fbpx
في ضرورة المؤسسات العامة وواجب حمايتها

 

في معنى المؤسسة واهميتها

مؤسسة، أُس، جذر، ساس أسس، اساسات، بمعنى قواعد البناء ومداميكه، والتسويس يعني البدء بالأسس الأولى للبناء أو النظام ، والمؤسسة هي صفة كل كيان أو نظام أو إطار أو هيئة مبنية على أسس بديهية بوصفها الجذور والمسلمات في الرياضات وفِي كل الأشياء التي لها نظاما ما، وكما هو حال الأسس أو الجذور في الرياضيات بوصفها بديهيات أو مسلمات ضرورية مسبقة لكل عملية رياضية ممكنة وكما في بناء المنشاءات بمختلف الأشكال والأنواع تعد الأساسات الشرط الضروري بوصفها قواعد بديهية وقبلية لكل شيء يمكن بناءه. وكما هو الحال في النظم والهيئات والكيانات الاجتماعية والسياسية والمدنية التي تتشكل وفق نظاما سياسيا محددا. فكذا لا تكون ولا تدوم ولا تستقر الحياة الاجتماعية للناس بدون مؤسسات بغض النظر عن نوعها صغيرة أو كبيرة تقليدية أو حديثة قديمة أو جديدة. حتى الحيوانات ذاتها تنتظم حياتها في انواع واجناس في مؤسسات بالغريزة الفطرية في علاقاتها مع بعضها والعالم. فالنحل مؤسسة والنمل مؤسسة والطيور مؤسسة والسلمون مؤسسة، ولولا ذلك التأسيس لما لعددت وتنوعت وتمايزت واستمرت حياة الكائنات في أشكال وهيئات وأسماء وصفات.

 

المؤسسات والمجتمع.

أن المجتمع الإنساني هو أكثر الكيانات التي يدين بوجوده كله للمؤسسات الاجتماعية وأولها واسها ولبنتها الأولى  مؤسسة القرابة الأولى التي بحثها الأنثربولوجي الفرنسي ليفي شتراوس في كتابه المهم البنى الأولى للقرابة التي نسميها الأسرة أو العائلة خلية الحياة الاجتماعية للبشرية. تلك الخلية الاولى تناسلت عبر التاريخ وتولدت منها المؤسسات التقليدية  التي نسميها الأشكال الأساسية  للأتلاف البشري؛ الفخذ العشيرة، القبلية، القوم، أو الشعب أو الأمة الدولة وهي مؤسسة المؤسسات بما تحتوية من مجموع المؤسسات الحيوية التي ينتظم بها المجتمع في أربعة مجالات أساسية  .

إذ أن الفكرة الأساسية في مقاربة المجتمع البشري هي تلك التي تنطلق من النظر إلى المجتمع ككل بوصفه عدد من المجالات, متناغمة مع قوى واحتياجات  الذات الإنسانية الفردية  قوة الحب والعلاقات الحميمية, في المجال الخاص  مجال الأسرة  مؤسسة القرابة التقليدية الأولى, والقوة العاقلة والعلاقات الضرورية للحياة الاجتماعية المشتركة, المجال العام, مجال السياسة والسلطة, والقوة الغريزية المتعطشة إلى الإشباع المادي, المجال الاقتصادي, وعلاقات السوق حيث المنافسة والربح والاحتكار, وقوى الموهبة والاهتمام, حيث يجد الأفراد فرص التعبير عن مقدراتهم وتطلعاتهم ومواهبهم واهتماماتهم الحرة, مجال العلاقات المهنية والحرفية الإبداعية وغير الإبداعية, المجال المدني, حيث تختفي علاقات القرابة الحميمية, وعلاقات السياسة التسلطية, وعلاقات السوق التنافسية الربحية. وهكذا يمكن القول أن حياة الإنسان الاجتماعية تقوم  وتتشكل الجماعات والمجتمعات الإنسانية وتنمو وتستمر وتستقر وتزدهر في سياق اجتماعي تاريخي ثقافي علائقي تفاعلي بين أربعة انساق أساسية (فاعل، فعل، علاقة، بنية) وما ينجم عنها في سياق الممارسة من تفاعلات ومظاهر وبُنى وأشكال ورموز وقيم وتُمثلات يعاد صياغتها وبناؤها باستمرار في خضم عملية ممارسة الفاعلين الاجتماعيين لحياتهم المتعينة ماديا ومعنويا واقعيا وافتراضيا بمختلف صيغ وصور وأنماط تُمظهراتها العلائقية (بين أنا _ أنت _ ذات _ أخر _ نحن _ هم.. )  من أشكال وصور العلاقات الاجتماعية المتغيرة باستمرار والتي لا تدوم على حال من الأحوال والتي بدونها يصعب الحديث عن الظاهرة الاجتماعية بوصفها ظاهرة قابلة للرؤية والدراسة والفهم . فإذا كف الناس عن التزاوج الشرعي مثلا أنتهت مؤسسة القرابة الأول الأسرة ولعمت الفوضى، وإذا كف التلاميذ والتلميذات عن الذهاب الى المدراس اضمحلت هذه الأخيرة من تلقى نفسها! والناس بدون مؤسسات ولا قانون وعيونهم الى الأرض هم أكثر خطرا وانحطاطا من الحيونات المتوحشة.

