fbpx
مدافن الحبوب في سَرْو حِمْيَر-يافع

علي صالح الخلاقي

المدفن: في اللغة موضع الدَّفن وما يحيط به من بناء, وجمعها مدافن. وقد كان قدامى المصريون يدفنون ملوكهم الفراعنة في الأهرامات الشهيرة. وهناك من يدفن الكنوز من الذهب والفضة والنقود, ونسمع عن قصص وحكايات غريبة عن الكنوز الدفينة في أكثر من مكان في العالم. أما كنوز اليافعيين في مرتفعات (سَرْو حِمْيَر) الجبلية فقد كانت وإلى زمن قريب هي حبوب الذرة بأنواعها المختلفة التي خصصوا لها مدافن فريدة نحتوها في صميم الجبال الصخرية. ومثل هذه المدافن شائعة ومنتشرة في معظم القرى اليافعية, كما في الكثير من مناطق اليمن الجبلية, وهي من الآثار والشواهد الأثرية على استقرار الناس القديم في تجمعاتهم السكنية الحضرية.
ومن الصعب معرفة البدايات الأولى لحفر هذه المدافن, لكنها دون شك أثر حضاري من الآثار الحِمْيَرية القديمة, وشاهد على الاستيطان القديم للإنسان في مرتفعات (سرو حِمْيَر) الذي كَيَّف الطبيعة من حوله بمدرجاتها الزراعية وخزانات المياه من (الكرفان والمواجل) ونحت الحجارة والصخور مشيداً منها ناطحات السحاب الحجرية الأقدم والفريدة بنمطها المعماري التقليدي المميز في العالم, وحفر بجوارها مدافن يكنز فيها الغلال الأثيرة لديه المتمثلة بحبوب الذرة, القوت الهام الذي أطعم الأجيال المتعاقبة على مر العصور, فأمن بهذه الطريقة نفسه من نوائب الدهر وموجات الجفاف والكوارث, وأحتاط لنفسه في قراه الحصينة بخزن ما يفيض عن حاجته من الحبوب في أوقات الخير الوفيرة التي تُحفظ في هذه المدافن لسنوات عديدة دون أن تفسد أو تعطب, وقد يجدد خزن الغلال بين فترة وأخرى من خلال إخراج الحبوب المخزونة لسنوات واستبدالها بالمحاصيل الجديدة.
هناك مثل يافعي يقول:” البيت: مَرَهْ وبَقَرَهْ ومَدْفَنْ ذُرَهْ”, ووفقاً لهذا المثل فقد كان البيت السعيد قوامه هذا المثلث المتكامل, المتمثل بالمرأة الصالحة المدبِّرة لشئون الأسرة, والبقرة التي تدر اللبن والسمن, والمدفن الممتلئ بحبوب الذرة, التي كانت المصدر الهام لقوت اليافعيين إلى عقود قليلة مضت, قبل أن تدخل المواد الاستهلاكية المستوردة ويصبح الاعتماد عليها أكثر مما على المحاصيل الزراعية المحلية, التي تراجعت لصالح شجرة القات للأسف الشديد.
ومدافن الحبوب لا يمكن أن تكون إلاَّ في الجبال الصخرية التي لا تتشبع بالماء ولا يتسرب إلى داخلها, كما هو الحال كذلك في كثير من مناطق اليمن الجبلية ومنها قرى يافع الجبلية, ولعل أشهر مدافن الحبوب في يافع مدافن (القارة) عاصمة السلطنة العفيفية بموقعها الحصين على قمة الجبل البيضاوي الذي يحمل اسمها ويَحِفُّ بها سورٌ طبيعي, حُصِّن في بعض الثغرات بأسوار حجرية منيعة وكان الدخول إليها من بوابتها الرئيسية الوحيدة فقط. وقد اشتهرت ببناياتها وحصونها العالية ومساجدها ذات القباب والمآذن المرتفعة وبمدافن الحبوب المنتشرة في ساحتها المعروفة بـ (حبيل الجَرَاشة) وأكبرها مدفن السلطنة الذي يطلق عليه مدفن (الألف) لأنه يتسع لألف مكيال (كيلة) من الحبوب, وهذه المدافن مع ما تزخر به (القارة) من قصور ومساجد ومآذن وسدود أثرية بحاجة إلى من يلتفت إليها لصيانتها وإنقاذها من مخالب الإهمال, بل وتستحق أن تكون محمية أثرية تحظى بعناية دولية باعتبارها من روائع التراث المعماري الإنساني. وكذا المدافن الشهيرة في مسقط رأسي(خُلاقة) ثاني كبرى مدن يافع بعد مدينة (بني بكر) المجاورة لها, فمساكنها القديمة شُيدت على جبل صخري حصين يسمى (القفلة), وعلى جانبي هذا المرتفع الجبلي حَفَر الأجداد والآباء عشرات من مدافن الحبوب في عمق الصخر, وما زال الكثير منها باقياً حتى الآن.
