fbpx
يٌختبر الذهب بالنار وتختبر الصداقات بالتجارب

د. قاسم المحبشي

مع صديقي الحميم حنش علي عبدالرحيم

الصداقة إنماط ودرجات ومستويات والأصدقاء انواع واشكال وألوان وقامات ومقامات والصداقة هي نمط من انماط العلاقة بين الفاعلين الاجتماعيين، بوصفهم ذواتا عاقلة وحساسة على درجة متساوية من القيمة والأهلية والشخصية القانونية المستقلة ويتمتعون بحرية الارادة والقدرة على الاختيار بين المواقف والممكنات المتاحة في سياق ممارستهم لحياتهم الاجتماعية.
ويمكن أن تتنوع الصداقات في صيغ واشكال متعددة، منها: صداقة المصلحة تزول بزوالها. وصداقة الرغبة تزول بانكشافها. وصداقة الزمالة تبقى في حدودها الممكنة، وصداقة المعرفة والهموم المشتركة تدوم بقدرة الأصدقاء على مداومة الاهتمام والنقد والحوار والتجديد والكتابة المتبادلة والإنتاج والتغذية الراجعة، وشعارها؛ أكتب كي أفهمك وانقدك ! وغير ذلك من أشكال وانماط الصدقات الكثيرة التي صنفهاالفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو طاليس في كتابه العمدة ( الأخلاق الى نيقوماخوس ) الذي لخص انماط الصداقة بقوله “إن الباعث على الصداقة هو إما الفائدة أو المتعة أو الخير”. وتختلف الصداقة عن غيرها من انماط العلاقات الاجتماعية الآخرى؛ العلاقات القرابية، بين الآباء الأبناء أو بين الأمهات والأبناء أو بين الازواج أو بين الآخوة والاخوات الاشقاء وغير الاشقاء أو بين ابناء العموم والأنساب ومختلف الروابط القرابية التقليدية التي تربط بين افراد العشائر والقبائل والطوائف والمذاهب والأحزاب، كل تلك الشبكة الواسعة من اواصر العلاقات القرابية بين الكائنات العاقلة. وهناك نمط من انماط الصداقة والاصدقاء يمكن أن يشتمل على كل المستويات والمقامات المذكورة وهذا هو ما ينطبق على الزميل والصديق والأخ العزيز ابو علا الذي اثارت فيني زيارته كل تلك الافكار الحميمة، إذ ظلت صدقتنا تنمو وتزدهر منذ ٣٤ عام ولاتزال وهذا ما يبعث على الفخر والاعتزاز.
تداعت هذه الخاطرة الى ذهني وأنا استقبل صديقي العزيز ابو علا اليزيدي في مكتبي ظهر أمس، زارني رغم انشغالاته الكثيرة، وكان لتلك الزيارة الخاطفة أثر في نفسي يتعدى الانفعال العاطفي اللحظي والشعور بالسعادة والفرح الذي غمرني طوال يومي، تلك الزيارة من صديقي الحميم المستشار القانوني حنش علي عبدالرحيم ابو علا كانت بمثابة قدح زناد الروح في رحاب الذاكرة الممتدة على مدى ٣٤ عاما منذ جمعتنا الأقدر ذات يوم في ملتقى طلابي
لنشطاء طلاب كليات جامعة عدن منتصف عام ١٩٨٥م كان في مستوى أولى حقوق وكنت في مستوى ثانية تربية في ريعان الشباب والنشاط المتقد بالحلم والعلم والأمل حينما سمعته يتحدث لأول مرة في الملتقى الطلابي المكرس للتحضير لأسبوع الطالب الجامعي صادفت أفكاره هوى في نفسي بما فيها من نظرة رشيدة ونزعة نقدية وتجرد ومسؤولية، إذ أشعرني حينها بانه صاحب رأي حر وشخص مستقل يعصب تأطيره في قوالب وإطارات ضيقة بحسب ما كانت الموضة الايديولوجية السائدة تلك الأيام.