المؤسسة في الثقافة العربية الإسلامية:

تجدر الأشارة الى أنني بدأت الأهتمام المعرفي بالمؤسسة منذ قرأتي محاضرات فلسفة الإدارة للاستاذ الراحل مدني صالح  الذي أيقضني من سباتي النظري وبفضلها قبلت تدريس مادة فلسفة الإدارة في سنة رأبعة خدمة اجتماعية بالكلية وفِي محاولاتي المتكررة للبحث عن كلمة  ( مؤسسة ) في المعاجم والقواميس العربية واهمها لسان العرب لم أجد مفردة بهذا الأسم للأسف الشديد. وحينما تغيب كلمة مؤسسة من المدونة اللغوية العربية فهذا معناها عدم وجودها في الواقع. ولعل هذا هو الذي جعل عالم اجتماع العلوم الأمريكي توني. أ.هب في كتابه المهم فجر العلم الحديث يكتب عن غياب فكرة وثقافة وقيمة المؤسسة بوصفها كياناً أو إطاراً أو هيئة تنظم نشاط مجموعة من الفاعلين الاجتماعيين في صيغة قانونية كلية مستقلة بشخصيتها الاعتبارية التي تأطر نشاط الفاعلين بها وعلاقاتهم وأدوارهم ووظائفهم وقيمهم وكل شيء يتعلق بالمؤسسة ونشاطها الداخلي والخارجي بحكم العقد القانوني الذي المتوافق والملتزم بِه من جميع أعضاء المؤسسة. تلك العبارة التي يسمونها مؤسسة هي ما لاحظ توني أ هب غيابها في تاريخ الحضارة العربية الإسلام التي سادت فيها البنية الشخصية إذ كتب قائلا: “إن البنية الشخصية المهيمنة في مختلف مجالات حياة  المجتمع العربي الإسلامي قد اعاقت نمو فكرة المؤسسة المستقلة وعرقلت نشوء معايير العلم الموضوعية والشمولية والعالمية والتراكمية، بل عرقلت نشوء ونمو وقيام المؤسسة التي نسميها نحن في الغرب مؤسسة المؤسسات أي الدولة. ذلك الغياب الخطير للبنية المؤسسية القانونية؛ أي عدم وجود الجماعات ذات الشخصية القانونية الاعتبارية المستقلة في الحضارات العربية الإسلامية؛ كان سببا اساسيا من أسباب عجز العلم العربي الإسلامي الذي بلغ في العصر الوسيط أوج مراحل تطور العلم والمعرفة في تاريخ الحضارة العالمية برمتها متفوقا على الصين والغرب بإنجازاته ولكنه عجز عن إتخاذ القفزة الضرورية الى رحاب العالم الحديث وغياب المؤسسة كان أحد أسباب هذا العجز إذ لم تكن مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي مؤسسات قانونية مستقلة، بل كانت المدارس ملحقه بالمساجد، وكانت المدارس مكرسة لتعليم علوم الدين والحساب، وتستبعد العلوم الطبيعية، فضلاً  عن أن المدارس كانت مؤسسات خيرية وقفاً دينياً تنفذ رغبات وأهداف أصحابها الدينيين وغير الدينيين،  كما أن نظام التعليم كان يعتمد على الصفة الشخصية، وكان الشيخ أو الفقيه هو الذي يمنح الإجازة لتلاميذه، ولم تكن الشهادة أو الإجازة تمنح من قبل جماعة أو مؤسسة مستقلة لا شأن لها بالأمور الشخصية كما كان عليه النظام في الجامعات الأوربية القروسطية. ولما كان التعليم في حقل العلوم الطبيعية يجري خارج المدارس الرسمية، فقد كان التخصص في علم من العلوم الأجنبية يقتضي السفر مسافات شاسعة بحثاً عن علماء متخصصين في علوم الأولين غير المرغوب فيها طبعاً. ومن المعروف أن الفقه الإسلامي حين ذلك كان قد تنامى وتكامل وصار الفقيه مربياً  وخبيراً اقتصادياً وضابطا لقواعد الصحية العامة وآداب السلوك والكلام وكل صغيرة وكبيرة فضلاً  عن سلطته التشريعية الشاملة فما الذي أبقى كتاب الفقه في الإسلام لكتب العلوم العقلية والوضعية من أبواب وفصول بما يمس الحياة والكون والقيم والتربية والسياسية والاقتصادية والالتزام والمسؤولية والجزاء والثواب والعقاب وفي جميع دقائق العادات والقوانين والتقاليد والأعراف؟ وربما يعود غياب فكر وثقافة المؤسسة في الحضارة العربية الإسلامية الى الباراديم الذي كان ينظر الى المسلمين بوصفهم أمة واحدة ذات رسالة خالدة وولاية مركزية واحدة. إذ “إن الولايات القانونية في العالم الإسلامي لم تنشأ مطلقاً لأن المسلمين كلهم أعضاء في الأمة الواحدة ولا يجوز فصل المسلمين إلى جماعات يتميز بعضها عن بعض شرعاً” ينظر توني. أ.هب، فجر العلم الحديث. ص ١٨٩.

