fbpx
جماجم فرنسا، وآيا صوفيا، وإنجيل ترامب: مذكرات في زمن الكورونا:

د. عبدالمجيد العمري

القاعدة العامة في الصراع الفكري تتمثل بحسب مالك بن نبي رحمه الله: “إن كل فراغ ايديولوجي لا تشغله أفكارنا ينتظر أفكاراً منافية معادية لنا” وهذا مصداق لحديث: “وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم” فالعالم مشحون بالأفكار المتطرفة ، يتبناها شياطين الإنس والجن، وبدون انتماء للفكر الأصيل، وحسن تصوره وفهمه، ستتلوث الفطرة.

تشكيل العالم كما يبدو في 2020 نتاج صراع فكري حميم ففي مطلع القرن التاسع عشر، اليمين النازي المتطرف الذي ظهر في قلب أوربا، أنتج صراعا عسكريا تغلب فيه معسكرا لحلفاء، لتظهر آثاره في تطرف من نوع آخر على شكل مؤسسات دولية، مجلس الأمن وصندوق النقد الدولي، من آثاره السيطرة على العالم أمنيا واقتصاديا، ومنح فلسطين وطنا لليهود، والإبقاء على مسمى دول العالم الثالث دولا منزوعة السيادة.

مظاهر الفكر اليميني المتطرف لا تتوقف، فقد رأينا ترامب وهو يرفع الإنجيل في الكنيسة ردا على المتظاهرين ضد التمييز العنصري، وهذا إشارة أنه يستمد قوته من الرب في مجابهة الباطل، وقبلها منع 7 دول إسلامية من دخول أمريكا، ومنح الجولان والقدس لإسرائيل، والتعصب للجنس الأبيض، وابتزاز العالم ماديا.

علاقة ترامب بالإنجيليين أصيلة في قصة متجدة لتزاوج المال والدين، وبحسب استطلاع فرنسا 24 يؤمن الإنجليين بأن انتخاب ترامب هو إرادة إلاهية وهفواته ليست ذات أهمية بالمقارنة مع معركته من أجل الحياة، لأنهم يصوتون بما “ينسجم مع قناعاتهم كتلاميذ للسيد المسيح” حسب وصفهم والإنجيليون ينتمون إلى تيار متشدد منحدر من البروتستانتية، ويشكل ربع سكان الولايات المتحدة.

هذا الهراء يحصل في دولة تعتبر أنموذجا راقيا في الانفتاح، ومعيار دوليا في الديمقراطية، ولا ينسى العالم غزو العراق عام 2003، وتأثر جورج بوش الابن بالواعظ تيم لاهاي، واعتقاده أنّ “حرب العراق محطّة من معركة هرمجدون السابقة للقيامة”، ومنذ 2003مــ ولا زال العراق تحت وطأت القتل والتهجير والتقسيم.

وفي حدث يميني متطرف مشابه يتساءل الكاتب أحمد نوردين :” فرنسا، بلاد الأنوار أم الجماجم” فقضية الجماجم تذكرنا بحقبة تاريخية وحشية همجية، وبحسب الكاتب نفسه:” فالمقاومون قُتلوا بالرصاص في المعارك أو بعد الاعتقال، ثم فُصِلت الرؤوس عن أجسادها لتُعرَض أوّلاً في ساحات مدينة بسكرة القريبة من واحة الزعاطشة، لترهيب من بقي من المواطنين وثنيهم عن مجرد التفكير في المقاومة، ثم يجري إرسالها إلى باريس كنياشين للنصر باسم المَدَنِيّة والحضارة التي جاءت فرنسا لتنشرها بين الشعوب “المتوحشة” والظلامية”، ولا عجب أن توجد هذه الجماجم في متحف تاريخي، وليس هذا فقط فهناك ما يزيد من 18 الف جمجمة توجد في الخزانة التاريخية لبلاد العطر والرومنسية.

