fbpx
هجرات اليافعيين إلى الهند(8)
شارك الخبر

كتب – أ.د.علي صالح الخلاقي
الشوق والحب للوطن
———————–
رغم عيش اليافعيين في مهاجرهم واستقرار كثيرين منهم واندماجهم بالتزاوج إلا أنهم يحافظون على تقاليدهم التي تكون لها سلطة قوية في إملاء معايير السلوك والآداب الاجتماعية , ولذلك يظل اليافعي محافظاً على تراثه وعاداته وتقاليده , وهو ما يفسر حب المهاجرين منهم لمسقط رأسهم وتعلقهم بأهلهم وقومهم وعشيرتهم وعدم نسيانهم حينما تتحسن أحوالهم المادية, وهذا ما نجده في معظم رسائلهم التي لا تخلو من التحويلات المالية أو إرسال الهدايا من الملابس ونحوها.
 ومعظم تحويلاتهم المالية لا تتم بواسطة المؤسسات المالية أو البنوك إلى عدن، وإنما يتم إرسال مع أية هدايا من الملابس وأدوات الزينة وغيرها مع أحد الأصدقاء او الأقارب ممن يعودون من مهجرهم في زياراتهم لقضاء إجازاتهم, وكانت تُدفع لهم أجور أتعابهم, ولهذا نجد في الرسائل صيغة (مدفوعة الأجر) على كل مبلغ أو بضاعة يتم ارسالها..كما  كانت الحوالات المالية تُرسل أيضاً إلى وسطاء في عدن  مثل دكان أحمد علي الصواف الجبني ويقع محله التواهي، أو إلى عند عبدالرحمن بن أحمد باذيب بسكّة الحضارم وآخرين( )، أو إلى دكان صالح مراد في المكلا, وعبدالقادر بن عمر باشراحيل للشحر( ).
ويتجسد حب الوطن وشوق وحنين المهاجرين إلى مسقط الرأس بأروع الصور وأبلغها دلالةً في أشعار وقصائد الشعراء المهاجرين منهم, وأبرزهم الفنان والشاعر يحيى عمر اليافعي الذي ظل يحمل الوطن في حناياه وفي تلابيب قلبه، وكلما نأى به الزمان والمكان عنه، ازداد لوعة وصبابة وهياماً به، فلم تمض سوى ثلاث سنوات على غربته في الهند حتى تنازعه الشوق للوطن، رغم ما هو فيه من رغد العيش، فأخذ يتطلع إلى المركب الهندي الذي تمنى أن يكون أحد ركابه إلى (بندر عدن) ولو كلفه ذلك دفع (زايد ثمن)، رغم أن الثلاث سنوات قد أمضاها مع (حُمر الوجن) وله ما شاء من (الخمر والعسل واللبن) وهذه كناية عن أنهار الجنة الثلاثة، وكأنما أراد أن يقول إنه في الجنة، لكنها مع كل ذلك ليست معادلاً للوطن الذي سكن حبه في فؤاده ويجري مجرى دمه ويحظى لديه بأعلى مراتب الحب، ويمثل بالنسبة إليه دواء للروح وبلسماً شافياً:
يحيى عمر قال لا بندر عدن
 وا مركب الهند ليتك عازمي
تجمَّل اليوم خُذ زايد ثمن
 وشل عاشق مولع هايمي
با داوي الروح من جو اليمن
 منه علاجي ومنه بلسمي
يافع حلالي لـه الوجه الحسن
 حلاوة اسمه حلا يملأ فمي
وكيف با أنساه وحُبَّه قد سكن
 داخل فؤادي ويجري في دمي
لقد ظل متعلقاً بمسقط رأسه ومشدوداً إليه بوشائج قوية، لم توهنها حياة الدعة والراحة ورغد العيش ومباهج الحياة الكثيرة التي صادفها في مدن الهند الكثيرة (دلهي، ممبي، كلكتا، مدراس، حيدر آباد، برودا، بونه..إلخ) التي عرفها وعرفته شاعراً عاشقا وعازفا وملحناً وفناناً يأسر الأنفس ويشجي قلوب العاشقين الملتاعة والغارقة في بحر الهوى، أو في غيرها من البلدان والمدن والمراسي (عمان، البحرين، البصرة، فارس.. الخ) التي قصدها أو مكث فيها في تنقلاته وأسفاره الكثيرة. وظلت روحه الهائمة تحلق في سماء الوطن وتحط الرحال عبر الأثير في كل شبر منه، يساعده في ذلك هاجسه الشعري المتوقد الذي يطوي به المسافات ويقرب بينه وبين وطنه في أسرع من لمح البصر:
ذكرت واشتاق قلبي لا جبل يافع
 مشتاق للأهل والأحباب والخلان
للأرض ذي حلّها كمّن نمر شاجع
 لضيفها نور أما للعداء نيران
لأهل النِّصَل والسَّلب باروتهم والع
 لا اَهْتَانت الأرض ما من يافعي يهتان
وهذا الشاعر والفنان علي حسين عبدالرب بن مفتاح الفقيه الرشيدي الذي قضى جزءاً من حياته في المهجر الهندي يعبر عن ضيقه وتضَجُّره في مهجره الهندي وشوقه الجارف لأهله ووطنه بقوله( ):
يقول بن مفتاح كبدي طاره
  على الوطن سَهَّرتْ نوم أعياني
من بالعَشي لمَّا طلوع الزهره
  بأول ربيع الشهر ليلة ثاني
