fbpx
بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله: السلطان الذي أغاظ الانجليز بإصلاحاته وأفكاره التحررية
شارك الخبر

 

كتب : أ.د.علي صالح الخلاقي

لن يرضى عنك المستعمر إلا إذا كنت خادماً طيّعاً لمصالحه، أما إذا عملت لصالح شعبك وأهلك فأنك في نظره قد تجاوزت حدودك ولن يكون مصيرك سوى إبعادك عن الحكم..هكذا كان الحال مع السلطان الثائر علي عبدالكريم الذي أعطت أفكاره الإصلاحية والتحررية ونجاحاته في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية ثمارها خلال سنوات تسلمه سدة السلطنة العبدلية فأزعج بذلك المستعمر البريطاني فكان عقابه الإطاحة به من رأس السلطنة حتى لا يكمل مشروعه النهضوي الذي تجاوز به الخطوط الحمراء التي رسمها المستعمر ورأى في كل ما أقدم عليه السلطان الهُمام خطراً محدقاً على سياساته وقد تمتد عدواه إلى بقية السلطنات والمشيخات في الجنوب العربي فيفلت الزمام من يد الاستعمار..

سيخُلّد اسم السلطان علي بن عبدالكريم بن فضل العبدلي في أزهى صفحات سِفرنا الوطني كصاحب مشروع نهضوي واضح وجلي خلال سنوات حكمه وهو ما أثار عليه غضب وغيظ الانجليز وعدم رضاهم عنه فلجأوا إلى إزاحته لخطورة أبعاد مشروعه الوطني الذي يتجاوز حدود سلطنته اللحجية، وكذا كواحد من رموز نضالنا الوطني الذين أيقظوا الوعي الوطني التحرري مبكراً ومهَّدوا للثورة ضد الاستعمار، ومثله أيضاً السلطان الثائر محمد بن عيدروس العفيفي، ولا شك أن الجامع بينهما هو تأثرهما بالفكر العربي التحرري الذي جاءت به رياح الثورة المصرية، وهو ما انعكس في مواقفهما الوطنية التي لم تكن محل رضا المستعمر البريطاني فأبعدهما عن سلطتهما بنفس الأسلوب تقريباً.

نشأ الأمير علي بن عبدالكريم في كنف ورعاية والده السلطان عبدالكريم بن فضل بن علي وبرزت علامات النبوغ فيه منذ طفولته، فقد كان شعلة ذكاء وقرة عين والده الذي أرسله إلى كلية فيكتوريا وهي مدرسة انجليزية عالية في الاسكندرية، وعاد عند اندلاع الحرب العالمية الثانية بطلب من والده الذي خشي أن يصيبه أذى خاصة مع اقتراب القوات النازية من الحدود المصرية. ولا شك أن الأمير الشاب قد نضج وعيه خلال سنوات دراسته في مصر وكذلك زياراته لبريطانيا وبلدان أخرى وتأثر بما شاهده من تطور وقارن في مخيِّلته أو مرآة عقله بين ما رآه هناك من تطور وازدهار وبين ما هو عليه حال وطنه من تخلف حينها فعاد محملاً بالآمال والطموحات الكبيرة وبالهمة العالية للشروع بالعمل النهضوي بغية اللحاق بركب التطور.

من الطبيعي أن تكون بريطانيا الذي الحقته في أحد أفضل مدارسها في مصر قد علّقت عليه آمالها الخاصة بها وتوسمت فيه خيرا لصالح تنفيذ سياساتها وتحقيق مصالحها في المنطقة ولهذا سعت أيضاً لكسب وده وعاملته بتقدير كبير فأنعمت عليه عام 1945م بلقب )سِرK. B.E ) وجرت مراسيم تقليده هذا الوسام الرفيع في لندن، وقد ظنت بريطانيا أنه سيكون بهذا التقدير والتكريم منقاداً لها وطوع بنانها يفعل ما تأمره به دون اعتراض أو على الأقل سيكون صديقاً وفياً ولن يبدر منه ما يثير حفيظتها أو يتعارض مع سياستها وأجندتها.

في عام 1952م تم خلع السلطان فضل بن عبدالكريم نتيجة لما ارتكبه من أخطاء وتجاوزات واعتلى شقيقه الأصغر علي عبدالكريم سدة السلطنة العبدلية خلفاً له، حيث جرى انتخابه سلطاناً بإجماع أصوات رؤساء القبائل العبدلية، وواجه السلطان علي عبدالكريم بعد سلفه تركة مثقلة بالمشاكل التي استغلها البريطانيون لفرض شروطهم القاسية وأهمها الزامه بتوقيع معاهدة استشارية أسوة بباقي المحميات.. يقول عنه السر توم هكنبوتام والي عدن:” بعد خلع السلطان فضل بن عبدالكريم العبدلي سلطان لحج، اجتمع مشايخ وعُقّال العبادل وانتخبوا شقيقه الأصغر علي عبدالكريم سلطاناً على بلادهم. وهكذا تبوأ سدة الحكم شاب يتمتع بقسط وافر الثقافة، كما أنه سبق وزار عدة بلدان خارجية وكان محط آمال قبائله”. أما والي عدن الطاغية تريفسكس الذي خلف هكنبوتام فقد سبق وقال عنه يوم انتخابه:”الأمير علي شاب بهي الطلعة كريم الخلق، فيه جاذبية الأمارة-خارق الذكاء- ذو أفكار تقدمية حماسية بالنسبة لبلاده وما يلزم عمله فيها، أنه كان الاختيار المثالي”.

