fbpx
«كورونا» تفرض التعددية بلا إخلال بالقطبية الثنائية

 

مفهوم العلاقات الدولية المبنية على تعدد الأطراف لا يحظى بكثير من الاهتمام، مثلما القطبية الثنائية، فما سبب ذلك؟ هل أحد الأسباب يعود إلى ميلاد مفهوم الدولة القومية منذ أكثر من 500 عام. في حين أن بداية نشوء وظهور المنظمات الدولية الحديثة منذ نحو قرن من الزمان، والتي اعتبرها القانون الدولي أحد أشخاص المجتمع الدولي.

قليلون مَن رأوا في تطور ونمو المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة التي ستحتفل قريباً بعامها السبعين منذ تأسيسها، أنَّنا أمام شكل جديد من أشكال التنظيم السياسي للمجتمعات الإنسانية، لا يقلُّ أهمية عن بداية تكون مفهوم الدولة المعاصرة عند نشوئها، فقد استطاعت المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، إحداثَ تغييرات جذرية لطبيعة العلاقات الدولية بين الدول، ولم يعد هناك شيء يعتبر شأناً داخلياً للدولة، إذ بتطور علاقات الدول فيما بينها، تحول ذلك إلى شأن دولي، وبذلك أرسيت التعددية بامتياز.

وفي حوار غوتيريش مع نشرة أخبار الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2017 حين سئل؛ عمّ هو دور التعددية في عالم اليوم؟ أجاب بالقول: «نحن نعيش في عالم يواجه مشكلات دولية. من تغير المناخ والإرهاب وانعدام المساواة، ولا يمكن أن نحل مشكلات عالم اليوم على أساس كل دولة على حدة. نرى أكثر فأكثر أن الحلول العالمية فقط هي التي يمكن أن تتصدّى للمشكلات العالمية. ولكي تنجح الحلول العالمية، نحتاج آليات للحكم، تسمح للدول بالعمل معاً، للتعامل مع مشكلات عصرنا الحالي. لذا فإن المنظمات متعددة الأطراف، مثل الأمم المتحدة وغيرها هي أساسية للسماح لنا بمواجهة التحديات الكبيرة التي تهدد البشرية».

 

وبظهور جائحة كورونا استشعر العالم خطورتها على البشرية جمعاء، ما دفع ذلك إلى تجاوز الدول لخلافاتها السياسية، وإلى إنجاح جهود الدبلوماسية التونسية والفرنسية في انتزاع موافقة الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن، على قرار يطالب بوقف عالمي فوري لإطلاق النار في كل النزاعات، والتفرغ لمواجهة الأخطار الناجمة عن تفشي فيروس «كوفيد – 19» طبقاً لدعوة غوتيريش في مارس (آذار) الماضي، لكن تلبيتها تأخرت بسبب الخلافات الأميركية الصينية حول المسؤولية عن انتشار الجائحة، والدور المحتمل لـ«منظمة الصحة العالمية»، وقد اعتبر المندوبان التونسي والفرنسي أن صدور القرار رقم 2532 بالإجماع في مجلس الأمن «يمثل معلماً مهماً». واعتبرا اتخاذ قرار المجلس له أهمية رمزية عالية، من حيث كونه يثبت أنه إذا كانت هناك إرادة سياسية، فإن أعضاء المجلس قادرون على تجاوز آرائهم المتباينة، وإعطاء الأولوية لمصالح المجتمع الدولي، وأضع هنا خطاً عريضاً تحت عبارة إعطاء الأولوية لمصالح المجتمع الدولي، هل هذا يمثل تفاؤلاً مفرطاً نوعاً من «يوتوبيا أفلاطونية» أم أن جائحة كورونا قد تُحدث نقطة تحول في العلاقات الدولية؟ ولكي تحدث نقطة تحول في العلاقات الدولية، يعني ذلك أن يكون مصدر القرار السياسي الدولي موحداً في هيئة ما، بإمكانه التحكم والتأثير على العالم أجمع، وتحمل مصير ومستقبل البشرية جمعاء؟

واقع الحياة السياسية المعاصرة في الوقت الحاضر لا يتنبأ بإمكان حدوث ذلك في المستقبل المنظور، فقد حدث تاريخياً أن تحكمت دولتان على العالم، وبرزتا كقوتين دوليتين بفضل مستعمراتهما المنتشرة في جميع أنحاء العالم، هما فرنسا، وبريطانيا العظمى التي كان يطلق عليها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وبعد الحرب العالمية الثانية، حلّت محلّهما قوتان عظميان، الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي، ليس بفعل امتلاكهما مستعمرات مثل سابقتيهما، وإنما بفضل ما بحوزتهما من ترسانة أسلحة تقليدية ونووية غير مسبوقة، لم تكن لتكون كذلك، لولا قوة قاعدتهم الصناعية والتقدم التقني الذي تم إحرازه في بلديهما.

