fbpx
وداعاً مؤرخ ردفان وحكيمها وداعاً العم سالم
شارك الخبر

بقلم/ الدكتور عبدالعزيز راجح حسن.

فُجعنا كما فُجِع كلّ الناس في ردفان وخارجها بوفاة أحد هامات ردفان الشامخة؛ إنّهُ المؤرخ والأديب، والحكيم، الشيخ سالم راشد الذيباني، إذ تُوفِيَ – رحمه اللَّه –  عن عمرٍ ناهز الـ (89) عاماً .

 وإنني في هذه العجالة سأقف على مقتطفات بسيطة من سيرة حياة الفقيد الشيخ سالم راشد ذيبان الذيباني، الذي  لاشكَّ أنَّ من يقف على مثل سيرة حياة العم سالم سيدرك كم أَنَّهُ يقف على سيرة حياة رجلٍ ذي شخصيةٍ استثنائيةٍ؛ لأنّه ذلك العلَم الذي تعددت مواهبه، فكان ينبوعاً للعطاء، ومصدراً للحكمة، ومشعلاً للتنوير والثقافة .

  لقد كان – رحمه الله-  ملهماً للأجيال، وقدوةً حسنةً فريدة في التواضع والمصداقية وسمو النفس، وسائر الأخلاق الجليلة الفاضلة، ولم أكن مبالغاً إنْ قلت إنّ نور التقوى والورع والزهد يشع من وجه هذا الرجل .

 لقد عُرِف العمُّ سالم شغوفاً في حبّ العلم والمعرفة منذ نعومة أظفاره، لذا فلا غرابة أن يجيد القراءة والكتابة في طفولته خلال فترة وجيزة، لم تتجاوز الستين يوماً على يد فقيه المعلامة،  على الرغم من تخلُّف وسائل التعليم حينها، إذ كانت تعتمد في الغالب على التهجّي والتلقين ليس إلّا، ومع ذلك استطاع هذا الفتى أن ينهي مرحلة التعليم الوحيدة ( المعلامة) في وقت قياسي، فأصبح فيما بعد صاحب الشهرة والحظوة في قراءة الوثائق والرسائل والمنشورات في منطقته والمناطق المجاورة لها، وقد روى لنا الآباء كيف كانوا يذهبون إلى العم سالم فور عثورهم على المنشورات التي كانت تلقيها الطائرات البريطانية على مناطقهم؛ لكي يعرفون ما بها من تحذيرات وتهديدات من قبل السلطات البريطانية لسكان هذه المناطق. كان ذلك بداية المجد والشرف لهذا الفتى اليافع، وأيّ مجدٍ هو أعظم من أن يتوافد الناس جماعات وفرادى ليقفوا مشدوهين أمام شخصٍ يصغرهم سناً ويفوقهم مكانةً وعلماً، ينير لهم ما عتم من دروبهم، ويبصّرهم إلى ما أُشكل من أمورهم!!

حينما تعرف أنّ العم سالم أدّى فريضة الحج وقد قطع المسافة من بلده إلى الأراضي المقدسة مشياً على الأقدام وعمره لا يتجاوز الثلاثة والعشرين عاماً، سيتأكد لك بأنك تقف على تاريخ رجل ذي شخصية استثنائية حقاً، فالغالب على مرّ العصور وتعاقب الأزمان  والمراحل بأن الشباب في بداية حياتهم- إلّا ما ندر منهم- لايبالون في أمور كهذه، حيث إنّ  السائد في هذه المناطق حينها أنّ الشخص لا يذهب لأداء فريضة الحج قبل أن يبلغ الخمسين أو الستين من عمره، بيدَ أنّ العم سالم كسر هذه القاعدة، حينما ذهب لأداء  فريضة الحج في بداية مشوار حياته، وفي ظروف بالغة الصعوبة؛ كلّ ذلك يدل دلالة قاطعة على مدى التقوى والزهد والصلاح الذي كان يتمتع به هذا الرجل منذُ مستهل شبابه، وعلى ذلك عاش حتى استوفى الله أجله، ولقد كانت علامات الوقار والتقوى بادية على محياه، وهو – باذن الله تعالى – ممّن وصفهم الله جلَّ وعلا في محكم التنزيل بقوله: (( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل … وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً )) .

امتزجت صفات التدين والتقوى بالصفات التي كان يتمتع بها العم سالم منذ طفولته، من ذكاءٍ فطريٍّ وسرعة بديهةٍ، فضلاً عما اتّسمَ به من قوّة الشخصية، والقدرة على إقناع الآخرين، وبفضل ذلك كله كان من الطبيعي والمنطفي أن يتم اختياره شيخاً لقبيلة الجميعي وسناناً (نائباً للشيخ) لقبيلة الحجيلي، في حين لم يكن عمره يتحاوز أربعة وعشرين عاماً .