وبقدر ما كان السطان علي محط آمال قبائله كما وصفه هكنبوتام، وذو أفكار تقدمية حماسية بالنسبة لبلاده كما وصفه تريفسكس، فأنه بمجرد أن أفصح عن نواياه لتحقيق آمال وتطلعات قبائله المشروعة وتحمسه للعمل بإخلاص لرقي وازدهار بلاده حتى تغيرت نظرة الانجليز له. وهذا ما ظهر جلياً منذ الوهلة الأولى، فبُعَيْد اعتلائه على سدة السلطنة دعا الوالي البريطاني هكنبوتام والمعتمد البريطاني تريفسكس لزيارة عاصمته الحوطة، ولاحظ الأخير أن السلطان علي عبدالكريم قد حاول الظهور أثناء حفل الاستقبال الذي تخلله عرض عسكري بمظهر الملوك خاصة حين تحدث عن علاقاته بالإمام أحمد وبالشقيقة مصر خلال كلمته التي ألقاها أمام المجلس التشريعي واعتبر تريفسكس أن ذلك يدل على طموح تحرري يتجاوز حدود سلطنة لحج الصغيرة بل ويتخطى خطوط التبعية لبريطانيا وسياستها الاستعمارية .

ومن تلك اللحظة بالذات أخذ القلق يشغل بال تريفسكس ويتراكم مخزون الحقد في نفسه ويجيش صدره بالغِلّ على السلطان الشاب فأخذ يتربَّص لأية فرصةَ بغية الإيقاع به لإبعاده عن سدة الحكم في السلطنة، ومما زاد الطين بلّة أن السلطان علي عبدالكريم قد جمع حوله نخبة من المثقفين والسياسيين البارزين أمثال السيد محمد علي الجفري الذي كان أقرب المستشارين للسلطان وأكثرهم نفوذا لديه وشغل منصب رئيس المجلس التشريعي وهو مؤسس ورئيس رابطة الجنوب العربي، والمحامي السيد شيخان الحبشي وآخرين من أفذاذ البلاد ممن عملوا معه على تحقيق أهداف خطته التحررية التي كانت ترمي تدريجياً إلى الغاء المعاهدات مع بريطانيا حال حصوله على دعم وتأييد من باقي السلاطين والمشايخ ممن تواصل معهم، خاصة وأن مشروعه السياسي والوطني كان يلتقي مع مشروع رابطة أبناء الجنوب إذ كان يحمل فكرة وحدوية وكانت الرابطة حينها المنظمة السياسية الوحيدة التي تنادي بالاتحاد والوحدة العربية، لكن من أسَرَّ لهم بأفكاره وناقشهم حولها سرعان ما خذلوه وكشفوا مخططه للإنجليز كما علم لاحقا عند استدعائهم له وتحذيره مما يفكر به، فأخفق في تحقيق هدفه بجعل لحج جزءاً من الدولة العربية المتحدة وفي أن تكون بذلك قدوة لبقية السلطنات، ثم ركز جهوده بعد ذلك للاهتمام بشئون وشجون سلطنته معتمداً على إشراك الشباب ونخب المجتمع لجعل الحكم في لحج مثلاً يُحتذى به. وأراد كما قال في حديث له قبل سنوات أن يثبت للإنجليز ولإخواننا في المنطقة أننا نستطيع أن نعمل في بلادنا خيراً مما يوهمنا الاستعمار بقدرته على عمله فيها وإننا أقدر منه على فهم حاجات بلادنا وسنثبت ذلك بمجهودنا وطاقاتنا وبالاستعانة على الكفاءات المتاحة والاستعانة بمن نتوخى فيهم الإخلاص من إخواننا العرب .