والأحداث المعاصرة تتابع ففي الضفة الأوربية من إسطنبول تعيد الحكومة التركية آيا صوفيا مسجدا كما كان لمدة 481 سنة مسجدا ليحوله أتاتورك إلى متحف سنة 1934مـ وتحويل المسجد متحفا مظهر من مظاهر التطرف فأتاتورك عنوان التطرف والوحشية، فقد سلخ الأتراك من هويتهم الإسلامية بإشراف كامل من الإنجليز، فألغى وزارة الأوقاف والمدارس الدينية وحول الجوامع إلى متاحف ومنع رحلات الحج والعمرة، وألغى الحجاب والحروف العربية، وألزم الأتراك بالتعبد باللغة التركية، ونقل الإجازة الأسبوعية ليوم الأحد مثل النصارى، وألزم الناس لبس القبعة الفرنجي.

وبحسب الوثائق المثبتة فآيا صوفيا اشتراها السلطان العثماني محمد الفاتح وحولها إلى مسجد ودفع الثمن كاملا من حرّ ماله للرهبان الأرثوذكس، ليوقفه والأراضي المحيطة به وما عليها من مبانٍ لصالح المسلمين في كافة أنحاء العالم الإسلام، وهناك فرق بين الشراء وبين التغيير بالقوة، مع أنه كان الحاكم المتغلب، لكنها أخلاق الإسلام.

يتميز اليمين المتطرف باعتماده الشديد على العرق محددا وأيديولوجية أساسية في التعامل مع الغير وتصنيفه، فالنزعة الوطنية المفرطة والرافضة لكل أشكال الاندماج الإقليمي ميزة بارزة في التيارات السياسية لليمين المتطرف، فقد حارب هتلر نصف العالم زعما منه الحفاظ على الأقلية الألمانية في دول الجوار، وهو ما سعى إليه أتاتورك من إحياء للنزعة التركية على حساب حضارة عمرها 500 سنة ميزت تركيا ورفعتها بين الأمم.

لم يعد العالم بيئة صحية، فقد أصبح مشحونا بشتى المذاهب والأفكار المتطرفة، والفكر والتطرف يتخندق بخنادق متعددة، تارة الدفاع عن العرق، وأخرى الحفاظ على الهوية، وفي الغالب يمارس ابتزازا لتحقيق مكاسب سياسية، كما وعد نيتنياهو إسرائيل بضم الضفة إذا تغلب في الانتخابات.

قضايا المرأة، والإجهاض، والمثلية، والنظام المالي بشقيه الرأسمالي والإشتراكي، والاستنساخ، والذكاء الاصطناعي، وحرية التدين، وعلاقتنا بالآخر، ومفهوم الأخلاق، والحرية، وقضايا المهاجرين، وقضايا الأسرة والطلاق، والتدخل في الجينات البشرية، وحدود حرية الفرد ومستوى رقابة الدولة عليه، ونحوها من القضايا الفكرية التي تبرز للساحة نتاح خلفية فكرية، يدور عليها الصراع، وتُتخذ كثيرا دعايات انتخابية ساقطة.

المعركة الحقيقة الأولى للإنسان اكتشاف الأفكار الحقيقة التي تتوافق مع فطرته، والمعركة الأولى للمسلم اكتشافها وقبولها والدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدل المثمر، لإعلاء كلمة الله، التي تمثل الحق الميزان والعدل والحرية والمساواة.

الصراع دائما يتخذ منحى سياسي، وله دوافع فكرية عميقة، والفكر يعيش ويهرم ثم تنفخ فيه روحا جديدة، ولذا جاء في النص النبوي:” ( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ) فالتجديد في الإمة يجب أن لا يتوقف، ولا يتأتى الا بحسن فهم التراث، وتنقيحه وتصفيته، ومعرفة سنن الله، وسبر التاريخ بعين المنتقد، ومعرفة فواصل الأمم، وتعاقب الحضارات، حتى نحافظ على سفينة الإسلام للإبحار لإنقاذ البشرية من هيمنة شياطين الإنس والجن.

د.عبد المجيد العمري