fbpx
تقرير : ما الذي يجري في مالي
شارك الخبر

يافع نيوز – المركز العربي للدراسات

بعد 22 يوما من بداية التدخل العسكري الفرنسي في مالي، حل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في مدينة تومبكتو في شمال مالي في 2 شباط / فبراير 2013، في إعلان واضح عن نجاح القوات الفرنسية مدعومة بقوات الجيش المالي وقوات من دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا في تحقيق الهدف الرئيس لما أطلقت عليه فرنسا تسمية “عملية الهر الوحشي”، وهو استعادة السيطرة على المدن الرئيسة التي وقعت في قبضة المجموعات الإسلامية المتطرفة المتحالفة مع المتمردين الطوارق*. لكن الرئيس الفرنسي أكد في تصريحاته من باماكو التي أنهى فيها زيارته أن القوات الفرنسية باقية في مالي طالما كانت هناك حاجة لذلك، وأن الحرب لم تنته بطرد المجموعات الإسلامية المتطرفة خارج مدن شمال مالي.

لقد كان شمال مالي طوال عقود منطقة صراع مسلح تخوضه حركات طوارقية مالية متمردة ضد الحكومة المركزية في البلاد، على خلفية مطالب سياسية إثنية بلغت حدود المشروع الانفصالي، لكن الصراع تحول جذريا في عام 2012 بانخراط جماعات إسلامية مسلحة متطرفة فيه، ودخول فرنسا ومن ورائها القوى الغربية والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إكواس) إلى جانب الحكومة المالية مع بداية العام 2013 في حرب ضد هذه الجماعات الإسلامية التي سيطرت على شمال البلاد.

تحاول هذه الورقة فحص مسارات الأزمة في مالي والعوامل التي أثرت في تطوراتها، ودوافع التدخل العسكري الفرنسي، وتوقعات مآلات الوضع بعد استرجاع القوات الفرنسية والقوى المساندة لها مدن شمال مالي.

التمرد في شمال مالي

يعد عدم الاستقرار وحركات التمرد في الشمال سمة دائمة من سمات الوضع المالي. في حين تميزت الأوضاع السياسية بالصراع على السلطة على وقع الانقلابات والأنظمة الديكتاتورية مع اضطرابات اجتماعية ووضع اقتصادي هش، وزادت فترات الجفاف والقحط الممتدة من حدته، إذ تعد مالي من بين أفقر 20 دولة في العالم[1].

وظلت الخريطة الاقتصادية والاجتماعية لمالي على مر عقود الاستقلال ترسم خط فصل افتراضي بين جزأين متمايزين، شمال هو الأكثر تضررا من الجفاف والأقل تنمية تمثل تمبوكتو وغاو وكيدال أهم مدنه، وجنوب تقع فيه العاصمة باماكو وتتركز فيه الأنشطة الاقتصادية الأساسية في البلاد.

علاوة على التمايز الاقتصادي الاجتماعي ما بين إقليمي مالي، فإن هنالك أبعادًا أخرى يجب تناولها هنا كعوامل للأزمات المتتالية في مالي. فدولة مالي – البالغ عدد سكانها 14.5 مليون – شديدة التنوع من الناحية الإثنية[2]. وغني عن القول إنّ هذا التنوع الهجين ما هو إلا نتيجة للحدود التي وضعتها فرنسا لمستعمرة “السودان الفرنسي” (تشكلت في أغلبها من أراضي دولة مالي الحالية) ضمن تقسيم مستعمراتها الثماني في غرب أفريقيا في1895 والمعتمد على معايير الثروات الطبيعية التي تمتلكها كل مستعمرة وعلى أساس مدى السيطرة الفرنسية على مناطقها المختلفة، وليس على أساس التجانس بين سكان هذه المستعمرات.