لقد ساهم العم سالم من موقعه مساهمة فعّالة في خدمة مجتمعه، وهو يبذل قصارى جهده، وعصارة ذهنه،  في حلّ العديد من القضايا والنزاعات القبلية المعقدة التي كادت أن تنشأ بسببها حروب قبليّة، وفتن دائمة تزيد من تمزُّق المجتمع القبلي الممزق أصلاً، وتضاعف من معاناة هذا المجتمع الذي بلغت فيه المعاناة حداً لا يطاق .

مع بزوغ فجر ثورة الرابع عشر من أكتوبر ضد الاستعمار البريطاني من قمم جبال ردفان الأبية كان للعم سالم أدوارٌ نضالية ضد هذا الاستعمار الغاشم، تمثّلت في التخطيط والتوجيه لمسرح العمليات الميدانية، والانخراط في العمل السياسي الذي من شأنه التعجيل برحيل هذا الاستعمار، وقد روى لي العم سالم – رحمه الله – العديد من هذه الموافق، أذكر منها أن العم سالم عندما علم بقدوم بعثة الأمم المتحدة المرتبطة بلجنة تصفية الاستعمار المشكلة بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى ردفان للإطلاع على الأوضاع الإنسانية في المناطق المشتعلة ضد الاستعمار،  قام باصطحاب عدد من أطفال قريته، ممّن يعانون من هزال ظاهر على أجسادهم، نتيجة الفقر والجوع والمرض، وقام بتقديمهم لهذه البعثة للتدليل على سوء الأحوال الإنسانية في هذه المناطق، والناتجة عن الاحتلال البريطاني، فقامت هذه البعثة بتوثيق ما أدلى به الشيخ سالم راشد الذيباني أمامها مع توثيق مصور لتلك الأجساد الهزيلة لأولئك الأطفال، فكان ذلك أبلغ رسالة قدّمها الشيخ سالم راشد الذيباني لهذه البعثة الأممية والذي لاشك أنّ تقاريرها المرفوعة للأمم المتحدة كان لها دورٌ كبيرٌ في التعجيل برحيل الاستعمار البريطاني من بلادنا بشكل نهائي يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م .

بعد نيل الاستقلال المجيد ساهم الشيخ سالم راشد الذيباني في إرساء مداميك الدولة الوطنية المتحررة حديثاً، والعمل من أجل استقرار هذه الدولة،  وذلك من خلال مجابهة التركة التي خلفها الاستعمار البريطاني المتمثلة في النزاعات القبلية والثأر وغير ذلك، حيث عُين مسؤولاً للجان الإصلاح الشعبي في مديرية ردفان، فضلاً عن تعيينه عضواً في هيئة استئناف المديرية ( وهذه الهيئة هي هيئة قضائيّة، تعادل هيئة محكمة الاستئناف حالياً)، ثم عُيِّنَ فيما بعد مديراً للبلدية بمديرية ردفان حتى عام ١٩٧٠م، ثم مشرفاً هندسياً لمشاريع البناء في المديرية حتى عام ١٩٨٠م .

كان من الواضح أن الشيخ سالم راشد الذيباني لم ينل حقه في التعيين في الدولة الوليدة التي كانت أحوج ما تكون في تلك المرحلة إلى العقول النظيفة، والآراء الهادفة البعيدة عن أفكار الغلو والتشدد والمزايدة، لكن ما حصل في تلك المرحلة كان تغييباً واستبعاداً غير مبرَّرٍينَ لأصحاب تلك العقول ذي الأفكار النيّرة، ومنهم الشيخ سالم راشد الذيباني .

وفي هذا المقام أقول مرّةً أخرى: إِنَّنِي لم  أكن مبالغاً إنْ قلت إنَّ ما يمتلكة الشيخ سالم من قدرات، ومؤهلات ثقافية، ومعرفية، وإمكانات  وأفكار ورؤى للبناء، أكثر بكثير ممّا كان يمتلكه الكثيرون ممّن تبوّأوا مناصبَ تنفيذيةً وسياسيةً في الدولة .

في نهاية حقبة الثمانينات من القرن الماضي اعتكف العمّ سالم لكتابة مؤلَّفَه الأوّل الذي حمل عنوان (من حقيبة الدهر للإنسان تحكي عن أخبار ردفان)، المولَّف الذي كان أول توثيق لذاكرة ردفان من الناحية التاريخية، إذ يُعَدُّ هذا الكتاب بمثابة دراسة شملت قبائل ردفان وتكويناتها وتقسيماتها بشيء من التفصيل، كما احتوى الكتاب على دراسة للموروث العُرفي والتُّراث الشعبي في ردفان، حيث تناول أحكام العرف في الجنايات والجرائم والاعتداءات على الأشخاص والأملاك، وأحكام العرف في الزواج والطلاق ومترتباتهما، كما شمل على أحكام علاقات الأرض والزراعة وأفراح الخيور، كما احتوى الكتاب أيضاً على دراسة عسكرية من خلال تناوله للحروب القبلية وأسبابها وأساليبها، والحملات العسكرية والغزوات الخارجية على مناطق ردفان، بالإضافة إلى احتواء الكتاب على نماذج من الشعر الشعبي، والعديد من الأمثال الشعبية والحكم السائدة في ردفان .

