fbpx
احتفاء بميلاد فنان …

د. قاسم المبحشي

راهنت عليه!

مبروك التخرج لأحمد ووالديه

يبدأ الفن لا من اللحم والدم؛ بل من المكان، والزمان من الفضاء، المنزل، الحي، البلدة، السماء، النجوم ، الغيوم، المطر، الأرض، الشمس، القمر، الشجر، البحر، الموج ، الصحراء، الرمال، الجبال، الوديان، الأنهار،
الأنوار، الظلال،الأشكال والألوان، الغناء، الرقص، النحث، الرسم، الأزياء، الألعاب، الحيونات ، العصافير، الأعشاش … وكل تلك الأشياء الصغيرة الحميمة المؤطرة في حياتنا الإنسانية التي يستلهمها الفنان ويعيد صيغتها إبداعياً (أغنية أو قصيدة أو قصة أو رواية أو لوحة تشكيلة فنية جميلة..الخ).
ذلك هو الفن أنه أغنية الأرض المنتزعة من أرضها رمزياً بما يحمله من رسالة جمالية ذات دلالات ومعاني اجتماعية ثقافية إنسانية سامية تهذب الأذواق والنفوس، والفنان لا يأتي المعجزات؛ بل هو ابن بيئته وربيب زمانه تمنحه موهبته المرهفة القدرة على إعادة صياغة الحياة في قالب فني يسر النظر،ويطرب السمع، ويبعث الشعور بالمتعة والفرح والجمال.

صباح اليوم ..كنت مع حالة فنية من إبداع الشاب القادم قلب من حضرموت العميقة
أنه ابن صديقي وزميل دراستي الجامعية “الدكتور محمد سالم الجوهي” استاذ الجغرافيا الحضرية بجامعة حضرموت.
تربطني علاقة ودية به منذ أيام الدراسة الجامعية في البكالوريوس، ألتقينا أول مرة في رحاب جامعة عدن بوصفنا أعضاء ناشطين في المجلس المركز للطلاب، جاء من المكلا على رأس وفد طلابي وكنت في مقدمة مستقبليهم على أبواب كلية التربية العليا عدن. كان هذا في منتصف ثمانينات القرن المنصرم، إذا لم تخني الذاكرة! ومن حينها ونحن على تواصل واتصال مستمر.