قام الطوارق بحركات تمرد متكررة على امتداد العقود الخمسة لاستقلال مالي، وشهدت الفترة ما بين عام 1990 وعام 2009 أكبر عدد من محاولات التمرد. وغذّى عاملان رئيسيان عدم الاستقرار في دولة مالي، أولهما التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين إقليمي مالي الرئيسيين (الشمال والجنوب) وشعور سكان الشمال وفي مقدمتهم الطوارق بمحاباة إقليم الجنوب ببرامج التنمية على حساب الشمال، أو على الأقل فشل سياسات التنمية في الشمال على نحو أشد وضوحا من الجنوب. أما العامل الثاني، فهو التنوع الإثني وهيمنة إثنية واحدة على مقاليد الحكم منذ الاستقلال، وهو ما عزز الشعور بعدم الانتماء لدى الطوارق والأقليات الإثنية الأخرى في الشمال، التي أصبحت تنظر إلى الدولة كممثلة لمجموعة إثنية أو قبلية تهيمن على باقي الإثنيات والقبائل. فالدولة بالنسبة إليهم ليست سوى إثنية “البومبارا” المسيطرة على مؤسسات الحكم منذ استقلال البلاد في عام 1960[3]. ولم تفشل دولة مالي الحديثة في تحقيق التنمية الاقتصادية المتوازنة بين أقاليمها فحسب، بل فشلت فشلًا ذريعًا في دمج مواطنيها في إطار هوية جمعية واحدة أساسها المواطنة، تتجاوز حدود الانتماءات الإثنية والقبلية.

وانتهت محاولات التمرد الطوارقية في القرن الماضي والعشرية الأولى من القرن الحالي باتفاقيات سلام بين المتمرّدين الطوارق والحكومة المالية. وشهدت الفترة التي تلت آخر اتفاقية من هذا النوع في عام 2009 استقرارا نسبيا، حتى اندلاع تمرّد جديد في كانون الثاني / يناير 2012. ويختلف هذا التمرد عن التمردات السابقة في عدة وجوه أهمها:

أولاً : إن هذا التمرد هو محصلة تحالف بين حركات طوارقية وطنية ومجموعات إسلامية متطرفة من جنسيات مختلفة (مالية، ونيجيرية، وموريتانية، وجزائرية) نشطت في مناطق الطوارق واستطاعت استمالة بعض المجموعات الطوارقية طوارقي إلى برنامجها واستفادت من مخزون السلاح الذي وصل من كتائب طوارقية كانت من ضمن كتائب نظام القذافي قبل سقوطه. ولم يكن هذا التحالف وليد لحظة التمرد في 2012، فلقد نسجت المجموعات الإسلامية المسلحة والحركات الطوارقية الانفصالية علاقات اعتماد متبادل اقتصادية وأمنية ومنفعية خلال السنوات القليلة الماضية. وقد ساهم تحول طرأ على بعض قيادات وعناصر التمرد الطوارقي في تسهيل التحالف، إذ أصبحت جماعة “أنصار الدين” الطوارقية السلفية الجهادية إحدى أبرز الحركات المؤثرة في مناطق الطوارق[4].

ثانياً : إن جميع اتفاقات السلام التي عقدت بين الحكومة المركزية والحركات الطوارقية إلى ما قبل هذا التمرد، وكانت برعاية دول مجاورة وعلى رأسها الجزائر، قد استنفذت إمكانيات استمرارها لأنها لم تكن ضمن إطار عملية سياسية كاملة في مالي، ولم تنعكس إيجابيا على سكان شمال مالي. وخلال السنوات الأربع الماضية، لم تطرح أي مبادرات لاتفاقات بين طرفي الأزمة. بل لم يكن هنالك تنبه أو اهتمام من وسطاء اتفاقية سلام 2009 لمتابعة تطبيقها. ولذا، فإن محاولات الوساطة السلمية التي تجددت خلال عام 2012، سواء تلك التي قامت بها الجزائر أو تلك التي رعتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، جاءت متأخرة لأن الوضع على الأرض قد تغير لمصلحة حركة التمرد، إضافة إلى أن العناصر الفاعلة في حركة التمرد الجديدة كانت مختلفة عن الفاعلين في حركات التمرد السابقة، فالحركات الإسلامية المتطرفة وكذلك الجناح السلفي للمتمردين الطوارق (جماعة أنصار الدين) أصبحت أطرافًا فاعلة في التمرد، بل قادته غير معنية أو مهتمة بما يمكن أن تقدمه هذه التسوية لها أو لسكان شمال مالي. كما أن جهد دول الجوار للوصول إلى اتفاق تسوية لم يكن مجديًا على الإطلاق، إذ كان المستهدفون منها والمدعوون للحوار هم الحركات الوطنية الطوارقية التي لا تملك أن تغير شيئًا على أرض الواقع بعد أن طُردت من شمال مالي حين أصبح الإقليم تحت سيطرة الحركات الإسلامية المتطرفة.

