fbpx
الإخوان والتشنج السياسي في تونس
شارك الخبر

 

ل

محمد أبو الفضل

انعكس التشنج السياسي في تونس على المجتمع ككل، كل شيء في البلاد التي تمر بظروف انتقالية منذ يناير 2011، يشير إلى عمق الأزمة التي تواجهها على كل الأصعدة، خصوصا في ظل صراع الإرادات بين القوى السياسية المختلفة، والتي لا تزال منذ سنوات تتنافس على ملء الفراغ الذي تركه النظام السابق، دون جدوى. لكن ما يزيد من عمق تلك الأزمة أن تونس التي عرفت باعتدالها خلال الجمهورية الأولى وبسياساتها الأقرب إلى النهج الليبرالي اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، تواجه اليوم نذر الدفع بها إلى زاوية الأيديولوجيا التي تحاول أن تخفي تشددها إلى حين التمكن من التغلغل في مفاصل الدولة وإحكام السيطرة عليها.

رغم أن المجتمع التونسي في عمومه غير ميال إلى التنظّم العقائدي، سواء كان يمينيا أو يساريا، إلا أن السنوات التسع الماضية عرفت تحولات في المجتمع أدت إلى بروز ظاهرة الإرهاب والتطرف في سياق الفوضى التي عمت المنطقة، والتي اعتمدت في مشروعها على استغلال الجانب النفسي للأفراد والجماعات، وعلى تشكيل صورة العدو الوهمي سواء كان عقائديا أو تاريخيا أو ثقافيا أو جهويا أو طبقيا أو حتى عشائريا، وتحويله إلى الشماعة التي يضع عليها الفرد عجزه وفشله وضعف حيلته.

منذ العام 2011، كان المزاج العام في دول ما سمي بالربيع العربي موجها لإدانة الدولة الوطنية ورموزها، وكان الإخوان أول من ركبوا الموجة لطرح أنفسهم بديلا، رغم أن حضورهم في الشارع لم يكن كبيرا، لذلك استفادوا من آلياتهم في التحريض ضد كل من يختلف معهم سواء ممن يصفونهم بأزلام النظام السابق، أو من القوى اليسارية، أو التيارات الحداثية الديمقراطية، ونجحوا في تقسيم المجتمع مستغلين ثغرات التاريخ الحديث والتباينات الجهوية والفئوية وما نسب إلى الأنظمة السابقة من أخطاء، وشكلوا منظومات للتضليل الإعلامي والحرب النفسية، ووجدوا في التيارات الجهادية العنيفة سندا لهم في عملية بث الرعب لدى العامة، ونفذوا مخططات تم إعدادها جيدا لابتزاز بعض الأطراف وتجنيد الانتهازيين من أصحاب الوظائف المهمة في مؤسسات الدولة مقابل عدم المساس بمصالحهم.

ورغم أنهم لم يكونوا وراء الإطاحة بالأنظمة فعليا، إلا أن الإخوان في دول ما سمي بالربيع العربي اتجهوا بدعم إقليمي ودولي إلى ملء الفراغات بالظهور في صورة القوة المنتصرة، ولم يكن إخوان تونس بمعزل عن هذا التوجه. فقد عملوا على تحويل المسارات الهشّة إلى مشروع يعتمد بالأساس على شيطنة لا النظام السابق فحسب، وإنما الدولة الوطنية عبر البحث في ملفات الصراعات السياسية السابقة، واعتبارها دولة معادية للهوية العربية الإسلامية، وتابعة للغرب ومتنكرة لثوابت التاريخ والجغرافيا، وناهبة لثروات الشعب، وغير عادلة جهويا واجتماعيا وفاشلة اقتصاديا ومنبتة حضاريا.

ومنذ وصولهم إلى الحكم بعد انتخابات أكتوبر 2011، أكد إخوان تونس أنهم جزء من المخطط المستقبلي لمشروع الإسلام السياسي في المنطقة، وقد كان ذلك كافيا ليضعهم في محور يهدف إلى استدراج كل الشعوب العربية إلى النموذج الذي انطلق من بلادهم، وهو نموذج كان يدار من وراء الحدود لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ذات المحور الذي لا يزال إلى اليوم يقاتل من أجل مشروع الدولة الدينية وفق الرؤية الإخوانية وتحت مظلة الخلافة الجديدة المزعومة بزعامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

تعمل النهضة بكل قوة من أجل السيطرة على مفاصل الدولة، كحركة عقائدية منتمية إلى مشروع إقليمي يراد لتونس أن تنجر إليه، وأن تربط مصيرها بمصيره، وتعتمد في ذلك على عنصر الزمن لاختراق المجتمع، وعلى الذكاء في تحقيق التموقعات المؤثرة داخل أجهزة السلطة. وقد نجحت في تحقيق الكثير من أهدافها، ورغم أنّ من صوتوا لها في انتخابات 2019 لم يتجاوزوا 560 ألف ناخب، إلا أنها وصلت إلى رئاسة البرلمان وتمكنت من فرض شروطها على التشكيل الحكومي، ووضع يدها على أغلب المجالات الحيوية في البلاد، وكونت طبقتها الاقتصادية الخاصة بها، واستطاعت أن تصنع لنفسها نواة بديلة في كل مؤسسة ذات أهمية استراتيجية.

يدرك أغلب المراقبين أن تونس لا تحتمل أن ترفع على عاتقها أعباء الأيديولوجيات مهما كانت مرجعيتها، وخاصة الأيديولوجيا الدينية الإخوانية التي تحرك أجندات النهضة، واللافت أن الحركة تتهم كل من ينتقد توجهاتها تلك بأنه يمارس الحقد الأيديولوجي، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بعلاقاتها الإقليمية والدولية التي ترتبط ارتباطا أساسيا بمحور الإسلام السياسي، وخاصة من خلال الراعيين القطري والتركي، أو من خلال القوى الغربية المعروفة برهانها على ذلك المحور، وخاصة بريطانيا وألمانيا ومراكز نفوذ المحافظين الجدد في الولايات المتحدة.

ويدرك عقلاء تونس أن أي مشروع لأخونة الدولة والمجتمع لن ينجح، ولكن سيؤدي إلى حالة من الفوضى كالتي تبدو نذرها حاليا، وأن أي رهان على انتصار المشروع الإخواني في المنطقة أصبح جزءا من الماضي، كما أن أي أمل في تحقيق المشروع الأردوغاني هو أمل خائب ومصيره الفشل، بل إن الإسلام السياسي في حد ذاته سيبقى منحصرا في نسبة لا تتجاوز 5 في المئة من عموم المجتمع، كما أن زمن الأيديولوجيات بجميع مرجعياتها قد انتهى تقريبا، وخصوصا تلك الأيديولوجيات العابرة للحدود والساعية لتكريس وجودها على حساب الهوية المحلية للدولة الوطنية.

إن محاولة فرض المشروع الإخواني في تونس هي أحد أسباب التشنج السياسي والاجتماعي، وقد لاحظنا ذلك في البرلمان وفي الخطاب الإعلامي، وفي المعركة الدائرة رحاها على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي نزعات العداء لبناة تونس المستقلة، وفي خطاب الكراهية ضد جهات أو فئات أو تيارات، وفي توتير العلاقة مع الرئاسة والنقابات والإعلام والساحة الثقافية وغيرها، وهو تشنج سرعان ما ينعكس على الشارع الذي لا يعتقد عاقل أنه في حاجة إلى الزج به في مواجهات غير مأمونة العواقب.

أخبار ذات صله