fbpx
بابل تعود إلى قائمة التراث العالمي التي أخرجها منها اللصوص
شارك الخبر

يافع نيوز – متابعات:

من جديد تعود بابل إلى واجهة الإعلام الثقافي العالمي بعد موافقة لجنة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) على إدراجها ضمن لائحة التراث العالمي، بعدما كانت مدرجة سابقا قبل أن تحذفها المنظمة في أواخر ثمانينات القرن الماضي بسبب “أعمال” النظام السابق في تدخله بتغيير بعض معالم المدينة التاريخية من حفريات وإضافات وبناء قصر شاهق يحمل اسم الرئيس، ولا يزال هذا القصر موجودا على تل كبير وسط المدينة التاريخية.

وقد وجدت اليونسكو أنه من الضروري للأثر التاريخي أن يبقى بكرا وشاخصا من دون تدخلات حكومية ورئاسية غير مناسبة، بما يعني أن الإحساس بقيمة الأثر التاريخي يتطلب وعيا مركّبا، تختمر فيه معطيات ثقافية واجتماعية وجمالية وتاريخية ونفسية في استقبال أهمية أي أثر من هذا القبيل، لاسيما الأثر الشاخص الذي يلخّص قصة حضارة وواقع مدينة لها من العمق التاريخي ما يؤهلها لأن تبقى في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، وذاكرة الكتابة الإنسانية في أي مكان. كما وصلت وليس لتمجيد شخصي متأخر زمنيا عن زمن بابل بكثير.

التشويه الخطير

مدينة بابل إمبراطورية واسعة في الذاكرة العالمية ولها مثل هذه الشروط والمعطيات في أن تبقى خالدة إلى عصور تالية، وتقدّم نفسها على أنها مدينة العلم والثقافة والفنون والتشريع والحكمة والآلهة والمعابد، وهي مدينة حمورابي موحد منطقة بلاد النهرين وصاحب الشريعة القانونية المعروفة بـ”شريعة حمورابي”، ومدينة نبوخذ نصّر الكلداني العظيم أقوى الملوك الذين حكموا بابل الذي أسقط أورشليم مرتين في (597 ق.م) و( 587 ق.م) وهو الذي بنى الجنائن الأسطورية المعلقة وبوابة عشتار الباقية حتى اليوم. فلا مفر من ذكر هذين القائدين اللذين أوجدا بابل الحضارة والعلم والثقافة والفنون والقوانين.

بابل المدينة الأشهر في التاريخ العراقي القديم؛ بتراثها الثقافي والإنساني والحضاري، بجنائنها الأسطورية التي حفلت بها كتب التاريخ والرحلات، بأديانها وفنونها وعمرانها وثقافتها، هي أكثر المدن التاريخية التي كتب المؤرخون عنها والقناصل الأجانب والرحالة العابرون والسفراء المقيمون، لكن تعرضت عبر تاريخها إلى إهمال طويل شأنها شأن أكثر من عشرة آلاف موقع أثري في مدن عراقية مختلفة. ولم يبق منها من الشواخص سوى أسد بابل الذي عثر عليه عام 1776 من قبل بعثة ألمانية وهو رمز لقوة بابل. كما بقيت بوابة عشتار بقرميدها الأزرق ومثلها أسوار وجدران المدينة.

إعادة إدراج بابل على لائحة التراث العالمي من قبل اليونسكو تطرح سؤال نجاعة ذلك في ظل الظروف الصعبة
إعادة إدراج بابل على لائحة التراث العالمي من قبل اليونسكو تطرح سؤال نجاعة ذلك في ظل الظروف الصعبة

عدم موافقة اليونسكو السابقة على إدراج بابل ضمن لائحة التراث العالمي له ما يبرره على صعيد الحفاظ على الآثار العالمية الباقية، والموافقة الحالية لها ما يبررها أيضا، فاليونسكو ليست منظمة سياسية ولا موالية لهذا أو لذاك، لكن بابل الحالية التي زرناها قبل أيام ليست هي بابل القديمة التي نعرفها، فقد زحفت عليها العشوائيات بعد 2003 وأقيمت أكشاك وأبنية ومسارح وصالات وتمت سرقة الكثير من آثارها على المستويين: المحلي والعالمي.