 

المؤسسة الحديثة ومعناها

ويطلعنا تاريخ المؤسسة الحديثة على  أن الفكرة القانونية التي تعامل فيها جماعة من الناس كأنها وحدة نسقية أو مؤسسة مستقلة هي أساس نشوء الجامعات وتطورها في القرون الوسطى؛ إذ اعتبرت المؤسسة المتحدة Universities من الناحية القانونية جماعة لها شخصية قانونية تختلف عن أعضائها فرادى. ويرى توبي أ. هف في كتابه )فجر العلم الحديث( أنه من المصادفات التاريخية أن الكلمة اللاتينية Universities التي تعني Corporation أي الجسم كله، قد احاصر معناها ليعني أماكن التعليم العالي التي تحتفظ باسم الـ Universities )أي الجامعات.

ويؤكد جينز بوست “أن العلماء في جامعة با ريس كانوا مع حلول سنة ١٢١٢م على أبعد تقدير، قد تبلور وجودهم على شكل هيئة تدعى )هيئة الأساتذة والعلماء بوسعها أن تضع القوانين وأن تنفذ الالتزام بها.

ومنذ أن تم تحويل العلم وعناصره الى إطار أو كيان مؤسسي مستقل بقواعده ونظامه الخاص ظهر مفهوم الجماعة العلمية  بصفتها وحدة معيارية؛ إذ لا يكفي أن ن دعي أننا علماء حتى يتم الاعتراف بنا بصفتنا علماء. أن تكون عالمًا يعني أن تنتمي إلى إطار اجتماعي مؤسسي مهني متشكل من مجموع الفاعلين المشتغلين في النشاط العلمي؛ أي) الجماعة العلمية(  بمعنى الانتماء إلى  مؤسسة محددة، يمكن تمييزها عن بقية المؤسسات الاجتماعية. ويعني ثانيا أن يتم اختيارك وإدماجك في نسق يقيم فاعلوه علاقات ترابط وفق طرائق تتوافق مع مبادئ مهنية معيارية مخصوصة، وهو يعني أخيرا أنك موضوع لمراقبة اجتماعية، داخل المؤسسة، وأن عليك إتقان الدور الاجتماعي المقدر إيجابيا في الجماعة العلمية ) (. ويعني مصطلح مأسسة العلم؛ اعتراف المجتمع بالوظيفة الخاصة للنشاط العلمي وبقيمته الجوهرية، ومن جهة أخرى تشكيل مجال مهني لضبط أدوار الفاعلين بما يحقق غايات ذلك النشاط  ويصون استقلاليته.  وإذا ما أردنا صياغة تعريف سوسيولوجي لمعنى المؤسسة الأكاديمية فيمكننا القول: إنها المجالالمستقل المنظم بقانونه وقواعده الخاصة ذات شخصية اعتبارية ممثلة لمجموع الأساتذة ومساعديهم والطلبة بوصفهم جماعة مهنية معنية بنقل وتداول المعرفة العلمية – وظيفة التعليم – ونقدها وتنميتها وإنتاجها – وظيفة البحث العلمي – وتطبيقها واختبارها، وظيفة خدمة المجتمع وتنميته وتنويره، مجال يؤمن بيئة محمية لكل منتسبيه للممارسة نشاطهم بحرية تامة.

