fbpx
يافع.. دولة الشعراء

يافع نيوز – كتب: عبد الخالق الحود

ما إن تيمم وجهك صعوداً باتجاه هضاب وجبال يافع الشماء، حتى تتبدى أمام ناظريك منازلها المرصوصة بطوابقها المتعددة كقطعة فسيفساء زينتها يدا فنان ماهر. ومنازل يافع، المبنية كلها من الحجر الأسود، تصلح، دون منافس، لأن تتصدر موقعاً بارزاً في متحف اللوفر بباريس؛ فبين كل طابق وطابق حزام أبيض ناصع، وأعلى سقف كل منزل يوزع البناؤون على أركانه الأربعة حجارة سوداء طويلة مدببة بارزة، قيل إنها جالبة للطاقة الإيجابية .

ما إن تحط قدميك المنهكتين من وعثاء السفر وطول الطريق على بساطها، حتى ينسيك مضيفوك العناء بشدة الترحاب وكم الحفاوة وكرم جُبِل عليه أهل يافع، لا يتصنعونه أبداً.

 

ولأهل هذه المنطقة الضاربة جذورها في عمق الأصالة والتراث مناسبات وأعياد ومهرجانات يتفردون بها عن سائر المدن والبلدات اليمنية. ففي كل عام، وتحديداً عقب عيد الأضحى المبارك، يقيم أبناء يافع مهرجاناتهم التراثية التي يتخللها «البرع»، وترديد الزوامل الشعرية، التي تختلف عن القصائد بكونها قصيرة وسهلة يمكن حفظها وترديدها من قبل الجميع مع سجع وروي يتناسب وقرع طبول رقصة «البرع»، وتحمل غالباً رسائل سياسية.

تبدأ فقرات المهرجان منذ ساعات الصباح الأولى، حيث يتحرك أبناء كل منطقة في طوابير طويلة باتجاه ميدان إقامة الإحتفال. يرافقهم راقصو «البرع» الذي يتحلقون بالقرب من قارع الطبل، سالكين طريقهم إلى الميدان، الذي غالباً ما تُلقى فيه قصائد شعرية بطابع سياسي واجتماعي، وقد يسبقها خطاب سياسي يبين موقف أهل يافع من التطورات السياسية في البلد، فيما يرفع المشاركون في المهرجانات التراثية في يافع علم دولة الجنوب السابقة وصور «شهداء» الحراك الجنوبي.

يافع «دولة الشعراء ” :
للشعر والشعراء بين جبال يافع الشاهقة وأوديتها المنسابة مكانة ووقع وحديث. فيافع ليست كأي منطقة أخرى، وأهلها لا يشابههم أحد. فميزتا النبل وصدق المنطق، المخلوط بقسوة الطرح، طبع يافعي بامتياز. واليافعي سريع الغضب والأوبة، والرجل منهم نسيج وحده، فهو الرجل نفسه في المواقف كلها.

وللحراك الجنوبي في نفوس أهل يافع مكانة لا يوازيه ولا يزاحمه فيها أحد. وعلى أرضها حلّ الزعيم الجنوبي، حسن أحمد باعوم، يوم كان مطارداً ومطلوباً. كما ظلت يافع، منذ انطلاقة «الحراك»، الملجأ الآمن للكثير من نشطائه وقياداته، ومنها استمد قوته.

 

تخزين استراتيجي :
مهرجانات يافع التراثية قصيرة، وفقراتها محدودة التوقيت؛ فـ«اليافعي» ملول بطبعه، قليل الصبر. وما إن ينفضّ المهرجان حتى يتفرّغ المشاركون فيه لشؤونهم الخاصة، وخواص القوم يتركز اهتمامهم بعدها على تأمين ما يوفر الراحة للضيوف القادمين من عدن وحضرموت والضالع وأبين، فهم غالباً من يتحمل تكلفة إطعام الزائرين، وبمشاركة آخرين من أبناء المنطقة أحياناً.

وأول ما يبرز في وجبة الغداء «الخبز اليافعي»، الذي يُصنع بطريقة خاصة متمايزة. فهو إذ يُخلط باللبن يُترك ليختمر مدة كافية، ثم يوضع في فرن من الطين توقَد نيرانه بواسطة أخشاب الأشجار المزروعة في جبال المنطقة. وبعد وجبة الغداء الدسمة المغطاة باللحم المقدد، يشرب الضيوف الشاي سريعاً، فيما يرتشفه بعضهم على الطريق باتجاه «مقيل القات».

و«مقايل القات» في يافع تختلف تماماً عن سواها في أي منطقة من اليمن. فهي – إن صح التوصيف – اجتماع طوعي طويل ممنهج، له طرائقه وتقاليده وأصوله. فعادة ما يتوافد الناس بعد وجبة الغداء مباشرة إلى منزل يشترط فيه أن يكون واسعاً وطويلاً. وقبل أي حديث أو نقاش رسمي لابد من رفع المعنويات برقصة «برع يافعي» لم تتغير حركاتها منذ مئات السنين، يشارك فيها من أراد. والجميع في يافع يجيدون «البرع» دون استثناء صغاراً وكباراً. وبعد وصلة «البرع»، طالت أم قصرت، لا بد من أن يحضر الشعر، ولما لا؟ فبين الشعر ويافع قصة وصحبة أبدية لم تنقطع.

يهدأ الجميع ليلقي شاعر أو أكثر قصيدة غالباً يحفظها عن ظهر قلب، وهي لا بد أن تكون مقفّاة وغير مكررة. ولضمان تفاعل الحضور، يدع الشاعر الحاضرين يكملون معه الكلمة الأخيرة في عجز البيت (الروي). وليافع شعراء ذاع صيتهم، وغالبهم ممن ساندوا «الحراك الجنوبي»، وألقوا قصائدهم الحماسية في مهرجاناته واجتماعاته، والتي كان لها بالغ الأثر في رفع معنويات نشطاء الحراك الجنوبي، وأبرز أولئك الشعراء السليماني وبن شجاع وداعس وأبو هند، وغيرهم كثير.

وما إن تستقر النفوس ويمتلئ المجلس بالحضور من مختلف الأطياف الإجتماعية صغاراً وكباراً، قادة وجنوداً، مشائخ ورعاة سياسيين، تجاراً أغنياء وفقراء، مغتربين وموظفين وعمالاً، حتى يبدأ الحديث، والطرح مكفول للجميع دون تمييز. تستهلّ الحديث غالباً شخصية سياسية هي من يتولى إدارة النقاش واختيار الموضوع المراد الحديث بشأنه في «مقيل القات»، ولا بد للحضور هنا من الإنصات والاستماع حتى يكمل المتحدث طرحه. وتستمر الجلسة مستحيلة حلقة نقاش منظمة لا تنتهي إلا بعد الإستماع إلى وجهات النظر المختلفة والمتنوعة، ولا تتم مقاطعة المشاركين خلالها إلا متى ما حاد أحدهم عن الأصول المتعارف عليها من منع السب أو التجريح.

 

على هامش المهرجان :
ومما يُستغرب له إهمال المدونين ورجال الفكر ورواد الثقافة لتدوين وقائع تلك المناسبات والمهرجانات، وتسجيل القصائد التي غالباً ما تُلقى بالسليقة، ولا تخرج عن الأغراض الثلاثة المعروفة: السياسة والمدح والغزل، إلا فيما شذ وندر.