fbpx
السودان يحقق مصالحه الاستراتيجية بمصر أو دونها
شارك الخبر

 

يافع نيوز – العرب

تحاول إثيوبيا من حين إلى آخر تصوير كل موقف متشدد يتخذه السودان في ملف سد النهضة أو الأزمة الحدودية بينهما على أنه يدور في فلك حسابات مصر ولا علاقة له بمصالحه الحيوية، وعزفت على هذه النغمة السياسية أكثر من مرة ولم تؤثر في موقف الخرطوم، وربما على العكس، بدأت تتبنى تصورات أكثر تشددا من القاهرة.

 

كان البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية السودانية الجمعة بشأن الاتفاقيات التاريخية التي تريد أديس أبابا إعادة النظر فيها، لافتا للانتباه، وهذه المرة الأولى التي يلمّح فيها السودان لإمكانية المطالبة بحقه في إقليم بني شنقول المقام عليه سد النهضة، ومفاده أنه إذا كانت إثيوبيا تريد عدم الالتزام بحصص المياه لأنها وُقّعت خلال الحقبة الاستعمارية فعليها أن تعيد هذا الإقليم للسودان أيضا الذي جرى ضمه خلالها.

 

وتعبّر هذه الإشارة عن ضيق السودان من مناورات إثيوبيا وألاعيبها، وتؤكد أن الخرطوم تبحث عن مصالحها، بصرف النظر عن اتساقها مع مصالح مصر أم لا، والمدقق لتفاصيل التصورات العامة التي تتبناها الخرطوم حيال أديس أبابا يجدها على درجة من التباين مع القاهرة، وأن هناك مساحة للخلاف في آليات التعامل مع إثيوبيا.

 

مبررات وتفسيرات

كان الخلاف مفهوما في عهد الرئيس السابق عمر البشير الذي روّج نظامه بأن سد النهضة يحمل الخير الكثير للسودان، وبدا منسجما تماما مع خطاب إثيوبيا، وعندما رحل نظامه بدأ التغير يظهر تدريجيا ويقترب موقف الخرطوم من القاهرة، حيث تحلّلت الأولى من الحسابات الضيقة التي تبناها نظام البشير تجاه المكايدة مع مصر.

 

لم يكن الاقتراب بين الجانبين وليد التطورات الإيجابية التي حصلت في العديد من المجالات بينهما أو وليد “تبعية” وليدة، بل لأن السودان اكتشف حجم المغالطات التي سادت خلال عهد البشير، إذ أخذت السلطة الانتقالية الحالية تعيد التموضع بعد دراستها للمزايا والعيوب التي يحملها السد، ما جعلها تبدو منسجمة مع مصر في هذا الملف وتزيد التنسيق والتعاون بما يحقق للطرفين مصالحهما.

 

ظهرت ملامح خلاف في محطات عدة بين مصر والسودان، أبرزها توقيع القاهرة على وثيقة واشنطن في فبراير من العام الماضي وعدم توقيع الخرطوم عليها، والتي أعدتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لحل أزمة سد النهضة بين الدول الثلاث، وفسرت ممانعتها للتوقيع على أنها انحياز إلى جانب إثيوبيا على حساب مصر.

 

السودان عبّر عن ضيقه من مناورات إثيوبيا مؤكدا بحثه عن مصالحه، بصرف النظر هل تتسق مع مصالح مصر أم لا تتسق

 

في الوقت الذي لوّحت فيه مصر باستخدام الحل العسكري وأكدت أن كل الخيارات مفتوحة مع إثيوبيا تمسك السودان بالحل السياسي ولم يتبن أو يدعم من قريب أو بعيد مقاربة خشنة لحل أزمة سد النهضة، ويؤكد على أهمية التسوية الرضائية بين الدول الثلاث، وظهرت خشونة الخرطوم في مسألة السيطرة على منطقة الفشقة الحدودية التي استردّتها القوات المسلحة لأنها أرض سودانية فرضت إثيوبيا هيمنتها عليها.

 

كما أن اقتراح السودان بتشكيل لجنة وساطة رباعية تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدةإلى بجانب الاتحاد الأفريقي لم تكن القاهرة راغبة فيه في البداية ثم أيدته لاحقا، وتكرر الموقف بصورة عكسية عندما لجأت القاهرة إلى مجلس الأمن العام الماضي لتوضيح أزمة السد والتعنت الإثيوبي، فبعد أن تحفظت الخرطوم عادت وقدمت مذكرة تفصيلية إلى المجلس وزادت على مصر بأن لوّحت بمقاضاة أديس أبابا أمام المحاكم الدولية في أزمتي سد النهضة والحدود.

 

يشير هذا التباين إلى أن الخرطوم لديها رؤية للتعامل مع إثيوبيا بعيدة عن القاهرة، والاتفاق في المواقف وليد اتفاق في المصالح قبل كلّ شيء، لكن أديس أبابا تحاول الاستثمار في عقدة تاريخية بين البلدين لإحداث شرخ في التوافق بينهما، عقدة راسخة في وجدان الكثير من السودانيين بأن مصر تريد الهيمنة عليهم، ومستمدة من فترة الحكم الثنائي البريطاني – المصري للسودان.