بالهند مُتضَيِّق وفيني ضجره
  من فُقد أهلي وأخوتي وأوطاني
حنين مثل العيس موسم هجره
  وما تحن النوب بالعيداني
بعدي بني مُرشد عُوَلْ مُحتَرَّه
  رجال تتلذَّع كما الحنشاني
ما يرتهب لا قد دخل في حجره
  يحكم ويتجلَّس في الديواني
رجال قطَّاعه معاهم نَصْرَهْ
  والخصم بَيَّت منهم تعباني
كما تحفل رسائل المهاجرين اليافعيين في الهند بمشاعر الشوق لوطنهم وأهلهم والسؤال المستمر عن أحوال الأهل وأخبار البلاد والعباد, والعتب عليهم من انقطاع الرسائل التي تفرج عن المهاجرين بعض ما هم فيه من ضيق الغربة التي عبر عنها أحدهم بقوله:” ولا كان المسهون منكم بقطع الخطوط لحيث ما مع الغايب من الغايب إلا وجهه يا خطه ولحيث إذا وصلنا كتاب منكم يروح منا كل هم ويفرج علينا بعض ما نحن فيه من ضيق حيدر عباد، لحيث نحن في حيدر عباد ظاهر والقلب عندكم وانتوا ما معكم خبر في فكر الغربة ، ولكن مقادير الله تصل حدها ولا دريت انا با أحلم ما نمت لحيث الواحد يدخل بشف نفسه والمندار بشف غيره وحكم الله، والمدخل سهل والمخرج عسر منها، ولكن راجين من الله ببركة دعاكم أن يجمع الشمل بيننا وبينكم قريب ليس بعيد، لحيث ضاق خاطري من مقعد حيدر عباد( ).
وفي وصف حب الوطن والاعتناء بتعميرها كتب أحدهم يقول:” كتبت هذه الأسطر من حيدر أباد الدكن إلى بلد المبارك جبل يافع بل أقول له نافع.. وإذا أراد الله فأني واصل إلى جنابكم ويلزم لك انك تكون مجتهداً من غاية الاجتهاد وفي تعمر الأرض الذي معك قسمك وقسمي- ما أنا طالب منك في شيء كثير والا قليل ولكن إني طالب منك ان تقوم الاسم آباءنا وأجدادنا ونكون أحسن العباد حتى أسمع عن أحوالك وأفرح به وانا أدعي لك صباحاً ومساءً والله الله في الأرض تكون عامرة ليس عامرة وكان الله معك صاحباً ورفيقاً فقط”( ).
ومن مظاهر الارتباط بالوطن الارتباط الأسري بين المهاجرين وأهلهم وذويهم وتتبع أخبارهم في الداخل والخارج, ومعرفة من توفى منهم, ومن ذلك وفاة علي بن محمد احمد العبادي وعبدالرحمن بن محمد حامد العبادي في مكة سنة 1309هـ, والحض على رعاية الأيتام الصغار والاحتفاظ بأموالهم والاعتناء بشكل خاص ببنات المتوفي علي وأن يكونين من نصيب أبناء عمهن( ). ثم يسأل عن مصير بنات أخيه في رسالة أخرى سنة 1323هـ  ومن الذي تزوجت ومن الذي لم تتزوج بعد ويحذرهم من أن يصل إلى مسامعه أي خبر سيء(فسل)( ). ثم يخاطب في العام التالي 1324هـ ابن أخيه الذي لم يتزوج بعد ويعرض عليه هو وأخيه الزواج من بنات عمهم المتوفي علي إذا كان ولديهم رغبة وقبول, ما لم فممن تهوى أنفسهم ويحثهم برعاية بناء عمهم الأيتام( ).
ومن شواهد الارتباط بالوطن الاهتمام بالحفاظ على النسب الأسري أو (النسبة) الذي تزداد الحاجة إليه لدى أولئك الذين تزوجوا هناك وخلفوا أولاداً في المهجر حتى يظل أبناؤهم وأحفادهم على دراية بأصلهم وامتداد شجرة نسبهم. ففي رسالة من مهاجرَين يطلبان من أخيهما في يافع الاعتناء بإرسال شجرة نسب العائلة بنقلها ممن يحتفظ بها على أن تكون مفصلة, ويعتبان عليه لعدم اهتمامه بذلك الأمر بعد أربع رسائل بعثا بها إليه يطلبان منه ذلك, ويعتبران يوم وصولها أعظم فرحة حتى لا يضيع أولاده( ).ولأن الأخ لم يتجاوب مع طلبهما فقد توجها برسالة أخرى إلى أبناء أخيه يطلب منهما أن يحثا والدهما لكي يعتني بإرسال نسب العائلة وأي خسارة سيتكفل بإرسالها لهم( ). ويبدو أن عدم الاهتمام بإرسال (النسبة) قد فاقم الغضب لدى المهاجرَيْن جراء ذلك الإهمال وعدم تجاوب أو تعويل الأقرباء إلا مع ما لهم مصلحة فيه, وهددا بأنهما لم يعدا بحاجة منهم لذلك وسيطلبان من غيرهم القيام بالمهمة مهما كلفهما ذلك من ثمن( ).
من بحث مقدم إلى ندوة (ظاهرة الهجرة اليافعية عبر التاريخ) التي نظمها مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر يوم 24سبتمبر2019م في كلية التربية يافع.
يتبع غداً
أخبار ذات صله