fbpx
البُعد الاجتماعي في أشعار الشاعر الشيخ عبدالله عمر المطري
شارك الخبر

كتب – علي صالح الخلاقي.
الشاعر الشعبي القدير عبدالله عمر محمد المطري( توفي 1992م)، أحد أعلام الشعر الشعبي المرموقين في يافع على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، ظل خلالها ملتحماً بقضايا مجتمعه وأحداث عصره، وتعرض لكثير منها بالوصف أو النقد أو التأييد, مجسداً مواقفه الوطنية الواضحة التي لا غبار عليها, وكان وبحق شاعراً وطنياً حمل هم وطنه وشعبه في أشعاره التي تنبع من الواقع الذي عايشه وعرفه معرفة المجرب لا معرفة المتفرج. ومثله مثل أنداده من الشعراء الشعبيين، عُرفت أشعاره على نطاق واسع عبر أشرطة الكاسيت التي كانت أكثر الوسائل لتناقل وانتشار القصائد بأصوات المطربين الشعبين أمثال سالم سعيد البارعي وعلي سالم بن طويرق والسيد المحضار وصالح سالم بن عطاف وغيرهم، دون أن تجد أشعارهم طريقها للنشر في دواوين خاصة في حياتهم.
ينتمي إلى أسرة  آالمطري في قرية (آل أحمد) مكتب لبعوس, وهي أسرة كريمة ذات محتد أثيل ونسب عريق, ومنها بيت المشيخة (المَعْقَلَهْ) في قرية آل أحمد التي توارثها أجداده, وقد خَلَفْ شاعرنا والده كشيخ “عاقل” لآل أحمد بعد وفاة والده عام 1956م, ومن هنا نعرف سبب عُمق ورصانة أشعاره التي تفيض بالحكمة وتحض على فعل الخير وتعميق القيم والتقاليد النبيلة, وفضلاً عن ذلك فالشاعر سليل أسرة اشتهرت بقول الشعر, فقد كان والده عمر محمد سعيد يقرظ الشعر, وكان جده لوالده محمد سعيد سالم شاعراً أيضاً, ولكن للأسف لم نعثر على شيء من أشعار والده وجده, وهذا حال كثير من الشعراء الشعبيين الذين ذهبوا عن دنيانا فذهبت أشعارهم معهم، وقد أصدرت له ديواناً ضم معظم أعماله بعنوان (المٌزُن الماطر).
انشغل شاعرنا بالهم الاجتماعي منذ وقت مبكر من شبابه، بحكم مكانته الاجتماعية، وكان يوزع وقته واهتماماته بين عمله ونشاطه في عدن وبين أسرته وقضايا أهله وناسه في يافع, فكان يقضي قرابة نصف العام في عدن والنصف الآخر في يافع, وعادة كان يقضي أيام عيدي الفطر والأضحى سنوياً مع أهله في القرية, يشاركهم الأفراح والمباهج والرقصات والزوامل التي كانت تتواصل عدة أيام. وفي عدن انغمس في التجمعات التي نشأت كجمعية شباب يافع, التي نشأت أواخر الأربعينات من القرن الماضي بهدف وحدة أبناء يافع في عدن ورفع مستوى قومهم, ثم التحق بنادي الاتحاد اليافعي الذي أسسه جماعة من يافع عام 1953م على رأسهم الشيخ أحمد محمد بن سبعة كمنافس للجمعية لخلاف بين الفريقين, وهو ما وقف شاعرنا ضده,ففي هذا الصدد يقول:
وجمعيه سَيْنَاها طويله لها مقر
 ومن حب يتفضَّل لَمَهْ ما حد انْكَرَهْ
حلفنا عليها عهد يا ويل من فجر
 وبُوك التبرع والرصايد مقرره
ومن قبل ذمَّونا لَمَهْ ما معك خَبَرْ
 وجوبل حضرنا والعفيفي وهرهره
وكُلَّن مراده فوقنا يذلح المحر
 وعادات يافع كل من شيخ محضره
كانت مواقف شاعرنا متميزة من الحروب القبلية التي كانت سائدة في يافع قبل الاستقلال, مثله مثل الشاعر الكبير الشيخ راجح هيثم بن سبعه, شيخ مكتب يهر(توفي مطلع الخمسينات من القرن الماضي) الذي ذم التصرفات القبلية العوجاء, كما في أبياته الشهيرة:
قال ابن هيثم بذا وقت الهمج
 ذي لا دريت ان ذه بقعا تموج
والهاجس اقبل يلاطم بالمُوج
 واهتجَّتْ الأرض وارتجَّتْ رجُوج
ولا تقولون ذا مني هرج
 قد ما بعوّل على كثر الهروج
