بل لقد أصبح جريمة يعاقب عليها بموجب الدستور والقانون.
اليوم تعاودنا الذكرى السنوية لثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة وشعبنا يواجه الانتكاسة ويستحضر بطولات المناضلين وتضحيات الشهداء ويستذكر ذلك المجد الذي صنعه أبنائه الأبطال ويعيد صوغ تاريخه لتحقيق أحلام الملايين في التحرر والانعتاق من التبعية والهيمنة الجديدتين، واستعادة دولته المغدورة وتصويب مساراتها لتغدو حاضنةً لكل أبنائه ومنفتحةً على كل الرؤى والاتجاهات الفكرية والسياسية والحضارية، ومتعايشةً مع الجوار الإقليمي والدولي وعاملاً  من عوامل صناعة التعايش والسلام والاستقرار والتنمية والكرامة الإنسانية.
وكما هو متوقع سيحتفي الذين وأدوا الثورة الأكتوبرية بذكراها وستغنون بماَثرها وسيدبجون أبلغ الخطب وأكثر الألفاظ رشاقةً عن الثورة وشهدائها، لكنك لو سألتهم: أين هي الثورة وأين منجزاتها وماذا تبقى منها؟ لتسمرت ألسنتهم وخرسوا عن الكلام.
سيبقى أكتوبر المجيد خالداً في أنصع صفحات التاريخ مخلَّدا في ذاكرة الأجيال وسيظل عبق العطر الأكتوبري يفوح على مدار السنوات والعقود، وسيعود أكتوبر بوجه جديد وصيغة جديدة وقادة جدد وجيل جديد من المناضلين الأشداء أبناءً وأحفاداً أوفياء لميراث الآباء والأجداد، ولن ينضب عبق العطر الأكتوبري مهما تعاقبت الأعوام ومهما تقادمت الأزمنة.
لك المجد أيها الأكتوبر المجيد ولكم الخلود أيها الشهداء الأبرار.
13 أكتوبر 2021م.