ثالثاً : جرت حركة التمرد هذه في وقت كانت فيه الحكومات المالية في أضعف حالتها. ففي آذار / مارس 2012 خرجت تظاهرات منددة بالحكومة شارك فيها عناصر من الجيش. وفي 22 آذار / مارس أطاح انقلاب عسكري بالرئيس أمادو توماني توري. وأصبحت السمة الرئيسة للوضع في العاصمة المالية باماكو هي صراع على السلطة في ظل توازن قوى هش بين النخب السياسية المدنية والانقلابيين العسكريين الذين أمسكوا بزمام السلطة. ويذكر في هذا السياق أن لا خلاف جوهري بين هذين التيارين بشأن آلية التعامل مع الأزمة والموقف المؤيد للتدخل الفرنسي والاعتماد عليه.

تدخل فرنسي لتعزيز النفوذ

لم يكن تدخّل فرنسا العسكري في مالي مفاجئًا، إذ إن فرنسا كانت أكثر اللاعبين الدوليين والإقليميين انغماسا في الأزمة المالية منذ اندلاعها في عام 2012. وكانت صاحبة الدور الرئيس في نقل أزمة مالي لتناقش دوليًا وفي استصدار ثلاث قرارات من مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة[5]. وكان الجهد السياسي الفرنسي العامل المحرك لقيام المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إكواس” بإرسال قوات إلى مالي في مهمة الحفاظ على وحدة التراب المالي. اعتمدت إستراتيجية فرنسا في التعاطي مع الأزمة في مالي أساسًا على تدويل الأزمة، وحشد الدعم الإقليمي والدولي لمساندة الحكومة المركزية في مالي، إضافة إلى اعتمادها على الجهد العسكري لبلدان غرب أفريقيا مع دعمها لوجستيًا، وماليًا، واستشاريًا. وعلى الرغم من تعدد الأهداف وتداخل المصالح الإقليمية بين بلدان غرب أفريقيا ومالي، فإن أحد العوامل المحفزة لتدخل قوات مجموعة دول غرب أفريقيا كان لتحقيق الرؤية والأهداف الفرنسية إزاء الأزمة. بل يمكن القول إن فرنسا كانت لتكتفي بالتدخل الأفريقي العسكري لو أن الأخير كان قادرًا على حسم المعركة، أي أن فرنسا كانت ستكون راضية أن تخوض قوات أخرى معركة بالوكالة عنها فتحقق أهدافها ورؤيتها من الأزمة المالية من دون أن تتورط قواتها في القتال بشكل مباشر.

إزاء ضآلة احتمال تحقيق التدخل العسكري الأفريقي بالوكالة عن فرنسا أهدافه، خاصة مع إحكام المجموعات الإسلامية سيطرتها على شمال مالي وتحضيرها للتوجه إلى الجنوب واستهداف العاصمة، تحوّل الموقف الفرنسي من اللاعب الرئيس باستثمار أداوت غير مباشرة متاحه له إلى اللاعب المباشر وباستخدام أداته العسكرية.

جاء التدخل العسكري المباشر لفرنسا[6] في أعقاب إعلان حالة الطوارئ في مالي وبناءً على طلب رسمي من الحكومة المالية؛ الأمر الذي ساهم في أن تبرّر فرنسا تدخلها بأنه يقع ضمن إطار مساندة دولة صديقة وليس انتقاصًا من سيادتها، وبهدف طرد المجموعات الإسلامية المتطرفة، أي أن حرب فرنسا أصبحت تقع ضمن “الحرب على الإرهاب” والتي أصبحت تعبيرًا هلاميًّا وغير محدد لكنه مبرر ومقبول على الصعيد الدولي في ظل استهداف حركات في بلدان عدة، وبغض النظر عما تعنيه من اختراق لسيادة تلك البلدان، بل من دون أن تثير أسئلة أو أزمات في منظومة العلاقات الدولية.

بعيدًا عما تروجه فرنسا من أسباب لتدخلها العسكري، هنالك مجموعة من العوامل تفسّر مجتمعة هذا الانغماس الفرنسي في الشأن المالي بصفة عامة، على رأس هذه العوامل أن فرنسا لم تكن على الإطلاق بلدًا غائبًا عن المشهد السياسي في منطقة غرب أفريقيا بصفة عامة وعن المشهد السياسي في مالي بصفة خاصة. فعلى صعيد مالي، كانت فرنسا لاعبًا أساسيًا وطوال العقود الماضية في دعم أنظمة سياسية هنالك أحيانًا، وفي دعم معارضيها في أحيان أخرى. وغني عن القول إن فرنسا تنظر إلى منطقة غرب أفريقيا كمنطقة نفوذ جيوسياسي تمارس التأثير فيها من خلال العلاقات مع أنظمة تلك البلدان أو مع حركات سياسية محددة فيها، وذلك في إطار ما اصطلح البعض على تسميته سياسة “فرنسا-أفريقياFrançafrique” “[7]. فتدخّل فرنسا العسكري في مالي ليس الأول لفرنسا في أفريقيا، فمنذ عام 1960 تدخلت فرنسا أكثر من أربعين مرة في نزاعات أفريقية وأزمات داخلية في بلدان أفريقية كانت مستعمرات لها. وتشير مراجعة سريعة لمسوّغات تدخلات فرنسا العسكرية إلى أنه لا يمكن إجمال هذه المسوغات في إطار واحد، فأحيانًا كانت تتدخل لمصلحة أنظمة سلطوية أو ديكتاتورية، وأحيانًا أخرى لمصلحة تحولات ديمقراطية، ومرات لمساندة جانب سياسي على حساب آخر. وكانت مصالح فرنسا دائمًا الدافع الثابت لتدخلاتها العسكرية المتغيّرة المسوّغات في أفريقيا.

