fbpx
يحيى عمر اليافعي.. قناص الظباء – بقلم : شوق عبدالله
شارك الخبر

 

 

نحن بصدد يحيى عمر، أحد فطاحل الشعراء العرب في الشعر الحميني، أشهر الشعراء الحمينيين في جنوب الجزيرة العربية. وعمود من أعمدة الفن العربي. وهو من قبيلة يـافع العريقة، التي عرف أهلها بالفصاحة والبلاغة، والرصانة. وهو ملقب بـ(أبو معجب) ولد في منطقة ( مشألة ) حيد (المنيفي) في يافع. طفولته كـانت كـالعلقم ، فهو تجرع فيها مرارة الفقدان، وأي فقدان عاشه؟ فقدان الأم ويتم الأم يعتبر يتمان! فسكن محل الفقدان فَظَاظة خالة لا ترحم.

قال شاعرنا :

يا أح من خالتي خلت فؤادي موجع**

يا ربنا نسألك تنزل لها مـوت أفجــع

هاجر الي حضرموت وهو في يبلغ من العمر واحد وعشرين ربيعًا، في ربيع أول من عام 1118 هـ . سكن في قرية ( السحيل ) شرق سيئون، وتزوج هناك. لم تتوقف مسيرة الصعوبات في حياته بل أكتملت بالهجرة. هاجر كالطيور المهاجرة إلي بلاد الهند، بلاد العجائب وكما قال المحضار عنهـا:

الهند فيها الهناء الهند فيها المُنى.

لكن الهناء لم يكن في أجمل حُلَّة له كالبدر دائمًا، بل كان تارة كالهلال، وتارة كالمحاق، كيف يكتمل هناء المرء بعيدًا عن ديارة وأهله؟

أحبّ أبو معجب الهند كثيرًا وقال : ليت الهند في يافع.

أحبها لدرجة أنه تمنى أن بلاد العجائب تكون في بلاد الجمال. قدم مسيرة حافلة بالإنجازات، التي تحتاج إلي أوراق كثيرة ومداد لا ينفذ للكتابة عنها. أشتهرت كلماته وألحانه أشتهارًا يليق بها وبكاتبها ولقب بألقاب عدة ومنها : عازف القيتار، والمقنبس.

حملت الرياح أغانيه إلي أراضي شتى، وحلَّ الصدى في فيافي الصحراء، وبحور عدة فانسجمت مياة البحر، وتراقصت الأسماك مع عذوبة الكلمات.ومرت على بساتين الحُب، وخطفت رحيق الزهور، ورمتها علـى أراضي جافه لا تُثمر، لكـن الثَمر أَيْنع من خصوبـة الكلمات لا من خصوبـة التربـة، ونمى الزهر في أراضي حاقلة، وخفت نيران الأشواق.

ذاع صيته عند ثقافات عدة، وأجناس مختلفة. نالت أشعاره على أعجاب الكثير لأنها خليط من العربية والحميرية، والأمهرية، والأردية، والسواحلية؛ فكانت كلماته تتردد في مطارح عدة. أهمها في السفر، فكان البحارة المتنقلين بين أقطار شبة الجريزة العربية إلي سواحل أفريقيا، وبلاد الشام يواسون أنفسهم بكـلماته، ومواويل تخفف عنهم أثقال الشوق، والمشقة وتطبطب على تدفّق الأشواق إلي حنايا الوطن.

 

تراودني الذكرى لأول مرة أعجبت بأحدى قصائدة، التي جذبتني واستولت على تفكيري، خصوصًا في ذاك الوقت.. عندما تلبس السماء عباءتها السوداء.

قصـة روتها لي صديقة جدتي، بينما كنت طفلة ألعب مع حفيدتها، فأصـابنا الملل. ذهبنا نجلس بجوار جدتينا -رحمة الله عليهن – أجلستنا الجدة نورة أمامها، كما يفعل جميع الجدات لأحفادهن. وروت قصة لم تغب عن مخيلتي يومًا، بل نقشت في عقلي كما ينقش على الحجر. كبرت وكبر أعجابي بها يومًا بعد يوم؛ سردتها بقصيدة وشرحٍ مبسط، وما أجمل سرد كبار السن! أنفطر قلبـيّ من جمال الصدف في الحكاية، كبرت وكبر شغف المعرفة أكثر. بحثت عن صحة القصة ووجدتهـا صحيحة وليست بخزعبلات للتسلية فقط! ، راقت لي أكثر فهي تعد بالنسبة لي من ألطف القصائد.

هنا من حيث تجاذبت القلوب، وبرقة العيون بريق محبّ، جنت العقول بجنون ما بين المقبول واللامقبول. عندما رأى الشاعر المخضرم يحيى بن عمر فتاة كالبدر في حسنه وبهاءه، وطلته التي جبرًا تتأملها. مع أنه في كل شهرًا يطل، أَلَا أنه يأسر، في كل مرة تتشاغف العيون لرؤيته. صبية فيها من الجمال اليوسفي، أسرت ناظرية من الوهلة الأولى، تبلد أمامها، فجمال المرأة كالخمر يذهب بالعقول .