 

استفزاز السلطة والمواطنين

الخرطوم تبحث عن مصالحها في سد النهضة

لم يتحدث من نكأوا هذا الجرح عن أن مصر نفسها كانت محتلة من قبل بريطانيا في ذلك الوقت، وعندما استقلت عنها استقل السودان أيضا، وبدأ الجرح يفتح مع كل أزمة تنشب بين القاهرة والخرطوم، وكان أحد الأسباب الرئيسية التي عطلت التعاون بينهما خلال العقود الماضية، على الرغم من القواسم المشتركة، ولعبت عليها الحركة الإسلامية التي أحكمت قبضتها على السلطة في الخرطوم طوال ثلاثين عاما.

 

عادت هذه العقدة تطل برأسها عندما التقت مصالح البلدين في الوقت الراهن وتوظيفها في استفزاز السلطة والمواطنين، والربط بين أيّ تقدم بين البلدين على أنه يعيد إنتاج مرحلة الهيمنة بصورة جديدة، وهو ما حاولت استثماره قوى إسلامية (مصرية وسودانية) لإثارة حساسيات تعلم أنها كفيلة بتخريب العلاقات بينهما والتي يؤدي تطوّرها إلى انعكاسات على مصالح هذه القوى.

 

دخلت قوى سودانية معارضة عن قصد أو دونه على هذا الخط من زاوية العمق الأفريقي للسودان والمصالح الكبيرة الكامنة فيه، الأمر الذي استفادت منه إثيوبيا، لكن الخطاب السياسي الذي تستخدمه بحق السودان في ملف الأزمة الحدودية يقلل من مصداقيتها، كما أن من ينساقون وراء تفضيل الاقتراب من إثيوبيا وليس مصر هدفهم هدم العلاقات مع القاهرة ومنع توسيعها في مجالات مختلفة.

 

تدرك القاهرة هذه النوعية من الحسابات، لذلك غيرت رؤيتها في التعامل مع السودان من أزمة أمنية إلى شراكة استراتيجية على أساس المصالح التي تحققها للبلدين، ولم تتدخل في شؤونه أو توجهاته، وشيدت منظومة من التعاون في مجالات الكهرباء والنقل والصحة، ظهرت تجلياتها في الشارع، وعكستها الزيارات المتبادلة بين الجانبين.

 

بيان وزارة الخارجية السودانية عبّر عن ضيق الخرطوم من مناورات إثيوبيا مؤكدة أنها تبحث عن مصالحها بصرف النظر عن اتساقها مع مصالح مصر أم لا

 

تتعزز فكرة أن السودان يحقق مصالحه بمصر أو دونها من أن السلطة الحاكمة، بشقيها العسكري والمدني، تدعم هذا التقارب ما يدحض تقديرات تذهب إلى أن المكون العسكري وحده يؤيد توثيق العلاقات مع مصر، اتساقا مع الكيمياء التي تربط الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، المنحدر من خلفية عسكرية، وبين الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، وينتمي إلى مؤسسة موازية لها في السودان.

 

يعلم البرهان أن هناك شركاء مدنيين له في الحكم لا يستطيع تجاوزهم، منهم قوى كثيرة حية يمكنها أن تمثل ضغطا على أيّ مسؤول ينحاز لتطوير العلاقات مع مصر بلا مبررات مقنعة تدعم مصالح السودان المتشعبة، وأيّ خلل فيها يعرّض السلطة لمشكلات كبيرة، وبدلا من أن يصبح تطوير العلاقات مرتكزا لتعظيم المصالح يتحول إلى مرتكز سلبي للخصم منها.

 

يتجاوز التوافق المصري – السوداني إطاره الإثيوبي ليصل إلى المستوى الإقليمي العام، فهناك تهديدات مشتركة وتطلعات يمكن أن تتحقق بسهولة إذا جرى التنسيق بين البلدين، بمعنى أن إثيوبيا ليست هدفا في حد ذاتها، هي اختبار عملي لمدى صمود التطور في العلاقات، وحل الأزمة معها بطريقة متناغمة يحقق أهداف القاهرة والخرطوم ويؤدي إلى زيادة الطموحات وينقلها إلى قضايا أخرى تمثل حيوية لهما.

 

لا يأتي التناغم بين مصر والسودان على هوى قوى إقليمية ودولية ما يجعل إثيوبيا تلقى دعما في صده ومقاومته لإرهاق البلدين ومحاولة فسخ عراه باستقطاب السودان إلى جانب جهات تتبنى مقاربات ضد مصر، أو إحداث فتنة داخلية في السودان بالعزف على وتر التناقضات الكامنة بين الجسمين العسكري والمدني، لكن الخرطوم ستدافع عن علاقتها مع القاهرة أو غيرها وفقا لمصالحها كمحدد حاسم لتحديد البوصلة.

أخبار ذات صله