وبهذه الطريقة التي ابتدعها أجدادنا تمكنوا من أن يدخروا أهم الغلال المتمثلة بحبوب الذرة بأصنافها المتنوعة: العوبلي, الجعيدي، المنزلة, الكَوَري, الغربة وهي التي تُخزن في هذه المدافن لسنوات عديدة. أما أصناف الغلال الأخرى كالدخن والشعير والبر والعلس والشامي (الهند) فلا تصلح للخزن في المدافن ولذلك يتم الاحتفاظ بها في أوعية منزلية خاصة لاستهلاكها أولاً بأول. ويظل المدفن حكرا على حبوب الذرة فقط, وكانت تمثل رأسمال اليافعيين واستخدموها عوضاً عن النقود في التبادل البضائعي, وكانت تمثل نقودهم في البيع والشراء وفي العمل المأجور, حيث كان العامل الأجير (البتول) يحصل على كمية من حبوب الذرة مقابل أجرة العمل وكذلك الحال مع الحرفيين في المجتمع, كما كان يُعطى لمن يقوم بحفر المدفن (النَّقاش) كمية من الحبوب تساوي قدر حجم ما أنجزه من سعة في المدفن, وهو أجر مُغرٍ يتناسب مع طبيعة هذه المهنة الشاقة وصعوبتها التي تتطلب القوة البدنية والحذاقة والمهارة في النقر بالصخر.
وكانت هذه المدافن تُحفر عادة في محيط القرية أو بجانب البيوت أو حتى داخلها في الدور الأرضي, لجعلها في مأمن من النهب ولضمان عدم تعرضها للسرقة, وكانت معظم الأسر تمتلك مدافنها الخاصة بها, وقد يكون المدفن ملكية مشتركة لأكثر من أسرة, وكانوا عندما يخزنون الحبوب يدونون كمية كل شخص في حساب خاص أو يحفظون ذلك شفهياً, وكان يلجأ من لا يملكون مدافن خاصة بهم إلى إيداع حبوبهم لدى أصحاب هذه المدافن حسبما تسمح به سعة مدافنهم. وتؤل ملكية المدافن إلى الورثة الشرعيين من الأخوة أو الأبناء, وإذا كان المدفن كبيراً يتم تقسيمه بينهم, وتُسمى حصة كل منهم “كَيد” ويفصل بينها بجدار من الحجارة, وقد يقسم المدفن إلى “أكياد” حسب نوعية وصنف المخزون من حبوب الذرة, فهناك “كَيْد” للجعيدي, وآخر للغربة.. الخ. كما كانت المدافن تُرهن أو تباع بكاملها أو جزء منها حسبما تؤكد ذلك الوثائق التاريخية.
يقوم بحفر المدافن الصخرية شخص متخصص في نحت الحجارة يُسمى (نقَّاش) وبطريقة يدوية بواسطة زُبَر الحديد والمطارق والأزميل (الفراص ـ وجمعها فِرْوَصْ), ويراعى عند حفرها في الجبل أن تضيق عند فتحتها التي بالكاد تتسع لدخول شخص واحد إليها ولكن الحفرة تتسع تدريجيا من الداخل كلما تعمقت بحيث تكون أشبه بالبالونة أو الزير, ضيقة عند الفتحة وواسعة من الداخل وقد تكون مستوية في الأسفل, وتختلف مساحاتها من الداخل فمنها الكبير والمتوسط والصغير.