تمثل المصالح الاقتصادية لفرنسا في منطقة الغرب الأفريقي عاملًا تفسيريًّا آخر لاستراتيجيتها في هذا الإقليم وكذلك في تعاملها الأخير مع أزمة مالي. وعلى الرغم من محدودية مصالح فرنسا الاقتصادية المباشرة في مالي بحكم محدودية استثمارات فرنسا فيها مقارنة مع بلدان أخرى، إلا أن مالي قطعة مهمة في إطار إقليم تنشط فيه فرنسا اقتصاديًا. وعليه، فإن تهديد استقرارها يهدد مصالح فرنسا الاقتصادية في بلدان مجاورة مثل : النيجر، والسنغال، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار[8]. وتمثل مالي أهمية بالغة بالنسبة إلى فرنسا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مناجم اليورانيوم النَيْجَرية التي توفر احتياجات فرنسا من المحطات الفرنسية النووية، التي تقع مباشرة على حدود النيجر مع مالي[9].

كما يجب أن يفهم التدخل في مالي في سياق سياسة هجومية في أفريقيا تتبعها فرنسا في السنوات الأخيرة في إطار تنافسها مع الدول الكبرى على النفوذ هناك. فالنفوذ الفرنسي كان عرضة لخطر الانحسار خلال سنوات إدارة “بوش” 2000 – 2008 التي انتهجت سياسة تدخلية أميركية واسعة المدى ومتعددة الأهداف في أفريقيا، منها السعي لتنويع مصادر الطاقة للاقتصاد الأميركي، وحماية خطوط نقل الطاقة التي تمر عبر الممرات البحرية المجاورة لقارة أفريقيا (قناة السويس، خليج عدن، ورأس الرجاء الصالح)، وكذا لتعزيز نفوذها السياسي والعسكري. وتعدّدت الوسائل الأميركية لتنفيذ هذه السياسة، فبعضها كان من خلال مساعدات اقتصادية أو تنسيق أمني، وبعضها كان من خلال مشاريع إقامة قواعد عسكرية[10]. وقد تعاملت فرنسا مع هذه السياسة الأميركية بمزيج من مواقف دفاعية وتسليم بالأمر الواقع وسياسة الانتظار، ثم عادت لتستغل التغيير الذي جاءت به سياسة إدارة أوباما الأقل توسعية في أفريقيا والأقرب للانكماشية، وتبنت سياسة هجومية ذات طبيعة عسكرية من أجل تثبيت نفوذها ومراكز قوتها في القارة. ويتخذ هذا التنافس الأمني أهمية قصوى في ضوء حقيقة أن التنافس بين القوى الكبرى على النفوذ اقتصاديًا راح يحسم وبشكل جلي لمصلحة الصين التي أصبحت منذ عام 2009 الشريك التجاري الأكبر لأفريقيا. وإذا كان التدخل في مالي نموذجًا، فإن هذه السياسة الفرنسية لا يعترضها أي نقد أو معارضة من الشارع أو النخب الفرنسية[11]. فالمتتبع لتصريحات السياسيين الفرنسيين وتعليقات الصحافة الفرنسية يستنتج أن هذه السياسة التدخلية في أفريقيا تكاد تحظى بالإجماع.