وهكذا ضاق الانجليز ذَرْعاً وعجزوا عن احتمال تحدياته هذا السلطان المِقدَام الذي عمل بكل ما في وسعه لتقدم وتطور بلده واهتم بدرجة رئيسية بالتعليم كأساس للتطور واستجلب لذلك المدرسين العرب من مصر وغيرها واهتم بإنشاء إدارة حكومية منظمة وقيام مجلس تشريعي هو الأول على مستوى المحميات وإصدار تشريعات ودستور وغير ذلك من الإجراءات التي أثارت قلق الانجليز وأقضَّت مضاجعهم فاتبعوا خطة لمعاقبة السلطان حيث أصدر الوالي البريطاني في ابريل 1958م أمراً بالقبض على السيد محمد علي الجفري بحجة حركاته التحررية الداعية لطرده الانجليز من عدن وبقية مناطق المحميات، لكنه أفلت من الاعتقال، وترافق ذلك مع اشتداد الصراع بين الأمير محمد بن عيدروس الذي كان نائبا لوالده في السلطنة العفيفية في يافع وحاكما لمنطقة أبين الزراعية حيث اعترض على تدخل الانجليز في الإدارة واستئثارهم بالسلطة والحاقهم الحيف والضرر بحقوق المزارعين، ولمواقفه الجريئة تلك ونوازعه التحررية تم عزله وعينوا خلفا له شقيقه الطفل القاصر، رغم اعتراض والده السلطان، بل وقصفوا “القارة” التي لجأ إليها الأمير الثائر بالطيران الحربي.

ولم يطل صبر السلطات البريطانية أكثر وفي 18 إبريل 1958م أقدمت قواتها على احتلال “الحوطة” عاصمة السلطنة العبدلية بنحو أربعة آلاف جندي تساندهم الدبابات والمصفحات وسلاح الطيران دون علم السلطان الذي احتج على ذلك الاعتداء الغاشم على بلاده والذي يتعارض مع المعاهدة الموقعة بينهما وقوبل برفض شعبي رافقه إضرابات ومظاهرات. وسافر السلطان إلى لندن مباشرة لتقديم اعتراضاته لدى كبار المسئولين البريطانيين ضد تدخل سلطات عدن بشئونه الداخلية والمطالبة بسحب قوات الاحتلال من لحج وإعادة الحالة إلى ما كانت عليه سابقاً. لكن يبدو أن القرار قد اتخذ بعزله وسحب الاعتراف به وتعيين بديل عنه، بل وتم منعه من العودة إلى بلاده، وقام الشعب في لحج بالتعبير عن رفضه لهذا الانقلاب الفاضح بإعلان المقاطعة الإيجابية لسلطات الاحتلال البريطاني من خلال المظاهرات والإضرابات والمطالبة بعودة السلطان الشرعي وجلاء القوات البريطانية عن سلطنة لحج.

وهكذا وجد السلطان الثائر والمجاهد الشاب نفسه بعيداً عن بلاده التي أخلص لها وعن شعبه الذي أحبه وذلك ثمناً لمواقفه الوطنية ونزوعه العربي التحرري ومعارضته للمشاريع البريطانية واحتضانه لقادة الحركة الوطنية من زعماء الرابطة وغيرهم ممن استقروا في لحج.

ومنذ ذلك الحين كُتب على السلطان علي بن عبدالكريم العيش بعيداً عن وطنه منفياً بين مصر والسعودية حتى توفاه الله في 20نوفمبر 2017م في منفاه الاختياري في المملكة العربية السعودية، وظل قريبا من هموم وطنه حتى آخر يوم في حياته. ولعل من الواجب الحديث عنه بعد رحيله بإنصاف وذلك أقل واجب إزاء هامة وطنية بحجمه، خاصة وأنه قد أحاق به الظلم مرتين..مرة من الانجليز الذين عزلوه ونفوه لمواقفه الوطنية وأفكاره التحررية، ومرة أخرى من قبل قيادات سلطات ما بعد الاستقلال ممن جعلوا الوطنية حكرا لهم وأصبغوا على السلاطين والأمراء والمشايخ، بما في ذلك من عارضوا السياسية الاستعمارية بالعملاء، رغم مواقفهم المشهودة ووقوف بريطانيا ضدهم كالسلطان علي بن عبدالكريم الذي كان مصيره النفي والابعاد، ولعل مصيره أهون من رفيقه السلطان الثائر محمد بن عيدروس الذي كان مصيره الاغتيال الآثم ليس من قبل بريطانيا التي قاد انتفاضة مسلحة ضدها ولكن من قِبَل أدعياء السلطة الوطنية بعد الاستقلال حيث أُعدم في ابريل 1972م وهو أسير مع عدد آخر من أخوانه واقربائه ومشايخ يافع في حادثة غدر لن يغفرها التاريخ للجناة (الوطنيين)..

رحم الله فقيدنا السلطان علي بن عبدالكريم العبدلي.. الذي حفر اسمه في ذاكرة التاريخ وفي قلوب الناس الذين أحبوه في حياته ويفخرون به بعد مماته وأمثاله لا يمكن نسيانهم.

——

نُشرت هذه المقالة في كتاب (السلطان الثائر) الذي صدر بمناسبة أربعينية فقيد الوطن الكبير السلطان علي عبدالكريم فضل العبدلي، طيب الله ثراه، وحصلت على نسخة منه من صديقي الرائع محسن الكرد بإهداء وتوقيع مريم صالح مهدي العبدلي

 

أخبار ذات صله