fbpx
هجرات اليافعيين إلى الهند(7)
شارك الخبر

كتب – أ.د.علي صالح الخلاقي
المهاجرون والحفاظ على القيم الدينية
———————–
تكشف الوثائق والمراسلات التي تعود إلى فترة المهجر الهندي تمسك اليافعيين بالواجبات الدينية وبالقيم الإسلامية النبيلة وسعيهم لنشر الإسلام في مهاجرهم من خلال تقديم الأسوة الحسنة في السلوك والمعاملات ونشر وتعليم القران الكريم وأداء الفرائض الإسلامية. وقد عثرنا على مخطوطة أصلية نادرة من القرآن الكريم لمالكها الشيخ أحمد بن خلف بن عبدالله بن علي بن عثمان العبادي نسباً والشافعي مذهباً واليافعي موطناً وسار الملك بأرض الهند بلد حيدر اباد حفظه الله بعينه التي لا تنام, وهي مكتوبة بخط يد جميل باللونين الأسود والأحمر وغلاف جلدي، وفي خاتمها كتب ناسخها الفقير المذنب العاصي المسمى صالح بن حميد بن خميس بن محمد بن عبدالله المسكتي أنه قد ختم هذا الكلام يوم الاثنين11من شهر ذي القعدة سنة 1262هجرية، وحُرّر في بلدة الطيبة الفرخُندة بنياد الحيدر آباد( ).
كما تعَلَّق المهاجرون بأداء فريضة الحج المقدسة في حياتهم أو بعد مماتهم، ففي وثيقة تاريخية تقليدية( ) من حيث شكلها كتبها أحد أشهر فقهاء يافع في ذلك العهد هو نائب الشرع القاضي عبدالحبيب بن أحمد حيدر عزالدين البكري، كما جاءت صفته بخطه قبل اسمه ، ويعود تاريخها إلى 9 شوال 1241هجرية، وهو ما يوافق 18مايو1826م. نعرف أن الموصي دينيش ابن زين علي حرفوف الفردي، كما عرفنا عن نسبة من وثيقة أخرى، كان مهاجراً في الهند وامتلك ثروة تقاسمها ورثته، ولأنه لم تتاح له فرصة الرحلة إلى مكة لأداء فريضة الحج في حياته، ربما لظروف هجرته أو مرضه أو كبر سنه، مع معرفتنا لما كانت ترافق رحلة الحج من مصاعب ومشاق ومخاطر السفر مشيا على الأقدام، فأنه قد أودع وصيته في ذمة وعُهدة الشيخ أحمد ابن دينيش ابن ناصر عوض البكري، وهو شيخ بني بكر في ذلك العهد، واختياره عليه لم يأتِ عبثا فالرابط بينهما هو أن الموصي سَمِيّ آل دينيش، أي نَسيبهم،  ولذلك كان موضع ثقته، رغم أنه ينتمي إلى آل الفردي المجاورين لبني بكر، وتقضي الوصية بأن يحج له (حاج نظيف) أي حاج يُعرف عنه الورع والتقوى والأمانة، وقد اختار الشيخ أحمد دينيش  لهذه المهمة الحاج صلاح ابن صالح بن أحمد بن سكران الخلاقي، من خلاقة المجاورة لبني بكر، وحدد له مقابل الحجة والعمرة خمسين قرش فرنصة، والقِرْش هو الريال النمساوي “ماريا تيريزا” الذي شاع  تداوله في يافع وفي غيرها من المناطق وظل متداولاً إلى عشية الاستقلال، ولا أدري لماذا وردت صفته بـ(حَجَري)، وتسلّم منها مقدماً 34 قرشاً ، وتأجل دفع المتبقي وهو 16 قرشاً إلى  حين عودة الحاج صلاح ابن صالح، وفي حالة تخلفه في الشام ، ويقصد بها هنا جهة الشمال أي الحجاز، بعد أن يكون قد أدى فريضة الحج وزار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الشيخ دينيش أن يدفع ذلك المبلغ المتبقي لوكيل الحاج صلاح وهو جحلان المقدشي الخلاقي.
 وقد وافق الحاج صلاح بن أحمد على ذلك وتعهَّد بالله بأنه (حاج لدينيش زين حجة وزيارة نظيفة وافية الشروط الشرعية) وأن يأكل من زمالته، أي من جيبه، ويستعين عند وصوله مكة المشرفة بدليل (متاجر) يدفع له أجرته لتعريفه بمواقيت الحج وجبل عرفات ورجم الجمرات وطواف ومسعى وجميع مواقيت الحج وسننه.
وهناك رسائل تعود إلى فترة المهجر الهندي تحوي أخبار من ذهب إلى الحج وتدعو ربنا أن يسهل عليه.