فرقتنا الأيام وجمعتنا الصدف والمشاعر الأخوية الطيبة التي ما برحت تنمو وتزهر مع مرور الزمن، وكانت أجمل صدفة حينما ألتقينا- بعد غياب طوبل- ذات مساء في صنعاء التي قهرتنا !
كان صديقي محمد الجوهي قادما من بغداد المدينة العربية العريقة التي طالما وحلمت بها منذ طفولتي، وكنت أنا اتسكع على غير هدى في دروب صنعاء المضنية، التي تشعرك بالضياع واللاجدوى.
كان هذا اللقاء بالنسبة لي أشبه بنجدة من السماء!
وكما عهدته كان صديقي الوفي محمد الجوهي كريما،حليما، حكيما، ثابت الجنان، من أول وهلة أحس بحالتي المحبطة وسألني بلهجته البدوية الحضرمية الجميلة:
ويشك يا أبا سميح؟ هوّن عليك يا أخي ستفرج إن شاءلله.
واتذكر أنني حينما ألتقيه لم أكن أمتلك في جيبي مصروف يومي، ودون أن اطلبه أو اشكي له ضيق ذات اليد. أخرج من جيبه مئة دولار ودسها بجيبي، في البدء رفضت وشكرته وقلت له: الحمد لله الحال مستور! قال لي: نحن أخوان واعتبرها دين عليك حتى نلتقي ببغداد إن شاءلله وتعيدها لي.
أخذتها وكانت قيمتها المعنوية عندي أكبر بكثير من قيمتها النقدية. في صنعاء أمضينا ثلاثة أيام معا، تحدثنا عن أمور كثيرة أهمها وعده لي باستخراج منحة لدراسة الدكتوراه من جامعة بغداد، وفِي بضعة أشهر وصلتني الموافقة وحصلت على المنحة في ذات الكلية التي درس بها، كلية الآداب باب المعظم، ورغم أنه عاد من بغداد قبل أن أصلها إلا أنه زودني بأسماء الكثير من الأساتذة والزملاء الذين يمكن لي أن أثق بهم. ذهبت إلى بغداد محمولاً على أجنحة الشوق واللهفة الثاوية في الاعماق وفِي ذهني الخريطة التي رسمها لي صديقي الوفي؛ محمد الجوهي فضلاً عن الرسائل التي بعثها معي للأساتذة ومنهم مشرفه العلمي”دكتور حسن محمد الحديثي” الذي تقلد بعد اجتياح بغداد عمادة الكلية وكان خير معين و”الدكتور الأستاذ العزيز حسن محمود الحديثي” استاذ جغرافيا التنمية المكانية المخضرم في جامعة عدن وبفضله تعرفت على صديقي العزيز “الدكتور خالد بالخشر” الذي كان حينها يحضر أطروحة الدكتوراه في الأدب الانجليزي والترجمة في كلية الآداب بغداد وهو من أجمل الأصدقاء الذين عرفتهم والذي عرفني على نخبة متميزة من طلاب الدارسات العليا الحضرميين ومنهم : “الدكتور عبدالقادر باعيسى” و”الدكتور سعيد الجريري”، و”الدكتور باعبيدون” الذي سنحت لي الفرصة بحضور مناقشة أطروحته في جامعة البصرة وغيرهم من الزملاء الاعزاء الذين لا يتسع المقال لذكرهم والذين أحمل لهم بالغ المودة والتقدير. وحتى لا يفوتني -ههههه- أتذكر هنا بإنني ارسلت المئة دولار إلى العزيز “دكتور محمد الجوهي” من بغداد بمجرد استلامي أول منحة مالية مباشرة ارسلتها مع أحد الزملاء الاعزاء رغم كان أنه قد نساها كما أخبرني فيما بعد.