تعكس التدخلات العسكرية الفرنسية المباشرة في أفريقيا وتدخلها الأخير في مالي – بغض النظر عن تبريرات فرنسا وحججها – أن فرنسا تعتمد على ثلاث إستراتيجيات متداخلة ومركبة في إطار حفاظها على نفوذها في أفريقيا وتنافسها مع دول كبرى أخرى، أولاها العلاقات التاريخية البنيوية بين فرنسا وبعض الأنظمة والحركات السياسية وبعض النخب الاقتصادية والثقافية في تلك البلدان، وثانيتها استثمار العلاقات الاقتصادية القائمة أصلًا وتوسيعها وتعميقها، وثالثتها الاستراتيجية العسكرية والأمنية التي قد تتطور في حال الأزمات إلى تدخل عسكري مباشر.

إذا كانت فرنسا قد لجأت إلى التدخل العسكري في مالي لتحقيق رؤيتها لحلّ الأزمة في إطار المحافظة على نفوذها ومصالحها، فالملفت للانتباه هو عدم وجود ممانعة دولية أو إقليمية لهذا التدخل. فبالنظر إلى غياب الحدّ الأدنى من التفاهم بين الدول الكبرى بشأن التدخل في أزمات مختلفة في العالم، كان من المتوقع أن يثير تدخل فرنسا في مالي نوعًا من المعارضة أو على الأقل التردّد لدى أقطاب المجتمع الدولي أو الإقليمي. وتشير مراجعة مواقف الدول الكبرى إلى أن العكس هو الصحيح، فقد حظى هذا التدخل بدعم المجتمع الدولي بل إن روسيا عرضت تقديم دعم عسكري للتدخل الفرنسي[12]. إن نجاح فرنسا في كسب موافقة المجتمع الدولي يترجم اليوم في مؤتمر دولي حول مالي واضح الأجندة، ناقش إمكانية تحويل قوات المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا لتصبح قوة حفظ سلام أممية[13].

العملية السياسية في مالي ومصير أمن المنطقة

حقّق التدخل العسكري الفرنسي في مالي اثنين على الأقل من أهدافه المعلنة: وقف تقدم المجموعات الإسلامية المتطرفة نحو جنوب البلاد وتهديد العاصمة بماكو، وتحرير معظم المدن الرئيسة في الشمال مما دفع بهذه المجموعات للجوء إلى مناطقة جبلية وعرة في الشمال الشرقي لمالي على الحدود الجزائرية. وقد تسعى هذه المجموعات إلى تنفيذ هجمات في إطار حرب عصابات ضد القوات الفرنسية والقوات المساندة لها، علاوةً على إمكانية تنفيذ عمليات ضد مراكز حساسة (في صناعة النفط والغاز والتعدين) في دول الجوار الجغرافي للساحل الأفريقي، على نموذج عملية عين أمناس الأخيرة في الجزائر.

وعلى الرغم من تصريحات الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بأن فرنسا لن تغرق في “مستنقع” جديد في مالي، بعد أن سحبت قواتها من المستنقع الأفغاني، نظرا لأنها تحظى بدعم الشعب المالي والاتحاد الأوربي والمجتمع الدولي، إلا أنّ نجاح القواّت الفرنسية والأفريقية في إعادة الاستقرار في مالي يتوقف على عاملين اثنين: أولهما مصير التحالف بين هذه المجموعات والحركات الطوارقية المتمردة؛ والعامل الثاني إيجاد حل شامل وعادل لمطالب الطوارق، من خلال عملية سياسية شاملة في مالي، تسمح ببناء نظام ديمقراطي يستوعب جميع أطياف المجتمع المالي وخاصةً الطوارق الذين يعانون من التهميش والإقصاء.

نلاحظ فيما يخص العامل الأول، أنّ “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” الطوارقية سارعت إلى اقتراح تقديم خدماتها للقوات الفرنسية والأفريقية من أجل ملاحقة أعضاء الجماعات الإسلامية المتطرفة. ولقد ألقت القبض بالفعل، مؤخرًا على عنصرين بارزين من “حركة أنصار الدين” الطوارقية السلفية و”حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا” المرتبطة بالقاعدة، قرب الحدود مع الجزائر وسلمتهم للقوات الفرنسية. كما انشق عدد كبير من قيادات “حركة أنصار الدين” الذين شجبوا تحالف الحركة مع المنظمات المتطرفة المرتبطة بالقاعدة، وأسسوا تنظيمًا جديدًا تحت اسم “حركة أزواد الإسلامية”، في محاولة لتبرئة أنفسهم من كل ما هو مرتبط بالقاعدة.

