fbpx
أسطورة المقاتل محمد الشفره

بقلم/د. عيدروس نصر

لن أسميه الشهيد رغم أن الشهادةَ شرفٌ طالما سعى لهُ ووقف أمامهً وجهاً لوجه أكثر من مرة؛ ولن أعرفه بالفقيد لأن أمثال محمد لا يفقدون ولا يضلون طريقهم؛ أقول هذا لأن ما لدي من معلومات عنه تأتي عن طريق تسريبات متناقضة يقول بعضها أن الرجل ذهب ضحية انفجار لغم أفقده حياته، وتقول أخرى أنه قتل في المواجهة مع قوات الانقلاب السلالي؛ وتقول ثالثة أنه أضاع الطريق وما يزال البحث عنه جارياً وتقول رابعة أنه أسيرٌ لدى الجماعة الانقلابية؛ هذه المعطيات تؤكد الطبيعة الأسطورية للرجل وما تعرض له من وقائع خارقة اقترب بها من أولائك الأبطال الأسطوريين الذين تدون أسماؤهم الروايات وتتحدث عنهم كتب التاريخ بما عاشوه (أو لم يعيشوه) من أحداث ملحمية جعلتهم وحيواتهم جزءً من الخوارق التاريخية.

لم يسع محمد عبد القوي اليزيدي (المعروف بمحمد الشفره) لم يسع للشهرة ولم يبحث عنها، لأن ما كان يسيطر على هواجسه واهتماماته أكبر من الشهرة (الزائفة أو حتى الحقيقية).

كان عسكرياً بسيطاً تخرج من الكلية العسكرية تخصص مدفعية، وقد جرى توزيعه في القوى البحرية ضمن كتيبة المدفعية السالحلية وقد تنقل في مواقع قيادية للعديد من بطاريات المدفعية متنقلا بين ميون وسقطرى والمكلا ونشطون مفعماً بصمت المجاهدين وعزيمة الفدائيين ونكران ذات الجنود المجهولين.

كان ذلك عندما كان للجنوب جيشا احترافياً يحسبُ حسابهُ محلياً وإقليمياً ودولياً، وقادته التربية العسكرية والوطنية التي تلقاها إلى أعمال بطولية لم يقدم عليها الكثيرون ممن يتبوأون اليوم المناصب العسكرية والحكومية والأمنية الرفيعة، دون أن يطلب مكافأة من أحد أو يبحث عن ترقيةٍ عند أحد.

  *      *      *

تعرفت على محمد الشفره في العام ١٩٩٥م بعد حصولي على الدكتوراه من بلغاريا وانتقالي إلى شارع البطالة الإجبارية وكان تعرفي عليه عن طريق شقيقي العقيد عبد السلام نصر زميله في الكلية العسكرية وفي رحلة العمل العسكري اللاحق حتى العام 1994م، حينما شرفنا بالزيارة إلى منزلنا الصغير الكائن في حي رخمة بمديرية رصد م/ أبين، وتكررت لقاءتنا عدة مرات في عدن وأبين وجدة وصنعاء وغيرها من المناطق.

أثناء الغزو الأول للجنوب في العام ١٩٩٤م كان الشفرة في إجازنه السنوية لكنه قطع تلك الإجازة وسافر إلى عدن ليلتحق بكتيبة الدفاع الساحلي وهناك قاتل قتال الابطال الاستثنائيين حيث كان مرابطاً في جبهة بير أحمد وبير النعامة . . وبحكم الاكتساح الهمجي المعتمد على كثافة المهاجمين وعلى تكثيف الآليات العسكرية الغازية، وبعبارة أخرى اختلال ميزان القوى لصالح الغزاة عدةً وعتاداً فقد انكسرت جبهة بير أحمد مثلها مثل بقية الجبهات التي انسحب منها المقاتلون. . . لكن محمد بقي في مترسه يواجه القوات المهاجمة ويصد منهم من يصد حتى انفجرت بجانبه قذيفة مدفعية أصابته بعدة إصابات وصار ظهره أشبه بغربال من كثرة الشظايا التي أصابته.

كان قائد هذه الجبهة المناضل العقيد (حينها) صالح عبد الصري الذي كان يشغل منصب قائد الدفاع الساحلي لعموم الجمهورية اليمنية منذ العام ١٩٩٠م.

قال العقيد الصري لرجاله. . . لن ننسحب حتى تأتوني بالشفره حيا أو ميتا. . .؛ وانتشر الرجال في طول الصحراء وعرضها وعلى مرمى مدفعية الغزاة ودبابتهم، بحثاً عن الشفره، لكنهم عندما وصلوا إلى الموقع الذي كان فيه لم يجدوه وإنما وجدوا الكثير من الدماء فاعتقدوا بانه قد قتل وربما تكون إحدى الوحدات قد عثرت على جثته وأخذتها، وانتشر خبر استشهاده في كل مكان وصار اسم الشفره هو اسم واحد من مئات الشهداء الذين نذروا حياتهم دفاعا عن حياض الوطن، وحتى أهله ورفاقه توصلوا إلى قناعة بصحة خبر استشهاده بغد أن يأسوا من الحصول على أي خبر يدل على مصيره.

