fbpx
عن المغارة الذهنبية في مقال “المغارة الجنوبية” (1)

رفع الغفوري الحرج عن قلمه في مقاله الأخير (المغارة الجنوبية) ليفش غله في الجنوبيين عامةً، وليس في مكونات أو تيارات سياسية يختلف معها. السؤال هو لماذا أقدم على فعل ذلك في هذه اللحظة بالذات من خلال مقال كامل، وبدون مواربة أو تحفظات أو ديكورات، وكما اعتاد أن يفعل في السابق.

 

هناك أسباب ومآرب كثيرة وواضحة بات يدركها أكثر إنسان أمية على وجه البسيطة من تناولات كهذه، لكن هذه الهستيريا الصريحة جداً لإدانة كل الجنوبيين، وبطريقة لا تقل عنصرية وكراهية عن أكثر شعبوي في هذا الكون، وفي مثل هذا التوقيت بالذات، لها أسبابها المختلفة. أولى هذه الأسباب المستجدة ما حدث في عدن، وبالنسبة لشخص ينتمي إلى لإصلاح ويوالي علي محسن كانت تلك القيامة بعينها، لكن على الأرجح قد يكون هنالك سبب آخر استدعاه إلى عدم الاكتفاء بذم التيارات الانفصالية، وكما كان يفعل في السابق، إلى ذم الجنوبيين وكل ما يتعلق بهم، جملة وتفصيلا.

 

قبل أسبوعين تقريبا كَتَبَ متباهيا عن تقرير نشرته مجلة “دير شبيغل” الألمانية الشهيرة عن انتقال مأرب من ” مأوى للإرهاب إلى المحافظة الأكثر تنمية في اليمن”، بينما لا تحضر عدن في الصحافة العالمية إلا بوصفها “وكرا للفوضى والضياع”، على حد تعبيره. ومع إن مدناً عريقة جداً ازدهرت فيها حضارات عظيمة لمئات السنين سقطت في لحظات تاريخية معينة في اللاستقرار والفوضى بفعل شروط وعوامل عديدة، داخلية وخارجية، لكن صديقنا الغفوري تجاهل كل ذلك في سبيل إدانة “الجنوب” لأسبابه الخاصة، حتى أنه فاته أن يطرح سؤالاً بسيطاً ساذجاً من باب الفضول الصحفي والسياسي،على الأقل، في حضرة هذه الانتقالة العظيمة واللامنطقية في غضون زمنٍ خاطفٍ على شاكلة “كيف لمأرب المنطقة القبلية والصحراية المفتوحة أن تُحقق كل هذا المستوى من الأمن والأمان بما لم تستطع أن تحققه عواصم أكثر دول العالم تقدماً ممن لديها إمكانيات خارقة وتُعاني من الإرهاب، بينما فعلت مأرب كل ذلك وإمكانياتها العسكرية والأمنية لم تستطع أن تُخضع تبةً واحدة في الصحراء خلال ثلاث سنوات كاملة” (طبعاً، وأقسم بكل الآلهة، أتمنى أن تتحول مأرب إلى مدينة أشبه بباريس وكذلك كل مدن ومناطق الشمال، الحضرية والقبلية، ومن يوم غد، وفي ذلك فائدة عظيمة لنا جميعاً، ولكن في ظروفنا الكارثية نقول ما نقوله ربما لأننا نتحلى بتفكير سياسي عندما نُفكر بالسياسة، وكما نصح عالم الاجتماع الفرنسي بورديو، وليس من باب الحسد والإدانة، خصوصاً في ظل لا منطقية الأحداث الجارية، ودناءة قوى الصراع) .

 

كان النشوة بالمعلومة التي أوردتها الـ”دير شبيغل” عارمة تكاد أن تبلغ عنان السماء، ربما لأنه يعرف جيداً حجم التدليس الذي يمارسونه، وعندما يجد معلومة عابرة في وسيلة إعلامية محترمة يتعامل معها كوحي أُنزل من السماء السابعة، لا ينطق عن الهوى.

 

قبل يومين ربما قد يكون تلقى صفعة عظيمة زلزلت فؤاده المضطرب لم يكن يتوقعها قط، خصوصاً أنها أتت مما يعتبره “سماء سابعة”. فالمجلة الألمانية الشهرية نشرت تقريراً مطولاً على موقعها الإلكتروني يرصد الأحداث الأخيرة في عدن تحت عنوان “الانفصاليون في اليمن: النضال في سبيل دولة جديدة-قديمة”، رصد هذا التقرير الأحداث بحيادية تامة، تحدث عن الإشكاليات الحاصلة في عدن، والصراع بين المجلس الانتقالي المدعوم إماراتياً وبين مجموعات (Gruppen) تتبع الرئيس هادي، لم يسمها طبعاً بالمؤسسات الشرعية أو الوطنية أو أي من تلك الأوصاف المقدسة، بل “مجموعات”، وهي أقرب إلى ما نسميه نحب بـ “مليشيا” في جدلانا السياسي. لكن ما يميز هذا التقرير أنه، وربما للمرة الأولى، تطرق إلى تاريخ الوحدة الكارثي وكيف استولى/ابتلع نظام الشمال السياسي الجنوب كلياً، وألغاه، وعن كيف تفاجئ “الناس” في الجنوب الذين كانت تربطهم علاقات تجارية وتثاقفية مع أسيا وأفريقيا لمئات السنين فضلاً عن تفاعل وثيق مع العالم في فترة الاستعمار البريطاني ، كيف تفاجئ بالشمال المحافظ بعد الوحدة.

 

وبما أن النخب التابعة لمراكز القوى التقليدية حاولت أن تُكرس صورتين أو تنميطين عن “الجنوبي”، كل جنوبي: التشدد والغلو والبيئة الحاضنة للتنظيمات الإرهابية، والفوضوية والشعبوية من جهةٍ أخرى في سبيل إبقاء الجنوب خاضعاً لهذه القوى أبد الدهر وإحكام الوصاية السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية عليه من جهة، ومن جهة ثانبية تبرير كوارث وتخلف هذه القوى الماسكة بخطام التاريخي اليمني، ومنع أي محاولة للخروج من إسارها الخانق. فإن ترد إشارة إيجابية في وسيلة إعلامية محترمة جداً وتُظِهر خفة مثل هذه التنميطات، ذلك ما لا يمكن تحمله من قِبل هذه النُخب، خصوصاً إذا عرفنا أن مثل هذه الإشارات/الحقائق المرتبطة ارتباط وثيق بمصادر استراتيجية في بناء الدول (الجيو-سياسية، اقتصادية، ثقافية، اجتماعية)، وبالذات على المدى الطويل، ستثير بالتأكيد كل أنواع الكوابيس والهستيريا ( زعم عالم اجتماع السياسية جاك باغنار أن لكل مجتمع الدولة التي يستحقها، وكل دولة تحقق نظريتها الثقافية والاجتماعية الخاصة الممتزجة بتأثير القياسات المختلفة للأولويات التي يتموضع بها التاريخ والجغرافيا.).

 

في المنشورات التالية سنناقش بعض الأفكار والتدليسات التي ضمنها الغفوري مقالته الأخيرة.