fbpx
تقرير اندبندنت البريطانية – الشعر الحميني… الذاكرة الشفهية لمدينة يافع اليمنية
شارك الخبر

يافع نيوز – اندبندنت عربية – جمال شنيتر
يحتل الشعر الشعبي الذي يطلق عليه في كثير من مناطق اليمن “الحميني” مكانة كبيرة في الساحة الأدبية، ويفوق تأثيره الشعر الفصيح، ويحظى بانتشار واسع واهتمام إعلامي كبير في اليمن.
ويقول الكاتب والباحث في التراث الشعبي الدكتور علي صالح الخلاقي، عن المعيار اللغوي للشعر الحميني، إن جميع التعريفات تطلق على ذلك الشعر الذي ينظم باللهجات العامية المحلية لتمييزه عن الشعر الفصيح.
الذاكرة الجمعية
وتعد منطقة يافع جنوب اليمن من أكثر المناطق التي يزدهر فيها الشعر العامي الحميني، حتى أن الدكتور الخلاقي نفسه ألف كتاباً خاصاً عن هذا النوع من الشعر في منطقة يافع، معتبراً أن هذه الأشعار بفنونها المختلفة هي “تراث يفاخر به، بل تكاد تكون هي الذاكرة الجمعية التي أرخت لقرون خلت من حياة وتاريخ منطقة يافع (سِرو حِمير) غير المكتوب، وهي قرون كان الزمن فيها متثاقلاً في حركته ورتيباً في تطوره”.
وأضاف “كانت حياة الناس حينها مشحونة بالأحداث، لا سيما أن المنطقة عرفت خلال هذه الحقب الزمنية السلاح والقتال، أكثر من أي شيء آخر، وسال من دماء أبنائها في حروبهم القبلية بين بعضهم البعض أو مع غيرهم من القوى المحلية، أكثر من الحبر الذي سال من محابرهم، فظلت الأشعار الشعبية من أهم المصادر التاريخية التي يمكن الرجوع إليها في معرفة كثير من الأحداث غير المدونة واستخلاص الحقائق التي يرد عرضها في نصوص الشعراء الشعبيين”.
افتتان وانبهار
لهذا الشعر قاعدة عريضة، تتسع مع اتساع وسائل التوصيل والتلقي، وهو ما يفسر ذلك الاهتمام الكبير الذي يحظى به عبر القنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام، وإقامة المهرجانات السنوية التي تسعى من دون شك لإرضاء أذواق الجمهور الواسع من المتلقين.
ويلفت الخلاقي إلى أن مثل هذا الافتتان والانبهار السحري بالنماذج الرائعة والكثيرة من الشعر الشعبي الحميني ينتاب الكثيرين من المولعين بهذا اللون الأدبي واسع الانتشار، ويضيف “كم هو رائع أن يحظى الشعر الشعبي بالتدوين والتوثيق والنشر ليتاح للنقاد والمتخصصين التعرض له بالبحث والدراسة والتحليل، وما أكثر ما لدينا في الأدب الشعبي اليمني من شواهد تستدعي التقييم والتحليل والدراسة، بخاصة إذا ما عرفنا المكانة الكبيرة التي يحتلها هذا اللون الأدبي لدى غالبية الشعب ودوره المؤثر الذي لا يقل أهمية عن الشعر الفصيح، بل لا نبالغ إن قلنا إنه قد تفوق عليه انتشاراً وتأثيراً في حياة شعبنا في مختلف مراحل النضال ضد الحكم الإمامي في الشمال والاستعمار الأجنبي في الجنوب”.
الولع بالشعر
ويشرح الباحث ولع وارتباط أهل يافع بهذا الشعر، قائلاً “الأشعار الشعبية تحمل الروح الأصيلة للشعب، لأنها نابعة من صميم حياة الناس العادية ومن قلب الأحداث التي عاشها وعركها الشعراء ونقلوها بواقعية ومصداقية في أشعارهم بكل ما فيها من ترح أو فرح، فاليافعيون مثل غالبية اليمنيين، مولعين بالشعر نظماً وتذوقاً، ونجد الشعر حاضراً في كل شؤون حياتهم، فلهم أشعارهم وأهازيجهم وأغانيهم في كل أفراحهم وأتراحهم، في حلهم وترحالهم، أثناء عملهم وفي فترات راحتهم، في السلم أو الحرب”.
وأشار إلى أن، “حين كان الناس يعبرون عن حدث أو يفصحون عن رأي أو يحددون موقفاً ما، يقولون ذلك شعراً، يرحبون بالضيف شعراً، وحينما يفخرون بأنفسهم يقولون ذلك شعراً، ويهجون خصومهم كذلك، وحينما يرعون الأغنام يرددون الأشعار الغنائية التي تؤنسهم في وحدتهم في مراعيهم بفجاج وبطون الجبال والأودية، وعند حراثة الأرض أو أثناء البذر أو الحصاد يرددون الأشعار الفلكلورية، فتكون زاداً معنوياً يشحذ هممهم ويبعث فيهم الحماسة والنشاط المتجدد، وللكلمات الشعرية القول الفصل في التحريض أو في حل القضايا والمنازعات والفتن القبلية، وحتى في التسلية وقضاء أوقات الفراغ”.