يُعدّ هذا الكتاب خطوة جريئة لبداية توثيق تاريخ ردفان، كما يعد مرجعاً أساسياً لكل الدراسات والبحوث التاريخية التي ستتناول تاريخ ردفان مستقبلاً، ولما لهذا الكتاب من أهميّة فقد كتب عنه بعد نشره شاعر اليمن الكبير الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح مقالاً في إحدى الصحف اليمنية، كما أشاد بهذا الكتاب المؤرخ المرحوم الأستاذ الدكتور صالح علي باصره رئيس جامعة عدن الأسبق، وتم منح المؤلف الشيخ سالم راشد الذيباني شهادة عن هذا العمل، كما عُدَّ هذا الكتاب مرجعاً أساسياً في التاريخ وضمّه إلى مكتبه جامعه عدن، كما مُنح المؤلف عن هذا العمل أيضاً شهادة من الرئيس الأسبق علي ناصر محمد رئيس المركز العربي للدراسات الاستراتيجية .

وعلى الرغم من الظروف التي كان يمر بها العم سالم، وعلى الرغم من تقدمه في العمر، إلّا أنه كعادته لم يستسلم لكل ذلك، فقام بتأليف كتابه الثاني الذي حمل عنوان ( سنابل من ثمار الحكمة) حيث قامت وزارة الثقافة بإصدار هذا الكتاب عام ٢٠١٣م .

احتوى هذا الكتاب على أربعة فصول، تناول المؤلف في الفصل الأوّل: (مسالك العرف والمقارنة مع القانون)، فيما تناول في الفصل الثاني: (أحكام التعامل بالعملة الفضية)، أما الفصل الثالث فقد جاء بعنوان: (سوالف أحكام العرف)، وجاء الفصل الرابع بعنوان:  (الحِكم المبتكرة والأمثال)، حيث ضمّ هذا الفصل العديد من الحكم والأمثال المبتكرة من قبل المؤلف. ويعد هذا الكتاب مرجعاً مهمّاً للباحثين في تاريخ العرف القبلي .

كان الشيخ سالم راشد الذيباني مرجعاً في العرف، ومرجعاً في الحكم بين الناس، حيث كان يرجع إليه كلّ المشائخ والعقال والأعيان من كافة مناطق ردفان وخارجها، لمعرفة الأحكام في كثير من القضايا، كما كان كثيرٌ من الناس يأتون إليه لاستشارته في العديد من القضايا والنزاعات، كونه محلّ ثقةٍ للجميع .

وعلى الرغم من أن فارق السن بيني وبين العم سالم كبير، إلّا أنني قد عاشرته فترة من الزمن، إذ جمعتني به علاقة شخصية وطيدة، كما جمعتني به مواقف كثيرة في أثناء حل كثير من القضايا بين الناس، كان آخرها قضية كبيرة بين قبيلة الداعري وقبيلة اليوسفي على أرض في آخر حدود قبيلة الداعري في المنطقة المجاورة لمحافظة أبين .

ولا يخفى على القارئ الكريم بأنني كنت معجباً أشد الإعجاب بشخصية العم سالم – رحمه الله- منذ أن كنت طالباً في المرحلة الثانوية، حيث كنت أذهب مع والدي – رحمه الله – إلى بيت العم سالم في الحبيلين، حيث كان والدي يحرص على استشارته في كل القضايا التي تواجهه .

لقد كان لإعجابي بشخصية العم سالم ما يبرره، فهذا الرجل منذُ أن عرفته يمتاز بشكله الأنيق، وهندامه المرتب، وعلامات الوقار تعلو وجهه الوضاء، تراه مبتسماً باستمرار في السراء والضراء، تخجل من تواضعه، حيث لا يعرف الكبر والغرور طريقاً إلى نفسه، حين يتكلم العم سالم تنساب كلماته كأنها دررٌ تخرج من في هذا الرجل لتستقر في قلب وعقل المستمع، وخلاصة القول فقد أوتي العمّ سالم الحكمة (( ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أُوتيَ خيراً كثيراً)) .

رحم الله الشيخ سالم راشد الذيباني وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والشهداء والصديقين والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً.

 

أخبار ذات صله