تواردت هذا الخواطر الحميمة إلى ذهني اليوم وأنا أنظر الى الطالب أحمد محمد سالم الجوهي وهو يحمل لوحة مشروع التخرج من قسم الفنون الجميلة بكليتنا الحبيبة، قال لي : عم قاسم هذه لوحتي، دافعت عنها اليوم ونجحت، وهذا خبر أسعدني كثيراً، إذ أعتبر أحمد بمقام أبني كما يعتبرني بمقام والده. وأنا أعرفه منذ كان طفلاً حينما زرتهم الى غيل باوزير.
قبل خمس سنوات كنت في المكلا بدعوة من مؤسسة الشباب الديمقراطي ورئيسها الشهيد البطل” سعيد محمد الدويل باراس”.
الف رحمة ونور تَغْشَاه في مثواه لتسيير ندوة فكرية تدريبية لنخبة ناشطة من شباب وشابات المجتمع المدني بعنوان: تنمية الوعي السياسي الديمقراطي عند النخب الشبابية. أقمت في فندق “هاي بلاس” قريب من خور المكلا، وحينما علم “الدكتور محمد الجوهي” بوجود في المكلا أرسل الي ولده أحمد ليصتحبني إلى دارهم العامر في غيل باوزير إذ أصر على استضافتي، جاء الشاب أحمد بسيارة هيلوكس وأثناء الطريق حدثني عن رغبته بالدراسة في قسم الفنون الجميلة جامعة عدن. كانت مفأجاة سارة بالنسبة لي إذ لم أكن أعرف أن هذا الشاب الخجول جدا الذي نادراً ما يتكلم وأن تكلم يهمس همساً! ولكنه كان يخفي في أعماقه موهبة فنية جديرة بالرعاية والأهتمام.
سألته: ماذا تريد أن تتعلم في قسم الفنون الجميلة؟ أجابني الفن التشكيلي وناولني ملف يحوي بعض الأعمال التي رسمها بريشته. فتحت الملف فوجدت لوحات فنية مرسوم بالقلم الرصاص للسيارة التي يسوقها، أدهشني بقدرته على رسم السيارة بعناية فائقة!
قال لي: أنا شغوف برسم السيارات منذ طفولتي، وأرجو أن تساعدني في إقناع والدي بالموافقة على رغبتي في دراسة الفن. فأعطاني جواله لأجد لوحات فنية رائعة لنماذج عديدة من السيارة التي رسمها، أثنيت عليه وشجعته وأكدت له بإنني سوف أبذل معه كل ما بوسعي في سبيل تحقيق رغبته.
لم نصل إلى غيل باوزير حتى أتفقنا على ضرورة تسجيله في قسم الفنون الجميلة بكلية الآداب.
هناك في وسط الغيل العامر ببساتين الليم، والنخيل كان دارهم يعج بالضيوف من أعيان الجوهيين الكرام الذين استقبلونا بحفاوة وغمرونا بلطفكم الكريم.
أمضينا ليلة طيبة وعدت من الغيل وملف الفنان الواعد أحمد الجوهي بيدي وما أن وصلت الى عدن حتى شرحت باجراءات تسجيله في القسم حينها كان رئيس القسم هو الفنان التشكلي محمد دائل الذي كانت مشرف عليه بأطروحة الدكتوراه في فلسفة الألوان. جاء الطالب أحمد الجوهي قبل أربع سنوات وانتظم في دراسة الفنون الجميلة.
وكنت اراهن على نجاحه وتميزه وشديد الحرص على أن لا يظلم بسبب أدبه الجم وبراءته البدوية الحضرمية النبيلة.
وعلى مدى أربع سنوات تكررت زياراتي إلى قسم الفنون الجميلة بالكلية للسؤال عن أحمد وتفقد أحواله.
وكنت أعود بإجابات إيجابية تبعث على الفخر والأعتزاز بطالب سيبان الخلوق الفنان، وهذا ما كنت أوافي به صديقي وأخي العزيز :دكتور محمد الجوهي” عن أخبار ولده الجامعية، إذ كان دائم السؤال عنه، مدفوعا بمشاعر الأب الحنون الذي يتمنى لابنه التفوق والازدهار. بالمناسبة كان الدكتور محمد والد الطالب الفنان أحمد خطاطا، وفنانا، تشكيلا، وراسم خرائط جغرافية من الطراز الرفيع. وربما كانت موهبة الأب التي لم تسنح لها الحياة القاسية فرصة النمو والازدهار قد وجدت في الابن البار خير خلف لخير سلف! وها هو أحمد الجوهي اليوم …
يحقق الحلم الذي طالما وقد راوده منذ طفولته.
أخيراً… صار الابن الذي كان يحيّر والده باهتماماته الغريبة برسم السيارات فناناً تشكيلياً يحمل شهادة أكاديمية من كلية الآداب جامعة عدن، بما يجعله يملأ السمع والبصر عند والديه وأسرته الكريمة وعندي أنا الذي أحببته مثل أولادي. وليس هناك ما هو أجمل من أن يتمكن الشاب من تحقيق حلمه ورغبته بنجاح، وتميّز يمكنه من الأفتخار بذاته أمام من يحبهم ويحبونه!

ألف مبارك عليك التخرج أحمد الجوهي. ..
وتمنياتي لك بالمزيد من التقدم والتفوق والازدهار في أكاديمية الفنون الجميلة وفِي انتظار لوحاتك الجميلة القادمة في الماجستير والدكتوراه.
ختاماً.. نقول مع فنان سيبان الواعد وداعاً للسيارات فقط هههههههه وأهلا وسهلا بالفن بما هو عليه من اتساع الأفاق وتنوع الأشكال وتعدد الألوان واللانهائية الأنوار والظلال.
ألف مبروك طلابنا الاعزاء وطالباتنا العزيزات الخريجين والخريجات من قسم الفنون الجميلة بكلتنا الحانية.

وهاكم لوحة الطالب أحمد محمد سالم الجوهي التي دافع عنها صباح اليوم أمام لجنة التحكيم، ونال بها شهادة التخرج بكالوريوس من قسم الفنون الجميلة بكلية الآداب جامعة عدن اليوم وبعض أعماله القديمة.