أماّ فيما يخص العامل الثاني، فإنّه من المبكر الحكم على نوايا الحكومة المالية وعلى قدرتها على بناء علاقة جديدة مع الطوارق، ولكن فشل جميع المحولات السابقة لإيجاد حل سياسي عادل لهذه المعضلة منذ استقلال مالي عن فرنسا في الستينيات من القرن الماضي إلى حد الآن، لا يبشر بالخير، وخاصةً في ضوء الممارسات الانتقامية والتجاوزات التي يتعرض لها الطوارق والعرب على أيدي القوات المالية في عملياتها العسكرية لإعادة السيطرة على شمال البلاد. والجدير بالذكر أنّ الحركة الوطنية لتحرير أزواد انتهزت فرصة التدخل العسكري الفرنسي من أجل العودة إلى الميدان بقوة في منطقة كيدال، التي تعدّ معقلها التقليدي، وفرض وجودها كقوة فعلية في شمال شرق مالي، بعد أن طردتها الحركات الإسلامية المتطرفة. ولا يبدو أنّ الحركة الوطنية لتحرير أزواد قد تخلّت عن مطلبها بالاستقلال، وقد عبرّت عن هذا التوجه من خلال رفضها دخول قوات مالية إلى مدينة كيدال إلى جانب القوات الفرنسية والأفريقية. ولهذه الأسباب، فالمؤشرات الأولية عن العلاقة ما بين الحكومة المركزية في بماكو ومجموعات الطوارق في الشمال الشرقي للبلاد لا تدل على نهاية الصراع بينهما. فما تزال الفجوة كبيرة وانعدام الثقة متجذّرًا بين الطرفين. وعليه، فإنه من غير المستبعد أن ينفجر الوضع في المستقبل ويفتح جبهات جديدة في دول الجوار، علمًا أن المسألة الطوارقية ليست محصورة في مالي فقط، فمناطق انتشار الطوارق تتوزع بين نيجر وليبيا والجزائر. وتبقى مسالة تحالف الطوارق مع المجموعات المسلحة المتطرفة أو غيرها من أطراف وقوى خارجية مفتوحة لحسابات المراحل القادمة.

وتبرز أيضا أهمية الدور الذي يجب أن تقوم به دول المغرب العربي في إنهاء الوضع الخطير القائم عند حدودها الجنوبية، وأن تبدأ بالاعتراف بدورها السلبي في هذه الأزمة نظرًا للصراعات والتنافس فيما بينها بدلًا من توحيد جهودها من أجل بلورة سياسة أمنية تكون جزءًا من سياسة لمنطقة المغرب العربي نحو الجنوب الأفريقي في إطار مفهوم الأمن القومي العربي. لقد كان من الأجدر أن يكون لدول المغرب العربي، والجزائر خاصةً، الدور الريادي في حل أزمة مالي، خاصةً أنّ الجزائر قد بادرت في السابق بإنشاء القيادة العسكرية المشتركة بين دول الساحل، ومقرها تمنراست في الجزائر، من أجل منع أيّ تدخل خارجي في المنطقة. ومن الغريب أنّ هذه المؤسسة لم تفعّل ولم تقم بالدور المنوط بها. كما لا يجب أن ننسى أنّ الأزمة الحالية في شمال مالي تجد جذورها، علاوةً على العامل الداخلي في مالي، في عوامل إقليمية مرتبطة بالوضع السياسي في دول المغرب العربي، إذ إنّ هذه المجموعات الإسلامية المتطرفة الناشطة في منطقة الساحل هي من إفرازات الصراع السياسي في الجزائر والحرب الأهلية فيها، وتداعيات التدخل الخارجي أثناء الثورة الليبية وانتشار السلاح في المنطقة الذي سمح بحسم المعارك لصالح المتمرّدين والجماعات الإسلامية المتطرفة في شمال مالي في بداية عام 2012. على دول المغرب العربي أن تمارس دورها في الدفع نحو عملية سياسية في مالي وإطلاق مشاريع التنمية فيه، على أن تكون هذه المساهمة في إطار سياسة أمن قومي عربي شامل لا يتوقف عند الحدود الجغرافية لهذه الدول.

قد تنجح العملية العسكرية التي تقودها فرنسا، على المدى القصير، في طرد وملاحقة المجموعات الإسلامية المتطرفة نظرًا لطابعها ولعدم تمتعها بقاعدة شعبية محلية في مالي، عكس حركة طالبان في أفغانستان مثلا المتجذرة في الوسط القبلي الباشتوني؛ ولكن، وعلى المدى البعيد، فإن عودة الاستقرار إلى مالي ومنطقة الساحل يتوقف على مدى جدية وشمولية العملية السياسية ووضع الأسس لسياسة تنموية شاملة بدعم إقليمي ودولي.