فإذا كانت بريطانيا العظمى وفرنسا سيطرتا على العالم بفعل مستعمراتها، فما تميز به عنهما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة أن كلاً منهما يعتبر قارة بذاته، ممتدة الأطراف، جعلتهما عوامل الجغرافيا والاقتصاد والتقنية المتقدمة والأسلحة يتبوّءان المشهد العالمي، والتنافس جعلهما يتفاديان الصدام المباشر بينهما، حتى تبني سياسة التعايش السلمي التي أطلقها خروتشوف لتشجيع لغة الحوار والتفاهم والتعاون بين المعسكرين الشرقي والغربي.

وبحلول الصين الشعبية بديلاً عن الاتحاد السوفياتي السابق كقطب ثانٍ أمام الولايات المتحدة، وهي أيضاً تمثل قارة بذاتها، تضاف إليها الكثافة السكانية بنحو مليار و300 مليون نسمة، استطاعت في فترة زمنية قصيرة نسبياً أن تقف نداً للهيمنة الأميركية على مختلف المستويات الاقتصادية والمالية والتقنية، وباشرت التوسع في بسط نفوذها الدولي، وتقديم مساعداتها في مواجهة انتشار جائحة كورونا، بما سُمي «دبلوماسية الكمامات»، ليس فقط في الدول النامية، بل أيضاً إلى بعض دول الاتحاد الأوروبي، خاصة إيطاليا وإسبانيا.

 

 

وفي لعبة جيوسياسية عالمية، تزامنت مع تفشي فيروس كورونا، ظهرت أزمة هونغ كونغ إلى السطح بتبني الصين قانون «الأمن القومي» الذي يعاقب على الأنشطة «الانفصالية» والتمرد على سلطة الدولة، والتدخل الأجنبي في المنطقة الصينية التي تتمتع بشبه حكم ذاتي، وذلك على إثر المظاهرات الحاشدة التي شهدتها هونغ كونغ عام 2019 ضدّ نفوذ بكين، ما دفع الرئيس الأميركي إلى اتخاذ قرار بإلغاء بعض الامتيازات المعطاة لهونغ كونغ، في إطار العلاقات الخاصة التي تربطها بالولايات المتحدة.

 

وشمل الاستياء العام من فرض الصين قانون الأمن القومي على هونغ كونغ أيضاً أوروبا، خلافاً لتعهدات الصين لبريطانيا، التي أعادت للصين هونغ كونغ وما كاو، على أساس مبدأ «بلد واحد ونظامان»، وكان يحذوها الأمل أن «فيروس» الديمقراطية قد ينتشر إلى داخل المجتمع الصين الكبير، لكن بقانون الأمن القومي حدث العكس، وفرضت الصين نظامها على هونغ كونغ، وبذلك حسب جريدة «اللوموند» تبخرت الأوهام الغربية واليد الممدودة نحو الصين!

لم تصعّد الحملة ضد الصين من جانب الرئيس ترمب فقط، بل شاركه في هذا التوجه المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية جون بايدن، الذي هدّد الأربعاء الماضي بفرض عقوبات اقتصادية جديدة على الصين، في حالة انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، واصفاً قانونها الأمني الجديد بأنه «ضربة قاتلة للحرية في المنطقة».

على صعيد آخر، اشتعلت حالة من تبادل الاتهامات وإلقاء اللوم عن مسؤولية تفشي جائحة كورونا بين الهند والصين، اللتين شهدتا مؤخراً مواجهة عسكرية دامية، وإن كانت محدودة.

 

ومن الجانب الآخر، توتّرت العلاقات الأميركية الألمانية بعد تصريحات الرئيس ترمب عن نيته تخفيض حجم القوات الأميركية الموجودة في ألمانيا بعدد 25 ألف، من أصل 52 ألف جندي، والهدف من ذلك كما يبدو معاقبة ألمانيا بسبب مشاركتها في مشروع الغاز الروسي، والفائض التجاري مع الولايات المتحدة، ما يربك وحدة دول منظمة الناتو.

 

وأوروبا من جانبها استقلت في مواقفها عن السياسة الأميركية الحالية بإعلانها ثقتها بمنظمة الصحة العالمية التي أوقفت الولايات المتحدة دعمها المالي لها، كما عبّرت الدول الأوروبية عن تأييدها للمحكمة الجنائية الدولية التي أصدر الرئيس الأميركي في 11 يونيو (حزيران) أمراً تنفيذياً بمنع الأصول المالية لبعض من موظفيها، وفرض قيود على تأشيرات دخولهم وأفراد أسرهم المباشرين، وهو الأمر ذاته الذي اعتبره خبراء حقوقيون في الأمم المتحدة يمثل «هجوماً مباشراً» على استقلال القضاء.

من الواضح أن الدبلوماسية متعددة الأطراف تضعها تحديات كبيرة في مواجهة دبلوماسية القطبين الدوليين، فهل جائحة كورونا ستساهم في تجاوز التناقضات بينهما؟
وللحديث بقية…

 

*مقال الدكتور محمد علي السقاف
صحيفة الشرق الاوسط