مكانة مميزة
بشكل عام فإن للشعر الشعبي في اليمن عامة، وفي يافع خصوصاً مكانة مميزة، فهو يُعد من أهم ركائز الثقافة الشعبية، وكان وما يزال اللون الأدبي الأكثر انتشاراً بين الناس، وكانت مرتبة الشعراء كبيرة في العهد القبلي، فالشاعر هو لسان حال القبيلة والناطق الرسمي باسمها، ولكل قبيلة شعراؤها الذين تتباهى بهم، وكان الناس يفاضلون بين الشعراء وأيهما الأفضل والأقوى حجة والأكثر تأثيراً وإيلاماً للخصم.
وكانت القيم العليا في المجتمع القبلي هي الموجه للشعراء ويركزون عليها في شعرهم بما يخدم أهداف القبيلة وتطلعاتها، وكانت قضايا العُرف والعادات السائدة ألصق بأغراض الشعر القبلي، وما كان منها مخالفاً لذلك فهو منبوذ، وما كان منسجماً معها فهو المستحسن والمقبول، وكان التركيز في الشعر على المألوف في حياتهم وعاداتهم، كما كان للشعر الشعبي في المجتمع القبلي أهدافه الاجتماعية الواعية، وأسهم في تبادل الأفكار والآراء بصيغ فنية وبلاغية وبيان بديع في مختلف القضايا الحيوية أو الترفيهية أو الغزلية، وكانت الأشعار من زوامل وقصائد وأهازيج ومساجلات، تستخدم في أغراض مختلفة وتعبر عن أحاسيس مشتركة وأفكار ومواقف متشابهة.
شعر الزامل
يوضح الخلاقي أن شعر الزامل بالذات هو أيضاً من أنواع الشعر الشعبي الحميني، لكن لا تجد شعراء فرديين ينشدون لأنفسهم، بل تجد أن معظم الشعراء يتبادلون قضايا اجتماعية، فالشاعر يندمج مع المجتمع الذي يهيئ له الأجواء وبواعث الإبداع، فيأتي إبداعه متشبعاً بقيم وأفكار اجتماعية ويكون فاعلاً ومشحوناً بالدلالات والتحريض على الفعل، كما كان الشعراء يقومون بالوعظ والنصح والإرشاد والحث على مكارم الأخلاق وتربية النفوس بقيم الخير ونشر الفضائل، كما لا تخلو القصائد الشعبية من تجارب ذاتية تغدو بعد تعميمها ونشرها بين الناس تجارب إنسانية يتلقفها الناس لصلتها بهم وبما يدور في نفوسهم من أحاسيس وعواطف ولما تمثله من قيم نبيلة.
الهليلة والهاجس
وفقاً للباحث نفسه يمكن القول، إن معظم الشعراء الشعبيين حتى الأمس القريب، نظموا الشعر بالفطرة وامتلكوا الموهبة أو الملكة الشعرية المعروف لديهم بالهليلة أو الهاجس، وعرفوا الأوزان والقوافي والإيقاعات الشعرية بالتجربة المتناقلة، وطرقوا أبوابه وموضوعاته المتنوعة التي يتداخل فيها الخاص والعام، وعبروا بلغتهم العامية لغة الشعب عن أحاسيسه ومشاعره، واستنهضوا هممه وترجموا مواقفه في الاستحسان أو الرفض، فكانت أشعارهم قوة نابضة بالحياة، وسجلاً حافلاً لحياة المجتمع بتحولاته وأحداثه المختلفة التي انعكست في أشعارهم، ففي تلك الأشعار يتردد صدى الأحداث المحلية والوطنية والقومية أكثر مما في قصائد الشعر الفصيح، لأن الشعراء الشعبيين يؤرخون للمزاج الشعبي ويتفاعلون معه أولاً بأول، ولا يدعون مثل تلك الأحداث تمر من دون أن يقولوا كلمتهم فيها.
ويصف الخلاقي بعض الأشعار بأنها استجابة سطحية للأحداث العابرة، لكن الشواهد الشعرية الكثيرة من القصائد الشعبية الحمينية الرائعة التي تقدم “تظل متوهجة ومتألقة بمرور الزمن، وحين تقرأ تلك الأشعار اليوم رغم انقضاء المناسبة التي قيلت فيها، تجد أنها تهز وتحرك الوجدان وكأنك تعيش الأحداث”، وهنا تكمن قوة هذه الأشعار وجاذبيتها وسحرها، ومنها نتعرف على أحداث تاريخية أرَّخ لها الشعراء الشعبيون سواء على المستوى المحلي الضيق أو الوطني والقومي وحتى الإنساني بشكل عام، ونجد فيها معلومات عن أحوال الناس الاجتماعية وحياتهم الاقتصادية والمعيشية وعاداتهم وتقاليدهم وعلاقتهم بجيرانهم وكل دقائق حياتهم.
تجسيد فني للحياة
ويخلص في حديثه عن الشعر الحميني في مناطق يافع إلى القول “إجمالاً فإن هذه الأشعار تمثل في مجملها، تجسيداً فنياً للحياة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع القبلي اليافعي، ولا يمكن الحديث عنها بمعزل عن سياقها التاريخي أو الاجتماعي، لأن الشعر ظاهرة اجتماعية وهو عميق الصلة بحياة المجتمع وصورة ناصعة لها بكل أفراحها وأتراحها، وما يميز هذه الأشعار أنها مليئة بدرجات متفاوتة بالصور الفنية والبلاغية، بما فيها من بديع وبيان ورموز موحية وموسيقى الألفاظ، بعيداً عن التكلف أو الالتفات إلى الصنعة الفنية أو الزخرفة اللفظية”.
أخبار ذات صله