المحلي بعد سقوط الدولة عندما انتشرت اللصوصية على نطاق واسع في البلاد، وتعرضت بابل إلى ذلك بشكل واضح مع المتحف العراقي ومراكز الفنون التشكيلية، والعالمي هو ما قام به جنود الاحتلال الأميركي مع الجنود البولنديين عندما أودعت هذه المدينة بعهدتهم لكنهم تركوا وراءهم نفايات كثيرة ومقابر أثرية لا حصر لها. وضاع الكثير من موجوداتها الأثرية المهمة.

ردود الفعل

يتوجب على الحكومة العراقية والمهتمين بهذا الشأن في وزارة الثقافة والسياحة والآثار أن يعيدوا بابل إلى قِدمها والخضوع لشروط اليونسكو، بما يعني إزالة كل “الجديد” والمستحدَث فيها لتبقى في تاريخيتها المعروفة.

وهذا أمر شاق نشك في تنفيذه، كما حصل مع “الأهوار” التي أدرجتها اليونسكو ضمن لائحة التراث العالمي كمحمية طبيعية بتاريخ 17 يوليو 2016 وهذه المسطحات المائية التي تقع على ثلاث محافظات جنوبية لم تشهد إقبالا عالميا عليها، ولم تستطع الحكومة العراقية أن تهيئ مستلزمات تطويرها بوصفها جاذبة سياحية لها عمق تاريخي وأسطوري، ولا نظن أن الحالة تستقيم بظرف سياسي وأمني وخدماتي غير مشجع على أن تكون الأهوار موردا سياحيا ومشروعا جماليا وثقافيا، بالرغم من طبيعتها الخلّاقة ماضيا وحاضرا. وربما ستزيلها اليونسكو من لائحتها بسبب الإهمال الحكومي وعدم الجدية في إنشاء تواصل حضاري بين الأجيال والموارد الإنسانية العالمية.

بابل إمبراطورية واسعة في الذاكرة العالمية
بابل إمبراطورية واسعة في الذاكرة العالمية

أما ردود الفعل المحلية على قرار اليونسكو فقد جاءت على طريقتين. الأولى طبيعية ومتوقعة من قبل النخبة الثقافية في استقبال هذه الموافقة اليونسكوية؛ والثانية لاذعة جدا من قبل الجماهير الشعبية، وهذا ما لخصه الكثير مما ورد في مواقع التواصل الاجتماعي من سخرية وتهكمات عندما رأى أصحابها، وهم في ضنك العيش وعدم استتباب الأمن، أن يتم إدراج المواطن العراقي على لائحة التراث العالمي كأقدم الصابرين المتحجرين على قيد الحياة! أو يتوجب وضع العراق كله تحت وصاية اليونسكو فربما تتحسن بعض أحواله! بإشارة إلى أنه لا توجد أي أهمية تُذكر لهذه الموافقة على الصعيد الواقعي – النفسي واليومي المضطرب. وهو إحساس اجتماعي بالقهر يكاد يكون عاما أكثر من كونه إحساسا فنيا وتاريخيا وجماليا بهذا الأثر المديني الكبير الذي تجاوز عمره الأربعة آلاف سنة.

ومثل هذه التعبيرات الساخرة لها مسبّبات كثيرة على مدار أكثر من عقد ونصف العقد، والسبب سياسي دائما.

ومن السياسي انسحب الأمر على الواقع الاجتماعي وبالتالي سيبدو أي إنجاز تاريخي مظهريا وثانويا قياسا بالمعاناة اليومية التي يواجهها المجتمع. لذلك تبدو خفة الدم هنا كترجمة لهول الآلام التي يحملها ومن ثم فإن مثل هذه الإنجازات تبدو خالية من عمقها التاريخي الذي تراه اليونسكو ولا يريد العامّة من الناس أن يراه.

أخبار ذات صله