والحقيقة هي إن الشفرة بعد أن أصيب قام بالزحف (على بطنه) وهو ينزف دماً لمسافة أكثر من ثمانية كيلو مترات حتى وصل عند الكتيبة التابعة للدفاع الجوي المرابطة قريبا من كتيبة البحرية، لكن المشكلة تكمن في أن أفراد تلك الكتيبة عند ما شاهدوه يزحف باتجاههم اعتقدوا أنه استطلاع العدو ووجهوا اسلحتهم إليه بقصد إطلاق النار عليه وإصابته، وفي تلك اللحظة قام باعطائهم الإشارة المتفق عليها ككلمة سرّ، وعندما وصلوا إليه وعرفوا أنه صديق وأنه مصاب قاموا بإسعافه إلى مستشفى الجمهورية وطبعاً تركوه هناك ليتلقى العلاج.

بعد حوالي أسبوع ذهب أحد رفاق الشفره إلى مستشفى الجمهورية لغرض زيارة أحد أقربائه المصابين كان يتعالج هناك، وفجاءة وجد الشفره مصاباً وممدداً في نفس الغرفة الممدد فيها قريبه وبعد أن تعرف عليه وتأكد من هويته رجع إلى المعسكر وأخبر رفاقه ان الشفرة ما يزال على قيد الحياة وأنه في مستشفى الجمهورية؛ وقد كان هذا الخبر بمثابة بشارة بثت الفرحة والسرور لدى كل أهله وزملائه ورفاقه الذين كانوا حتى ذلك اليوم يعتبرون الشفره في عداد الشهداء.

في الغزو الثاني للجنوب (٢٠١٥م) قاتل البطل محمد الشفرة قتالاً ضارياً بمعية الآلاف من أبناء الجنوب، لكن خبرته السابقة وإتقانة الاحترافي لسلاح المدفعية قد جعل مدفعيته تسقي الغزاة كؤوس المرارة طوال الأشهر الثلاثة التالية للغزو وساهم مع رفاقه القادة والجنود النظاميين والمتطوعين من أبناء الجنوب، في كسر مشروع الغزو الثاني وإجبار مليشيات عفاش والحوثي على الانسحاب متخليةً حتى عن دفن جثث قتلاها وإنقاذ جرحاها، ولربما يأتي اليوم الذي نحصل فيه على المزيد من التفاصيل عن مساهمات هذا البطل في تلك الحرب وما قد تكتنف هذا الدور من لحظات أسطورية كما هي العادة في حياة المقاتل الاستثنائي محمد الشفره.

*     *     *

من أطرف ما يروى عن البطل الشفره إنه وبعد عودة النازحين الجنوبيين في العام ٢٠٠٤م ، وحيث جرت العادة أن يستقبل العائدون من قبل ضباط استخبارات نظام عفاش للتحقيق معهم، على سبيل الاستمتاع بالإهانة والإذلال وإشعارهم بأنهم مهزومون تم العفو عنهم، حينما وجه له المخبر أسئلة بعضها روتيني وبعضها ذا بعد سياسي وعسكري من قبيل: أين قاتلت في حرب (الانفصال؟) ( على حد تعبيرهم)؛ من كان قائدك؟ ما هي العمليات التي شاركت فيها؟ ما رأيك في العفو الصادر من فخامة الزعيم الرمز؟ وعندما وصل إلى السؤال: لماذا قاتلتمونا في حرب ٩٤م؟ وإلى ماذا كنتم تهدفون؟ رد الشفرة وهو يبتسم ساخرا: قاتلناكم لأنكم قاتلتمونا؟ أنتم جئتم إلى أرضنا لتقاتلونا ولم نأت نحن لمقاتلتكم في أرضكم؛ أما ما كنا نهدف إليه فهو القضاء عليكم لأنكم جئتم للقضاء علينا.

ضحك المخبر يائساً من مشاكسة وشجاعة الشفره، وقال له: خلاص أُقفِل المحضر تفضل وروح استلم مستحقاتك، وجرى تحويله إلى سقطرى لمتابعة المستحقات لكنه مكث هناك عدة أشهر متابعا يركض بين مكتب وآخر وقائد وآخر، وختم هذا المشوار من الركض بأن قابل قائد الحامية في سقطرى وبعد أن عرض عليه العديد من المناصب القيادية (رفضها الشفرة متحججت بحاجته إلة العلاج) وعده الأخير بمتابعته في صنعاء لاستكمال إجراءات صرف المستحقات وأعطاه رقم هاتفه لكنه عندما جاء إلى صنعاء لم يلاق ردا على اتصالاته وفي أحسن الحالات كان الأطفال هم من يردون عليه ويتذرعون بأن القائد غير موجود أو نائم أو في الحمام وما إلى ذلك حتى يأس وسافر إلى السعودية ليستأجر بوفيه يبيع فيها الشاي وخبز الطاوة.

لن أقول الله يرحمه رغم ان رحمة الله مطلوبة للحي وللميت لكنني اترك هذا المنشور مفتوحاً ولدي شعور ان الشفره سيظهر ذات يوم كما ظهر بعد خبر استشهاده في عام ٩٤م؛ ما لم أتلق بيانا رسمياً من جهة رسمية يعلن الحقيقة الكاملة عن مصير محمد الشفره.

نعم لم يكن الشفره يحب الظهور ولم يتحدث عن بطولاته يوماً ولم يمدح نفسه كما لم يمدحه أحد لكنه كان من ذلك النوع من المقاتلين الذين يصنعون الأسطورة بلا ضجيج ولا تهويل، وبعد الانتهاء منها يتوارون عن الأضواء لممارسة حياة البسطاء من الأبطال المغمورين.