وهذا شأن كل المؤسسات الحديثة التي لازالت تتلمس الخطى في مجتمعاتنا العربية التقليدية، بما فيها مؤسسة المؤسسات الجامعة أي الدولة.

فالقضاء والعدالة والأمن والجيش والمدارس والجامعات والأحزاب واالمنظمات المدنية وكل المؤسسات الحديثة  في مجتمعاتنا العربية عامة هي مؤسسات جديدة في كينونتها المؤسسية وبنيتها التنظيمية ووظيفتها العلمية، والتعليمية والتنموية وقيمها المهنية والأكاديمية، وأنماط علاقاتها وأهدافها وعاداتها وتقاليدها، في حين أن مجتمعاتنا بحكم التخلف التاريخي لا تزال أسير البنى والعلاقات والقيم التقليدية على مختلف صعد الحياة، السياسية والاقتصادية والثقافية، والاجتماعية والأخلاقية هذه البنى الثقافية التقليدية لا ريب وأنها تأثر في ا وتخترقها بسهامها المنطلقة من كل حدب وصوب، إذ إن تلك المؤسسات الحديثة الجديدة  ليست جزر منعزلة عن المجتمع التي توجد فيه، بل هي جزء من هذا المجتمع الذي يؤثر فيها وتأثر فيه. وهذه هي سنة من سنن الحياة الاجتماعية أنه الصراع الأبدي بين القديم والحديث بين التقليد والتجديد بين المألوف وغير المألوف بين القوى والمصالح الاجتماعية السياسية الاقتصادية المتنافسة المتصارعة المختلفة الاستراتيجيات والغايات والأهداف صراع  بين المعروف والمجهول بين الطبع والتطبع، بين العادات التي تشكلنا والعادات التي نريد أن نشكلها فالالتزام بأنماط معينة للعلاقات الاجتماعية يولد طريقة معينة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة تبرر نموذجاً منسجماً معها للعلاقات الاجتماعية. ومن المعرف أن أفكار الناس ونظراتهم للعالم وإلى أنفسهم والآخرين وكيفية تجسيد الحياة فيه نابعة من علاقاتهم الاجتماعية ففي مجمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسات الحديثة  وقيمها لا سيما إذا تركت مكشوفة لاعداءها التقليديين بلا حماية وبلا رعاية من الدولة والمجتمع وبلا سلطة خارجية أو ذاتية وفي ثقافة لا يزال فيها بعض الناس  ينكرون  أهمية وضرورة وجود ونمو تلك المؤسسات بوصفها شبكة من الإطر المنظمة تشكل في مجموعها الدولة، إذ تعد المؤسسات هي أهم مقومات الدول الحديثة، وهذا ما يفسر حرص مواثيق الأمم المتحدة بتعريف جريمة الإبادة الجماعية تتصل بتدمير المؤسسات الحيوية في مجتمع من المجتمعات.

والأشخاص يأتون ويذهبون بينما المؤسسات هي وحدها التي يمكنها أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون والتنمية.

ونحن الذين نقوم بتشكّيل مؤسساتنا ثم تقوم هي بتشكلنا، وكيفما نشكلها تشكلنا!
والمؤسسات العامة في المجتمعات الحديثة لها حرمة مقدسة مثل حرمات المقدسات الدينية الإسلامية في مكة والمدينة والمساجد والمقابر وغيرها، التي يحرص الجميع على تبجيلها وحمايتها وصيانها وتنميتها دون قوانين ملزمة بل بالقيم والهيبة والشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاهها. والمؤسسات العامة التي ينتفع منها جميع أفراد المجتمع لا يمكنا أن تحمي ذاتها بذاتها بل يجب أن يحرص جميع أفراد المجتمع على حمايتها كما يحرصون على حماية منازلهم.

فهل أدركنا ماذا تعني مؤسسة عامة
أنها تعني مصلحتك ومصلحتي ومصلحة الأجيال التي ستأتي بعدنا، ولا يجوز التهاون بها ابدا في كل حال من الأحوال،
والمجتمع الذي يعجز عن حماية مؤسساته العامة القائمة ليس بمقدوره ابدا إعادة تأسيسها وبناءها بعد ضياعها. وليس هناك ما هو أصعب من بناء مؤسسة عامة في المجتمعات التقليدية.