أما عن فرنسا، فإنه يمكن اعتبار تدخلها العسكري في مالي ضمن إجماع فرنسي داخلي، دلالة على أن سياسة “فرنسا المهيمنة” في أفريقيا لا تزال حاضرة خلافا لما أعلنه الرئيس هولاند بأن سياسة “فرنسا- أفريقيا” ذات الأبعاد الاستعمارية هي من الماضي[14].


* تشيع كتابة الاسم “طوارق” في عدد من الدول العربية، ويكتب في أخرى “توارق”، وبالبحث في أصل الكلمة، تشير المراجع إلى أنها التسمية التي أطلقها العرب على شعب أمازيغ الصحراء الكبرى من دون أن تحدد هذه المراجع مصدر التسمية بشكل قطعي، إذ هناك روايتان منتشرتان، إحداهما تقول أن التسمية تحريف لعبارة “توارك” – أي المتروكون أو التاركون – باللغة العربية، والثانية تشير إلى ارتباط التسمية بمدينة “تارقة” (تعني باللغة الأمازيغية: الساقية) في منطقة “فزان” في جنوب ليبيا التي يُعتقد أن الطوارق ينحدرون منها.. ويجدر هنا أن نذكر أن “الطوارق” يسمون أنفسهم “كَلْ تاماشاك” (أو “من يتكلمون “تماشاك” وهي النطق الطوارقي لاسم لغة “تمازيغت” أي الأمازيغية).

[1] “The Poorest Countries in the World”, Global Finance, viewed 20/1/2013

http://www.gfmag.com/tools/global-database/economic-data/12147-the-poorest-countries-in-the-world.html#axzz2J0R95G6Q

يعيش نحو نصف عدد السكان تحت عتبة الفقر (أقل من 1.5 دولار في اليوم) ويبلغ دخل الفرد السنوي من الناتج الإجمالي المحلي نحو 1117 دولار (المرتبة 213 عالميا).

[2] مع اختلاف التقديرات من مرجع إلى آخر، إلا أن الثابت أن أكبر المجموعات الإثنية في مالي عددا هم “الماندينغ” (نحو النصف. وتضم قبائل وإثنيات فرعية مثل “البامبارا” و”المالنكي” و”السنونكيين”) والتي تحتكر السلطة السياسية منذ الاستقلال، ويليهم “الفولان”، وهناك عدد كبير آخر من الأعراق مثل “السونغاي” و”الونينكيين” و”البوبو” و”المينيوناكا”، في حين تجمع التقديرات أن الطوارق الأمازيغ مضافًا إليهم العرب ليسوا سوى أقلية (10% على أكثر تقدير) مثل الكثير من الأقليات في مالي.

[3] André Bourgeot, “Identité Touarègue: De l’Aristocratie à la Révolution”, Études rurales, No. 120, (Oct. – Dec., 1990), p. 146.

[4] “أنصار الدين” حركة انفصالية طوارقية ذات نهج ديني سلفي، أسسها إياد آغ غالي وهو من أبناء أسر القيادات القبلية التاريخية لقبائل الإيفوغاس الطوارقية، وكان قائد التمرد الطوارقي في مالي في عام 1990، ولم يعرف عنه حينها أي توجه إسلامي بل كان أقرب إلى الفكر اليساري القومي، وشارك في حركات التمرد سنوات 1995 و1996 و2006. وبعد اتفاقية مع الحكومة المالية أنهت التمرد، عُين آغ غالي قنصلا لمالي في جدة في السعودية، وعاد إلى بلاده بعد ذلك وجمع حوله الكثير من الأنصار من قبيلته ومن أبناء الطوارق ممن تشبعوا بالفكر الجهادي بعد أن أعلن تبنيه النهج السلفي.

[5] القرار رقم 2056 بشأن تعزيز الأمن في غرب أفريقيا، وشمل عدة فقرات عن الوضع في مالي (5 تموز / يوليو 2012)، والقرار رقم 2071 بشأن مالي (12 تشرين الأول / أكتوبر 2012)، والقرار رقم 2085 بشأن مالي (20 كانون الأول / ديسمبر 2012).

[6] نفذت الطائرات الفرنسية أولى عمليات قصف ضد المجموعات الإسلامية المتطرفة التي كانت بصدد الزحف نحو جنوب مالي في 11 كانون الثاني / يناير 2013، وأرسلت بعد ذلك قوات برية تعدادها 2500 جندي شاركت معها وحدات الجيش المالي وقوات من دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا وصل عدديها إلى 3000 جندي.

