fbpx
اليمن في أحضان الخارج.. ترويض الوعي لتقبل فكرة الهيمنة الخارجيه

 اليمن في أحضان الخارج ترويض الوعي لتقبل فكرة الهيمنة الخارجيه

امين اليافعي

يُقال إن الجغرافيا هي التي تصنع السياسة بالتفاعل مع التاريخ. ومفهوم الجغرافيا هنا لا يقتصر فقط على ما هو شائع من مفهوم والذي يحصرها في عامل ‘الموقع الجغرافي’ للبلد بالنسبة لمحيطه الإقليمي والدولي.

ومع أهمية عامل الموقع الجغرافي للبلد، وتأثيره في رسم خطوط السياسات والتوجهات العامة بالتفاعل (سلباً أو إيجاباً) مع محيطه الإقليمي، وبشكل أوسع، الدولي، إلا إن هذا المفهوم يشير فقط إلى تأثير العامل الخارجي للجغرافيا، بينما يتم إغفال ما هو أهم من ذلك، وهو تأثير الجغرافيا ـ باعتبارها فضاء معين يضم مجموعة من البشر ـ على وعي هؤلاء المجموعة بحيث تصبغه بخصوصيات ثقافية وأنماط فكرية وقيمية متفردة، أو حسبما يعرفها دارسو علم ‘الجغرافيا السياسية’ الطريقة التي تؤثر بها المساحة، والتضاريس والمناخ على أحوال الدول والناس ووعيهم السياسي.

ومن إشكاليات اقتصار مفهوم الجغرافيا، وفي حالة كاليمن، على ‘الموقع الاستراتيجي’ للبلد، أنه يفضي في مرات كثيرة إلى ترويض الوعي لتقبل فكرة الهيمنة الخارجية تحت مصوغات التسليم بـ’سياسة الأمر الواقع’ التي تقضي بأن أطماع القوى الكبرى في هذا الموقع لن تتوقف، وبالتالي فالخضوع لسيطرتها وتوجيهاتها أمر لا بأس به بغض النظر عن مدى انعكاسها السلبي على الوضع الداخلي في البلد وانزياحاته المختلفة باتجاه المستقبل.

ويبدو لي هنا، ونحن نرصد ليس فقط حالة التدخل السافر والفج في الشأن اليمني ولكن أيضاً تعامل النُخب والقوى والتيارات المختلفة مع مثل هذا التدخل، أن السنة التي سنّها سيف بن ذي يزن لم يُستطاع الفكاك منها. لقد تحولت كثيراً من القوى ذات النفوذ المضطرد، وفي مراحل مختلفة، إلى وكلاء لأطراف خارجية تقوم على تنفيذ مشاريعها بأقصى قدر من الدقة، مع غياب تام لمفهوم مثل السيادة الوطنية، وانقلاب كلي في مفهوم الوطنية. حيث أصبحت المعادلة التي تحكم مثل هذه المفهوم على النحو التالي: كلما زادت عمق العلاقة (العمالة) كلما زادت درجة الوطنية.

ومن عجيب الحال في هذه البلاد، أن الشخصيات الكبيرة في مراكز النفوذ تشير صراحة في مذكراتها الشخصية إلى المشاريع التي قامت بتنفيذها في السابق بطلب وتنسيق مع أطراف خارجية، والمبالغ التي تقاضتها لقاء هذا العمل، لعل أبرز الأمثلة وأخطرها ـ وهي كثيرة ـ إدراج نص يجرّم التعددية الحزبية في دستور الجمهورية العربية اليمنية (سابقاً) لعام 1970م إرضاء لنزوات وتوجسات إحدى دول الجوار التي تُصاب بالرعب والهوس من قيام أي شكل مدني في الدول المجاورة لها. ومع ذلك، تمر مثل هذه الاعترافات مرور الكرام دون أن تتعرض للنقد، أو حتى مجرد عتاب عابر. وحين يأتي الموت على مثل هذه الشخصيات تُقام لها الجنائز المهيبة، وتعلق صورها على لوحات (دعائية) مُبالغ في كِبرها بجميع الشوارع، وتكتب عليها العبارات الآسرة والمبالغة في التمجيد، حتى لكأن الأمهات قد عقِمن أن يلِدن أبطالاً قوميين من طينة هؤلاء.

ومن يعرف العاصمة اليمنية صنعاء عن قرب، ويعرف مداخلها ومخارجها، سيدرك إلى أي حدٍ هي مستفحلة هذه المشكلة. فلن يتحرج أحدٌ هناك بإخبارك أن فلان يتبع الدولة الفلانية، وعلان يتبع الدولة العلانية.. وهكذا، وكأن السياسة في هذا البلد تُدار بطريقة الوكالات التجارية.

على أننا هنا، وبحديثنا هذا، لا ندعو إلى معاداة أحد، فمصالح الدول، بكل تأكيد، متداخلة ومترابطة خصوصاً ونحن نعيش عصر العولمة الذي يسير بكل ثقة نحو إذابة الحدود والحواجز بين الدول وينشئ مفاهيمه وقيمه الخاصة به، وأساليبه الفريدة في التواصل والالتقاء. لكن، لا يعني هذا، أن لا يبقى حد أدنى من السيادة الوطنية التي تفرض قيام أسس للعلاقات المتبادلة بين الدول تبقى، في الحدود الضيقة، على الحد الأدنى من المصالح الوطنية المشتركة والمتوازنة.