في نهاية الملتقى ذهبت اليه وعرفته عن نفسي عرفني عن نفسه ومنذ تلك اللحظة صرنا صديقان واستمرت صدقتنا منذ ذلك اليوم حتى الآن. كنا حنش وأنا شديدا الحرص على التفوق العلمي إذ كان في مقدمة طلاب وطالبات دفعته في كلية الحقوق رغم سنه، حدثني عن سني دراسته الابتدائية وعن حرص والده المرحوم العم علي عبدالرحيم رحمة الله عليه على تعليمه
ورغبته بان يراها طبيبا مشهورا وحصوله على نتيجة متقدمة في امتحانات الثانوية العامة تأهله للحصول على منحة في أرقى الجامعات حدثني عن الخدمة العسكرية وكيف ساعدته الظروف للتجنيد في الخدمات الطبية وحصوله على دورات تأهيلية مكنته من ممارسة التطبيب بكفاءة واقتدار في مستشفى باصهيب العسكري وحيث ما حل وكان ولازال هو طبيب العائلة وحكيمها العضوي والروحي. حدثني عن احلامه وآماله الصغيرة والكبيرة الخاصة والعامة وحدثته بدوري عن تفاصيل حياتي
بعد التخرج من الجامعة كانت قد وقعت الكارثة السياسية في عدن أقصد كارثة ١٣ يناير التي قصمت ظهر البعير! فقدنا فيها زملاء واصدقاء اعزاء من كل مكان ولم نكن نتخندق في خنادق قطعان اطراف الصراع المتقاتلة مع أو ضد ! ، كانت نزعتنا الإنسانية هي الطاغية في رؤيتنا للأمور وفِي علاقاتنا مع الاشخاص الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، كنا طلابا ولم نشترك في ذلك النزاع الدامي مع أي طرف من الأطراف ربما كان نابع من ثقافتنا الأكاديمية المتينة ونزعتنا الليبرالية الانسانية في الحرية التي صعب تطويعها بالتعبئة الايديولوجية البليدة، ولعل من الأمور الجدير بالأشارة هنا انني وجدت من هذه التجربة القاسية بان الاشخاص الذين كانوا يمتلكون ثقافة عالية والطلاب المتفوقين في دراستهم هم أقل الناس انخراطا في معمعان الصراعات الايديولوجية التي عصفت بالجنوب منذ الاستقلال! وقفنا على الحياد ولم تعصب لأحد الاطراف وهذا ما جعلنا بعد التخرج من الجامعة في هامش المشهد واستحقاقاته، إذ رغم أننا الأوائل على دفعتنا بامتياز الا اننا حرمنا من الحصول على التعيين المستحق بالجامعة وفاز بذلك زملاءنا المزايدين الذين لم يكن لبعضهم لا زيت ولا زيتون ومع ذلك ظلوا يبيعون الزيت والزيتون في بلد لا تزرعه. كان صديقي يحلم بعد التخرج من كلية الحقوق عام ١٩٨٨م بتقدير ممتاز ومرتبة الشرف بالالتحاق في عضوية التدريس المساعدة بكليته وكذلك حلمت أنا بعد حصولي على شهادة وميدالية التفوق العلمي ولكن جرت الرياح بما لم تشتهي السفن! بعد التخرج آخذت احلامنا تتبدد بالوطن الذي كنا نحلم رؤيته وتسارعت الاحداث بطريقة دراماتيكية منذ عام ١٩٩٠ لنجد انفسنا في عام ١٩٩٤م بعد غزوة التكفير والاحتلال الغاشم مع معظم الجنوبين في عدد المهزومين بلا عمل ولا طن ولا دولة ولا هوية نعض على أصابع الندم ونضرب الأمر أخماسا في أسداس! كان الوضع حينها شديد القساوة والاختناق ولا يُطاق ابدا، وكانت هزيمتنا موجعة حد العمق، واتذكر أن الكثيرين ممن نعرفهم سحقتهم تلك الحرب والهزيمة وعجزوا عن استيعابها فماتوا قهرا أو انتحروا وبعضهم تجننوا للأسف الشديد، حينذاك بلغنا اللحظة الحدية في الصراع مع الموت والانقراض، وكان كل شخص يواجه الموقف بمفرده، في تلك الأيام الموحشة كان ابو علا قد فقد منزله الخشبي بضربة مدفعية فاحرق كل شقاء عمره وهو حديث الزواج إذ لم يمر على زواجة من شريكة دربه السيدة الرائعة أم علا غير ثلاث سنوات فقط. ولم يكن معه من خيار غير