[7] أطلق رئيس كوت ديفوار، فليكس هوفوي-بوانيي في عام 1955 تعبير “فرنسا-أفريقيا” في انتقاده رغبة بعض القادة الأفارقة في الحفاظ على نوع متميز من العلاقات بين بلدانهم والمستعمر السابق فرنسا أثناء نقاش كان قائما بشأن مقترح فرنسا لمستعمراتها الأفريقية (جنوب الصحراء) بالاستفتاء على الاستقلال أو الحصول على الحكم الذاتي ضمن السيادة الفرنسية. واعتمد فرنسوا غزافييه فيرشاف هذا المصطلح في كتاب له صدر في عام 1998 لتوصيف السياسة المريبة لفرنسا في أفريقيا والقائمة على دعم الدكتاتوريات والاستعانة بالمرتزقة لتنفيذ الانقلابات والاغتيالات السياسية. انظر:

 François-Xavier Verschave, La Françafrique : Le Plus Long Scandale de la République (Paris : Éditions Stock, 1998).

[8] على الرغم من أن البعض يدّعي أن مالي قد تكون لها احتياطيات كبيرة من النفط والغاز في ظل تواتر معلومات عن نتائج جيدة لعمليات الاستكشاف التي تقوم بها شركات توتال الفرنسية وإيني الإيطالية وسونطراك الجزائرية.

انظر:

Tarik Ramadan, “Le Mali, la France et les Extrémistes”, Tarik Ramdan’s blog, 17/1/2013, viewed 6/2/2013 http://www.tariqramadan.com/spip.php?article12693&lang=fr

[9] توفر هذه المناجم 50% من حاجات محطات فرنسا النووية.

[10] بدأ هذا التوجه منذ بداية الألفية الجديدة ومع إقرار الكونغرس “قانون التنمية والفرص في أفريقيا” (African Growth and Opportunity Act) سنة 2000، وتبعه بعد ذلك وضع إستراتيجية أميركية تجاه أفريقيا في أعقاب هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001للولايات المتحدة الأميركية قاعدة عسكرية كبيرة في جيبوتي (يوجد فيها نحو 2000 جندي)، وحصلت على موافقة العديد من الدول الأفريقية كي تستخدم القوات الأميركية موانئها ومطاراتها.

انظر تصريحات قائد القوات الأميركية في أفريقيا “أفريكوم” الجنرال كارتر هام عن توسع الوجود الأميركي في أفريقيا:

Luis Ramirez, “US Military Expands Presence in Africa”, Voice Of America, 25/6/2012 viewed 20/1/2013 http://www.voanews.com/content/us-military-africa/1249035.html

[11] أجمعت القوى والنخب السياسية الفرنسية بيمينها ويسارها على الوقوف جبهة واحدة وراء الرئيس فرنسوا هولاند في القرار الذي اتخذه بإرسال القوات الفرنسية إلى مالي، ولم يسمع صوت معارض لهذا التدخل باستثناء صوت النائب في الجمعية الوطنية الفرنسية وأحد أقطاب تيار الأيكولوجيين، نوال مامير، الذي اعتبر أن التدخل هو استمرار لسياسة فرنسا-أفريقيا ذات الخلفية الاستعمارية.

يمكن العودة إلى تصريحات نوال مامير لإذاعة “فرانس بلو” على الرابط:

http://www.francebleu.fr/politique/noel-mamere-contre-l-intervention-au-mali-255347

[12] Pierre Avril, “Mali : Moscou Promet une Aide Militaire à la France”, Le Figaro (France), 18/1/2013, viewed 25/1/2013 http://www.lefigaro.fr/international/mali-moscou-promet-une-aide-militaire-a-la-france.php.

[13] “Support grows for U.N. force in Mali”, Reuters, 5/2/2013, viewed 7/2/2013 http://www.reuters.com/article/2013/02/05/us-mali-talks-idUSBRE91414U20130205

[14] أعلن فرنسوا هولاند في خطاب ألقاه خلال زيارته إلى السينغال في تشرين الأول / أكتوبر 2012 بأن زمن سياسة “فرنسا المهيمنة على القارة الأفريقية” (فرنسا-أفريقيا) قد ولّ.

“François Hollande à Dakar : “Le temps de la Françafrique est révolu”, Le Monde, 12/10/2012, viewed 20/1/2013 “http://www.lemonde.fr/afrique/article/2012/10/12/hollande-exprime-sa-grande-confiance-dans-le-senegal-et-l-afrique_1774886_3212.html

أخبار ذات صله