الثورة بين خصوصية المكان وتدخلات الخارج:

تقوم الثورات والتغييرات الكبرى في أي مجتمع بناء على عوامل ذاتية ومعطيات ومتطلبات داخلية واحتياجات تفرضها نوعية المرحلة وحتمية التطور التاريخي للمجتمع ووعيٌ كافٍ بضرورة الحاجة إلى التغيير الكلي.

والثورة دائماً ما تُفتتح بسيادة شعورٍ عام كما يقول منظرو الثورات، وبانتشار تصورات جديدة في المجتمع، عن أن المؤسسات القائمة ما عاد في إمكانها مواجهة المشكلات والقضايا المتولدة عن البنى الأساسية.

ومن المسلم به هنا تأثر مثل هذا التغييرات بعوامل خارجية، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة نتيجة لانتقال الأفكار والثقافات والقيم، لكن هذا التأثير يظل تأثيراً طارئاً ودخيلاً ما لم تخضعه ثقافة المجال لخصوصياتها، وتعكسه ـ بطريقتها الخاصة ـ على قضاياها ومشكلاتها، فتتولد ـ عندئذ ـ عوامل وعناصر وأدوات ثورية خاصة بذاتية المجال المتفردة.

ولعل اختلاف السياقات التي ذهبت وتذهب بها ثورات الربيع العربي ما يؤكد هذا الزعم، على أن التأثير الذي ضغط على هذه الثورات فجعلها تتدحرج تباعاً وتتشابه في بعض من آليات الفعل الثوري لا ينفي ـ باعتقادي ـ خصوصية المجال، بقدر ما يُرجِع الأمر إلى التشابه في المسببات وطبيعة تشكلها التاريخي.

إن ما تفعله الثورة في استجابتها للمنطق الداخلي للبلد ولعوامله الذاتية والموضوعية في الحاجة إلى التغيير، وكذلك نوعية التغيير والكيفية التي ينبغي أن يتم بها، يأتي في تضاد تام مع ما تفعله التدخلات الخارجية التي تحاول أن تخضع عملية التغيير لمنطق وعوامل غير ذاتية ولا تلامس متطلبات الواقع وأحلامه وأماله.

ولعل العراق مثال بارز على خطورة وكارثية التدخل الخارجي في السعي لإحداث تغيير جذري في صلب النظام القائم ودون نضوج واكتمال عناصر التغيير المنبثقة من واقعه الذاتي. فالبلد لم يتحول إلى ‘جنة’ الديمقراطية ومضرب الأمثال في المدنية والتحضر بالمنطقة كما كان يبشر الأمريكيون، ويروجون له بكل ثقة واطمئنان… فبعد مضي سنوات عديدة، لم نر ديمقراطية، ولا مدنية، بل توزع دم البلد بين الطوائف والعشائر بعدما كدّنا أن نفقده تماماً لولا يد ما إلهية أسعفته.

ومع قيام الثورة في اليمن، استبشر الناس بأن عهد التبعية العمياء الذي كان مكون أساسي في نظام علي عبدالله صالح؛ لدرجة سماحه ـ مرات كثيرة ـ للولايات المتحدة بالقيام بضرب أهداف داخل الأراضي اليمنية سقط عنها عشرات القتلى المدنيين ومئات الجرحى، ثم الإدعاء وبشكلٍ علني وفاضح بأنه هو من يقوم بتنفيذها!.. استبشروا بأن هذا العهد في طريقه للزوال، فأحد أهم أهداف الثورة وشرط رئيسي من شروط نجاحها هو حماية السيادة الوطنية ضد الاختراق. لكنهم، وفي طرفة عين، وقبل حتى أن يلتقطوا أنفاسهم الثورية، وجدوا ثورتهم في ‘الرياض’، يداعبها الأمراء والسفراء، الأشقاء والأصدقاء، ويرسمون لها مستقبلاً بلا ملامح ، ثم يضعون عليها ما شاءوا من بهارات إقليمية ودولية، فيهرع الساسة اليمنيون (الوكلاء المحليون)، حكومة ومعارضة، للتوقيع على حصصهم المُوزعة بعناية.

واليوم، وبعد مرور أكثر من عام على الثورة، بات السفير الأمريكي بصنعاء هو الحاكم بأمره، وقائد مسيرة الإصلاح والتغيير في اليمن، والمشرف على كل صغيرة وكبيرة و بدقةٍ يحسده عليها الوطنيون؛ حتى أن أحد وزراء اللقاء المشترك في حكومة الوحدة الوطنية المشكلة بناء على المبادرة الخليجية لم يخف حقيقة هرولته الدائمة إلى مكتب السفير الأمريكي ليفصل له في كل شاردة وواردة.

لقد وهب الله اليمن موقعاً استراتيجياً ظل على الدوام محط حسد كثير من الدول التي لم يَمُن الله عليها بمثل هذه النعمة. لكن، وفي مفارقة عجيبة للمنطق وما تجزم به الأدبيات الإستراتيجية، غالباً ما كان هذا الموقع عامل ‘نقمة’ جر على البلد الكثير من والويلات وأدخله في دوامة من الصراعات الداخلية نتيجة لتدخلات خارجية لا تتوقف بلاياها؛ حتى وصل ببعضهم التبجح إلى القول ‘أن بؤسه شرطاً أساسياً لرفاهيتهم’.

– كاتب وناشط شبابي يمني ـ القاهرة

* القدس العربي