والقبيله مثلما ثور الخزج
 خطوه قديه ومن ثنتين عوج
إنها مواقف متقدمة من شيوخ قبائل وظفوا مكانتهم وأشعارهم في الإصلاح الاجتماعي ومع غيرهم من الشعراء الشعبيين أسهموا في تطوير مضامين القصائد الشعبية وإعطائها بعداً وطنياً، يتجاوز حدود القبلية، وبعداً اجتماعياً لارتباطها الحميم بقضايا وهموم الناس وتطلعاتهم للخلاص من قيود وأغلال التخلف والجهل والمرض، فكانوا أقرب إلى روح الشعب ومعاناته من تلك الأوضاع،ويمكننا أن نطلق على هؤلاء صفة “مصلحين اجتماعيين” أكثر من كونهم شيوخ القبائل. فهذا هو الشاعر الشيخ عبدالله عمر المطري في كثير من أشعاره التي قالها في العهد القبلي, يدين تلك الفتن والحروب القبلية ويحذر وينذر من نتائجها الوخيمة, ففي واحدة من أروع قصائده يذم الفتن السائدة حينها في منطقته, مكتب لبعوس, ولا يتحرَّج أن يصفه بـ”حد المُدبرين”:
تسنَّد العُر وا تَبْصُرْ ثَمَرْ
 وحَدْ لَبْعُوس حَدْ المُدبرين
بيجَدِّسُون المسَانا عالعَتَرْ
 وللبلاء شُوفهم متوكِّدِين
كُلاً على اخُّوه بيحُر المَحَرْ
 وبالقرى شُوفهم متفرقين
من شرَّف الدَّار زيَّد له عُكَرْ
 ما هُم من الأمه المتحمدين
والمدبرين باللهجة اليافعية هم من يعيشون حياة الضنك والنكد، فهم في هذه الحالة يعيشون حياة “الدَّبُور” كما يُقال. والدبور في الفصيح الريح التي تقابل الصَّبَا والقَبُول. ودُبِرَ القومُ فهم مَدْبُورون، أصابتهم ريح الدَّبُور. وفي الحديث قال رسول الله :”نُصِرْتُ بالصَّبَا وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبُور”. ومن القصيدة نعرف لماذا يصفهم بـ”المُدْبرين”، فأرضهم جادسة, أي لم تُعْمَرْ ولم تُعْمَلْ ولم تُحْرَثْ بسبب الحروب والفتن،وهم متوكّدين للشر (البلاء) أي مستعدين له. والمحر هو لوح خشبي يستخدم لجرف التربة في الأرض الزراعية، وهو هنا كناية عن تنافر القوم وتفرقهم وكيدهم بعضهم لبعض, حتى أنهم حينما يبنون بيوتهم ويتوجونها بـ”التشاريف” التي تبدو كالأكاليل على البيوت اليافعية، يكثرون من الفتحات الصغيرة (العُكَرْ) في الجزء العلوي ليصَوِّبون منها فوهات بنادقهم نحو خصومهم, أنه يستثنيهم وحالهم هذه من ” الأمة المتحمدة” أي التي تحمد الله وتشكره على نعمه.
وهناك كثير من القصائد الأخرى التي ينهج فيها الشاعر هذا النهج ضد الفتن والحروب القبلية وكل نتائجها السلبية.عن هذه المواقف يقول أحمد محمد شوقي: “كانت مواقف شاعرنا من الحروب القبلية التي أكلت الأخضر واليابس حتى عشية الاستقلال مشرفة وكانت تُتخذ في ظروف تسود فيها الثقافة القبلية على ما عداها، ولا نبالغ إذا ما قلنا بأن قصائده كانت بمثابة مدفعية تضرب المفاهيم القبلية المتخلفة”.
وكأن شاعرنا، من حيث لا يعلم, يتقمص شخصية الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته التي مدح بها المصلحين بين عبس وفزارة بعد حربهما الشهيرة بـأيام (داحس والغبراء) وتوسع فيها في وصف الحرب ونتائجها المشئوومة كما في قوله:
وما الحرب إلاَّ ما علمتم وذقتمُ
 وما هو عنها بالحديث المرجَّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
 وتَضْرَ إذا ضَرَّيتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
 وتَلْقَحْ كِشافاً ثم تنتج فَتُتْئِمُ
وما يجمع بين زهير والمطري, على اختلاف الظروف والبعد الزمني, هو حبهما للسلام ونبذ الحرب بشرورها الجهنمية.