التفكير بالرحيل من البلاد فكان له ما أراد مكرها أخاك لا بطل! في عام ١٩٩٦ رحل صديقي الى الدوحة الحانية التي وجد فيها وطن بديل وهناك بدأ حياته من أول وجديد جنديا متدربا في الشرطة القطرية ورغم مرارة الماء والخبز في بلاد الآخرين الا أن ظروف العيش قاسية وترغم الاشخاص على تجرع مراراتها حينما تضيق بهم كل خيارات الحياة الممكنة. واتذكر بانني حينما ودعته احسست بمشاعر مؤلمة إذ كان ولايزال أعز صديقا لي واخا وفيا لم تنجبه أمي! كان وجوده بعدني يشعرني بالمواسأة وكنا نحاول نداري خيبات حياتنا بكثير من الحيل والتقنيات الساخرة ومنها التفكير بالمقاومة وتأسيس جمعية السلام الوطني والاجتماعي والكتابة والزيارات المتبادلة والرحلات والرياضة .. الخ واتذكر أنني كتبت بعد يوم من سفره مقال في صحيفة الأيام بعنوان (شعب يبحث عن هوية) نشر بالصفحة الأخيرة. وهكذا تفرقت بنا السبل وجرت بنا السنين والأيام صديقي أثبت وجوده الرائع في قطر اعتمادا على نفسه وقدراته وجهوده وعلاقاته الشخصية حتى صار اليوم من أهم االنخب الاجتماعية والثقافية المهاجرة في قطر بعلاقاته الاجتماعية والثقافية الانسانية الواسعة والمتوازنة فضلا عن وظيفته المحترمة مستشارا قانونيا في وزارة الداخلية القطرية والتي جعلته يحظى بتقدير واحترام كل من عرفه وتعامل معه من الاخوة القطريين واليمنيين والعرب عامة، وانّا بقيت هنا في عدن أتدبر أمري بجهود مضنية حضرت الماجستير على نفقتي الخاصة وتمكنت بعد احدعشر عاما من تحقيق حلمي بدخول الجامعة ومرت بنا السنوات حتى التقينا أخيرا في قطر الحانية بعد هذه الغزوة الشمالية الثانية ورب ضارة نافعة! فقد كانت زيارتي للدوحة بفضل صديقي الوفي الذي استخرج لي التاشيرة بمدة قياسية ومكثت هناك ستة أشهر في بيت أبني الدكتور سميح ابو قاسم لم اشعر فيها بالغربة ابدا. بل كانت من أجمل الأيام في حياتي، هناك في قطر الحانية تعرفت على الكثيرين من الأهل القريبين لي الذين لم أراهم في حياتي ومنهم عمي عبدربه حسن المحبشي واولاده وعمي محمد علي المحبشي واولاده والأصهار من آل العبادي والاصدقاء الاعزاء ومنهم ابو إبراهيم القاضي الذي لن أنسى الأمسيات الجميلة في ديونه والصديق ابو فيصل والصديق محمد بن محمد أبو حسين والأصهار الاعزاء من آل العمري. فضلا عن الاصدقاء الاعزاء من المثقفين والأكاديميين القطريين الذين كان لصديقي العزيز الفضل في التعرف عليهم.
ولما كان يصعب تذكر كل شيء بهذه العجالة فكل ما يهمني أن صديقي الحميم المستشار القانوني حنش علي عبدالرحيم الذي حضرت زواجه عام ١٩٩٠ عاد هذا الأسبوع الى عدن عبر سلطنة عمان والمهرة وحضرموت من أجل زواج أبنه الكبير علا خريج هندسة الطيران المدني في جامعة قطر فالف مبارك للشاب الخلوق المهندس علا حنش الشهادة العلمية والقفص الذهبي ومبروك للولد الموهوب فتحي حنش المذيع الرياض المتألق بالغة الانجليزية النجاح والتفوق في الإعلام مجال الجديد من جامعة قطر. فاهلا وسهلا بهم في مدينتهم الحبيبة عدن التي أحبوها وأحبتهم من زمان ولاتزال تبحث عن فجرها الذي تأخر كثيرا.
فمن هو ذا الذي زار قطر دون أن يعرف درة حقوق جامعة عدن المستشار الجميل ابو علا اليزيدي وهكذا هو صديقي الوفي ابو علا منذ عرفته ظل مثالا للثقة والوفاء والصدق والتواضع والعون والإسناد وحفظ الأسرار حتى في أحلك الظروف والاحوال وهذا ما جعل صداقته موضع الإعتزاز والافتخار علي الدوام