بعد استكمال حفر تجويف المدفن وفق الحجم المطلوب أو المسموح به في عمق الجبل يتم استكمال البناء الخارجي حول فتحة المدفن بالحجارة المثبتة بالنورة(القضاض) ويسمى هذا البناء (الدَّرْوَان), ثم يحكمون إغلاق فتحة الدخول المربعة الشكل التي تسمى (الرَّقَبَة) بحجرة مستطيلة خفيفة السمك تماثل مقاس الفتحة وتنطبق عليها وتسمى (المُجْبَحَة) وهي تستقر على حاجز أسفل الفتحة, ثم تردم بالطين المضغوط, ومن الأعلى يثبتونها بمعجون (الخُلَبْ) وبهذه الطريقة يتم إغلاق أو (تَجْبِيْحْ) المدفن, ثم يضعون فوق الفتحة وحواليها أحجاراً كبيرة بعض الشيء لحمايتها من عبث الصغار. وهكذا يحرصون على إغلاق فتحة المدفن بإحكام شديد بحيث لا تسمح بدخول الهواء أو تسرب مياه الأمطار إلى الداخل, لأنها إذا ما تسربت ستفسد الغلال المخزونة وفقا لكمية التسرب ولذلك فأن أصحاب المدافن يتفقدون في العادة مدافنهم بعد السيول والأمطار الغزيرة للتأكد من أن المياه لم تتسرب إلى داخلها, وإذا حدث مثل ذلك فأنهم يتداركون الخلل بسرعة ويعيدون إحكام بناء الفتحات حتى لا تتعرض خزائنهم من الحبوب للتسوس أو العطب.
وعند الحاجة لفتح المدفن سواء لأخذ كمية من الحبوب المخزونة أو لاستبدال الحبوب القديمة بغلة جديدة فأنه يتم أولا فتح غطاء المدفن (المُجْبَحَة) ويُترك مفتوحاً عدة ساعات حتى يدخل الهواء (الأكسجين) إلى الداخل. كما يقومون بتسريع تهوية المدفن من خلال إدخال قطعة قماش أو لحاف مصنوع من شعر الماعز (بجاد أو فريقة) وتحريكها بعض الوقت داخل المدفن الأمر الذي يسهل دخول الهواء والتخفيف من الاختناق في الداخل, ولا يسمحون بدخول الشخص مباشرة فور فتح المدفن لأنه قد يموت من الاختناق لشدة الحرارة وانعدام الهواء في داخل المدفن, وقد عرف الناس اجراءات السلامة والأمان بالتجربة المكتسبة, فقبل دخول الشخص, يشعلون مصباحاً يعمل بالزيت أو فانوساً أو ما يماثله ويدلونه إلى داخل المدفن فإذا انطفأ مباشرة فأن ذلك يعني أن الهواء ما زال منعدماً في الداخل ويمنع في هذه الحالة الدخول, وتتكرر العملية حتى يتم التأكد من أن الدخول لم يعد خطراً. وبالتجربة فطن الناس قياس مدة الزمن الذي يمكن انتظاره حتى الدخول الآمن. وهذا الأمر يتم في الحالات التي يكون فيها المدفن غير ممتلئ بالحبوب, ومجال الفراغ في داخله أوسع, أما إذا كان ممتلئاً حتى حافته فالعملية أسهل ولا تتطلب القيام بهذا الاختبار, حيث يقومون أولاً بغرف الحبوب من أعلى المدفن مباشرة دون الحاجة للدخول, وعند سحب كميات كبيرة يكون المجال قد تيسر لدخول الشخص بأمان ليغرف في وعاء جلدي جاف الكميات الإضافية المطلوبة, ثم يُغلق المدفن من جديد حتى موعد حسب الطلب.
ويمكن القول أن هذه المنشئات المحفورة بالصخر كانت أشبه بصوامع الغلال التي تحفظ فيها الدول اليوم حاجتها الكافية من الحبوب الاستهلاكية, وكانت من أهم مرافق التجمعات السكانية في سرو حِمْيَر- يافع. ومثلما أجاد الإنسان اليافعي نحت المدافن في جوف الجبال الصماء, فأنه قد أجاد أيضاً نحت الكرفان وتشييد المواجل التي تحفظ له المياه, كما برع قبل كل شيء في نحت وتهذيب وتزيين حجارة البناء وتشييد الحصون والقلاع والقصور الحجرية الآمنة, التي أطلق عليها الشاعر الكبير سعدي يوسف “قصور حِمْيَر المترفعة” وهي ترتفع إلى أربعة وخمسة وستة طوابق, تناطح السحاب وتتوج بأكاليل تزينها تسمى (التشاريف) وكأن شرف البيت اليافعي المكتمل لا يتم إلاَّ بها, فتزيده مهابة وجمالاً وسمواً.

من كتابي(#فنونالعمارةالحجريةفييافع)

الصور لمدافن الحبوب في بطن جبل القفلة في خلاقة .وصورة وثيقتين حو ل بيع مدفن وجزء من مدفن من ارشيف اسرتنا آل سكران الخلاقي ..وبقية الصور من مسقط رأسي خلاقة ..