ولعله من محاسن الصدف أن يكون شيخ القبيلة هو شاعرها في ذات الوقت،وقد عرفت يافع أمثال هؤلاء وأشهرهم على الإطلاق الشاعر الشهير الشيخ راجح هيثم بن سبعة, شاعر القبيلة والوطن والرجولة والشجاعة والشهامة. ومثل هذا التوافق يجعل الشاعر الشيخ أو الشيخ الشاعر في موقف أقوى للتعبير عن أفكاره ومواقفه ولا يحتاج لشاعر آخر سواء من قبيلته أو من خارجها ليترجم مثل هذه الأفكار والمواقف، ذلك لأن الشاعر كان لسان قومه يذب عنهم ويفاخر بهم أمام خصومهم ويعبر عن مواقفهم في السراء والضراء وفي التفاوض والتخاطب مع بقية القبائل أو الإفصاح عن المواقف في الأحداث الهامة، وقد تجسَّد مثل هذا الأمر مع شاعرنا الشيخ عبدالله عمر المطري في موقف وطني هام كان يمثل فيه قبيلته (آل أحمد) ويقف أمامه على الطرف الآخر شاعر وشيخ قبيلة أخرى(آل الديوان)، وكان الحدث طي صفحة مأساوية ووضع نهاية لفتنة استمرت حوالي ثلاثين سنة بين القبيلتين والقريتين المتجاورتين والمنتميتين إلى نفس مكتب لبعوس,أزهقت فيها دماء عدد من القتلى والجرحى, وأجدبت الأراضي الزراعية وشاع الرعب والخوف بين الناس. فحين تمكنت جبهة الإصلاح اليافعية (الواجهة العلنية للجبهة القومية في المنطقة) من فرض سيطرتها على المنطقة وضعت ضمن أولياتها مهمة إخماد نيران الفتن القبلية السائدة حينها في المنطقة من خلال عقد اتفاقيات الصلح بين القبائل كخطوة أولية على طريق وضع حد نهائي لها. وقد عمدت الجبهة إلى التركيز على حل الفتنة بين آل أحمد وآل الديوان لأنها من أقدم الفتن وأشدها ضراوة, ولذلك دعت إلى اجتماع موسع للقريتين حضره أعضاء الجبهة وجمع من أبناء المنطقة في 23محرم 1383هـ وبعد مناقشات مطولة وحامية أثمرة الجهود في اليوم التالي 24 محرم بعقد صلح بين القبيلتين لمدة سنتين( ). وفي مهرجان الصلح حضر آل الديوان يتقدمهم شيخهم وشاعرهم ناصر عبد أحمد الميسري وهم يرددون زاملهم الذي ارتجله بهذه المناسبة ويقول فيه:
يقول ذي ما قط جِيْ منَّهْ سَرَفْ
 سلام منّي عد ما اتشرَّع سهيل
شلّيت حمل المَيْل من أجل الشرف
 من كان مثلي با يشل الحِمْل مَيْل
وجَّه الشاعر الميسري زامله إلى جميع المشاركين في الاحتفال, مستهلاً إيَّاه بكلمة “يقول” للفت الانتباه لما بعدها, مؤكداً أنه لم يأت منه قط ما يشين (سَرَف) ثم يرد السلام بعدد مياه الأمطار التي يبشر بها النجم اليماني (سهيل), ويذكِّر بأنه قبل بالحل المائل الذي لم يأتِ لصالحه وفقاً للعرف القبلي وشريعة الثأر, ويرمز إليه هنا بالحمولة المائلة التي تثقل كاهله, لكنه قبل بذلك من أجل الشرف,شرف الريادة والسبق في الخروج على قاعدة الثأر والسمو على آلامه وجراحه لتحقيق السلام الاجتماعي وبناء حياة جديدة يسودها الوئام والسلام, ويؤكد بأن من كان مثله أو في موقعه لا بد أن يتصرف مثله.
وبعد موكب زامل الديوان جاء دور زامل آل أحمد الذي التقط شيخهم وشاعرهم المطري قافية زامل آل الديوان ومضمونه فأرتجل ببديهته رداً محكماً وبنفس القوة والمعنى والقافية:
يقول ذي حاز المروّه والشرف
 يا مرحبا ما عقَّب الماطر بسيل
انته من اتقدّم وأنا أحسن من قطف
 والكُوميه هي ذي بتبرك للعديل
لقد جاء رده مناسباً ويصب في ذات المنحى، واستهله بذات الكلمة “يقول” لقوة جرسها في التنبيه لما بعدها, وانتقى كلماته بعناية لجلال الموقف وهيبته, وهذه سجية من يحوز المروءة والشرف, ونجده يرد على السلام مرحباً ومعترفاً بسبق وإقدام الطرف الآخر في هذا الموقف الوطني، الذي يقدره له، مؤكداً تجاوبه معه في قطف ثمرة هذا الاتفاق, ومثل هذا لن يتأتى إلاَّ لمن يمتلك القدرة والإرادة للنهوض بالعبء الثقيل والتخلص من مخلفات الفتن والحروب القبلية التي عانت من وطئتها القرى والتجمعات السكنية المتجاورة. وهو يرمز إلى قوة التحمل بالكومية وهي الجمال أو الإبل التي تنهض بحملها دون عناء. وهي صورة رمزية موحية من البيئة التي عاش فيها الشاعران, ولها وقعها المؤثر في وجدان المتلقي.
أخبار ذات صله