قال يحيى بن عمر :

ونبدأ بمن انشأ سحايب ومزنةً **

وسقوا به أرض الله من جملة الطشوش

وثم قال أبو معجب أنـا إمسيت ساهــــرًا**

وذي شفته البارح نجش عليّ نجـــوش

ونجّش علـى المضنون ذي ينسع السّين**

وذي يرقم أوجــانه في الوشم والنّقوش

علىٰ شَاطئ الوَادي لقيّتُ صبيّةً**

وَ قُلنا لها ياذّي الصبيَة منيّنْ أبُوش ؟

ولي ظن لا أبا ولا شي لش أخوتا **

ولا لش من الجيران ما كـان سيبوش

 

أهتاظت الحسنـاء من كلماته وردت عليه بقولها:

وقالت سخف عقلك وخلاك وآمجن **

وحسن كلامك طيب الحب به ربوش

أني ذي ترى عينك بجنة ونعمة **

وأبـي من رجـال الحرب هزّامة الجيوش

فسبعة بنـي عمي وسبعة لـي أخوتا **

وسبعون في سبعون من جملة الحبـوش

ولو كنت متولع فـي بك شجاعتا **

فقم قطع القرضان قم حشهن حشوش

ولكن بريك أكسر وشيبه وعاجزا **

وكنك تبا الحروى بأموالها تروش

أستخفت بعقله،وكلمـاته التي لم تستحسنها، تباهت عليه بترفها، وبالنعيم التي هي فيه مُنذ الصغر. تفاخرت بأهلها، ونسبها الرفيع، وتوعدته بأبيها الذي وصفته بهزّامة الجيوش، واكملت في تهديدها بذكر أعداد اخوتها، وأبناء عمومتها لإخافته. استهانت بضعفه، ووهن عظامه، والمشيب الذي ملء رأسه، والعجز الظاهر على جسده.

 

رد شاعرنا وقال :

فلا اكسر ولا أنا اعور وشيبه وعاجزا **

وأنا عادنا بطمر من القاع على الريوش

بنمسي عليكم راع في كل ليلة **

ونطمر على العيلة لا داخل العشوش

فو الله ثم الله ما خاف من حدا **

ولا خوف من خوتش ولا خوف من أبوش

لم يقبل أبو معجب باستهانتها به ؛ لأنه الرجل بالعادة لا يقبل بضعفه، ولا يعترف بالأبيض الذي يحتل جزء من رأسه وربّما عقله! ولأن ظنونها ليست على حقّ، بل إنه لازال شابًا و لديه القدرة الكاملة على القفز الي أبعد حدّ. وأنه لا يخاف أباها، ولا أخوتها ولا يخاف أحدًا أبدا.

 

لكنه يخاف شيئًا واحداً فقال :

وخوفي من أعيانش ومن فرقة الوجن **

ومن أعيانش الحمراء والأسبال ذي تهوش

ولا شيء معش من ماء فأنا ريد شربة **

وسلم بها القيمة من الخيل والقروش

 

ردت عليه :

ولا شيء معي ماء فلا أعطيك شربة **

ولو كنت مغشياً فلا جاز لك رشوش

رفضت الصبية أعطاءه الماء. فهي لم تغير رأيها به ،

حتى بعد أمتداحه لنفسه ولـهـا.

 

ثم سألته :

وأني أسالك بالله من أي بلدة؟ **

كمنك رجل شاجع وطاهش من الطهوش

وزيد أسألك بالله ومكة وطيبة **

وباسمائه الحسنى وباللوح والعروش

 

فجاوبها بشموخٍ وفخرٍ كبيرين :

ولا أنـتِ سـألتنيني مسولة عزيزةً **

أنا الأصل من يافع وطاهش من الطهوش

ويحيى عمر اسمي وقانص لظبية **

أنا ويت جملت ناس جينا لها طروش

ونمسي على سمرات في كل ليـلة **

ونطمر على العيلات لا داخل العشوش

ونشرب من السلسال من عذب صافــيًا**

ونمسي نرد الدان لا مطلع الغـــــبوش

وصلوا على المختار في كل ساعة **

وهو ذي شفع للخلق في ساعة النفوش

أنذهلت الصبية ! وأنكشف المستور، أتضحت الأمور وتبين لِمَ لمعت مقلتاه من أول نظرة لها، كأنهُ عاشقٌ مجنون! هام في حب فتاة، وكأنها سكنت بقلبه منذ أعوام. وبالحقيقة هي فعلاً ساكنة بملكية طويلة الأمد.

هذه هو يحيى عمر المنتظر، الذي حاكتها عنه والدتها منذ نعومة أظافرها. ثُم أخذته إلى دارها وقدّمته إلى والدتها ليعلم الشاعر بما أخفي عنه، ومن تكون هذه القمراء الذي جذبته، ورمت به في سكك العاشقين. أن هي إلا حبيبته وطفلته، ابنته الذي تركها وهي لا زالت طفلة.

عاد الطير بعد غربة دامت سته عشر عامًا، قضاها ما بين شوق وأنجاز، ومتعة مزجت بالمشقة. عـاد من جديد فالوطن مهما أبتعدنا عنه لابد للرجوع بين أحضانه. الوطن كالأم ، لا يقدر المرء على تركه بصورة مؤبدة، ربّما يطول البعد لكنه حتمًا لا يدوم.

أخبار ذات صله