ويتجسد الالتزام الديني بالصدقات الخالصة لوجه الله التي يحرص المهاجرون من خلالها التقرب إلى الله ليضاعف لهم الأجر سواء فيما يقدمونه في مهاجرهم أو فيما يرسلونه لصالح المساجد أو غيرها من المنافع العامة في مسقط رأسهم كخزانات الماء في المساجد (الهِجَر) أو تلك التي في الطرقات (المواجل) التي يستقي منها المسافرون حاجتهم للشرب أو الوضوء. فهذا أحدهم يرسل سنة 1313هـ بساطاً كبيراً من السجاد(جانمازاه) لجامع خلاقة ويوصي أقربائه بفرش السجاد بيدهم وتحويله للقائم بالمسجد من القضاة كوقف لا يباع ولا يرهن ولا يتبدل( ). وفي رسالة أخرى سنة 1315هـ يرسل100قرش فرنصي(ريال مارياتيريزا) لترميم وإصلاح سقاية(هجرة) مسجد الحبيل وترميم وإصلاح المسجد الجامع, وهو مبلغ كبير بمقياس ذلك الزمن لا يجود به إلا مؤمن سخي وكريم( ). وفي سنة 1316هـ أرسل أيضاً قرشين لصالح ماجل اليافعي وهو خزان تتجمع فيه مياه الأمطار ويقع في قمة طريق جبلي تحمل اسم (اليافعي) يستفيد منه المارون في هذا الطريق الذي يربط خلاقة بمنطقة ريو( ). وفي العام التالي 1317هـ يرسل نصف قرش لمسجد منّاعة لشراء حصير(سلقة) أو لإصلاح سقفه (جُبَاه), ويتساءل عن مصير المبالغ التي أرسلها من قبل لصالح مسجد الجامل وماجل “لَخشاب” وهِجرة أيوب وهجرة الحبيل والصومعة, وهل عملوا فيها شيئاً لأن مبالغها معهم وهي صدقة لله ويحثهم على أن لا يخالفون شيئاً( ). وفي رسالة له تعود إلى سنة 1275هـ يرسل لأمه قرشاً مدفوع الأجر ويطلب منها أن تأخذ فيه قميص للصلاة ويحذرها من ترك الصلاة لأن الدنيا فانية وكل من عليها فانٍ( ). ويحث في رسائله على القيم الطيبة وبث روح الألفة والأخوة( ). وهذا مهاجر آخر يحث على ترسيخ القيم النبيلة بين أهله وأقربائه في مسقط رأسه يافع ومراعاة علاقات الأخوة وطاعة الوالدين كأعظم فائدة وبركة ونعمة في الدنيا والآخرة( ).
كان المهاجرون مثلهم مثل غيرهم من الناس يعتقدون بكرامات الأولياء وبقدرتهم على علاج المرضى وانجاب الذكور ومعرفة الغيب وكشف أسراره وخفاياه( ). وكان بعضهم يرسلون مبالغ لإقامة مولد أو فاتحة باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم ( ). وفي العادة فأن الموالد (مفرها مولد/مالود) احتفالٌ ديني يقام في ذكرى مولد الرسول (ص) في 12من شهر ربيع الأول من كل عام ، حيث تنشد المدائح النبوية وتردد الأدعية والابتهالات الدينية، كما تقام موالد مماثلة  في مدخل رجب أو ينذرون القيام بها عند حدوث مرض لأحد أفراد الأسرة أو موت أو شفاء مريض، وكانوا يقيمون الموالد في يوم الجمعة تبركاً بهذا اليوم ويرددون فيه الأدعية والتراتيل والأناشيد الدينية.
إن الوفاء والعرفان بالجميل من القيم الإنسانية التي غرسها ورسخها الإسلام في نفوسنا, ومن صور الوفاء ما جاء في رسالة من المهجر الهندي بطلب التقدير والاحترام لمهاجر مسن عاد وزوجته إلى يافع نظير ما قدمه من إحسان في التعامل مع المهاجرين الوافدين حينها حيث لم يبخل بمساعدتهم وتقديم العون لهم وعمل معهم هو وزجته ما لم يعمله أب أو أم, باعترافهم ولا يستطيعون أن يجازوه بالمثل, ويطلبون من إخوانهم أن لا يقصرون معه بحال في يافع وكذا يسألون هم وجيرانهم الهنود عن أخباره هو وزجته( ).
*********
من البحث المقدم إلى ندوة (ظاهرة الهجرة اليافعية عبر التاريخ) التي نظمها مركز عدن للدراسات  والبحوث التاريخية والنشر يوم 24سبتمبر2019م في كلية التربية يافع.
يتبع غداً
أخبار ذات صله